قضايا وآراء

بماذا يبشّرنا زلزال كورونا المرعب؟

خلدون محمد
1300x600
1300x600

بصرف النطر عن الطريقة التي خرج بها فيروس "كورونا"، فإن مفاعيله المؤكدة حتى الآن ـ ونحن في المراحل الأولى ـ مهولة من ناحية "الخلخلة" والاهتزاز لأركان عالم ثورة الاتصالات، وعالم ما بعد انهيار نظام القطبين، الذي كان من أهم سماته التي سجلها العديد من العلماء والاستراتيجيين، الفوضى في العلاقات الدولية، وكأنه لم يكن ينقص تلك الفوضى سوى وباء كورونا الذي يذهب بها الى درجات قصوى من الخلخلة والاهتزاز. 

في الحقيقة أن ميزة التحولات الكبرى في التاريخ هي أنها كانت مقرونة بحدوث تحديات من هذا العيار. ونتذكر هنا، نظرية المؤرخ البريطاني أرنولد توينبي "التحدي والاستجابة"؛ في دراسته الموسوعية للتاريخ، والتي رأى فيها أن الحضارة الإنسانية تشكلت بناءً على مدى وشكل استجابة الإنسان وقدرته على التكيّف أو التحايل أو التغلب على التحديات العظمى القاهرة التي يواجهها، خصوصا إذا كانت تلك التحديات قد أخرجتها نواميس الطبيعة التي يبدو الإنسان إزاءها عاجزا أو مشلولا ومغلوبا على أمره.

 

يبدو أن الاستكبار كان دائما ما يحول بين المجرمين والآثمين وبين التماثل مع الحقيقة والنزول إليها. لذلك كان الفرعون ينكص عقب كل آية وتقع له ولقومه حالة من الاستعلاء المعنوي

 



ولست هنا في معرض تخيّل شكل استجابة المجتمعات الصناعية الحديثة على مثل هذا التحدي الناشئ الذي أعتقد أنه لن يطول بنا الزمن حتى يتم العثور على وسائل معالجته وإيقافه، لكن ما يعنيني هنا هو تلك الارتدادات والمضاعفات المتوقعة في زحزحة أركان أحوال قائمة ظن أصحابها أنها من الثبات والصلابة بمكان لا يمكن النيل منها. 

إن أهم ما تنطوي عليه نتائج أي تحدٍّ هو خاصية "الخلخلة"؛ خلخلة الوضع وإعادة ترتيبه، وهناك علاقة وثيقة بين القوانين التي تحكم الظواهر الكونية وتلك التي تحكم عالم الإنسان. 

ويلفت القرآن الكريم الأنظار الى أن هذه القوانين "الآيات" عندما تقع؛ فإنما تقع في الغالب كعقاب أخير يأتي في مواجهة النبي حامل الرسالة مع قومه الجاحدين العصاة: "فكلا أخذنا بذنبه فمنهم من أرسلنا عليه حاصبا ومنهم من أخذته الصيحة ومنهم من خسفنا به الأرض ومنهم من أغرقنا..." (العنكبوت/40).

هناك نموذج بليغ في التاريخ والحضارة تعرّض لعوامل الخلخلة والاهتزاز كمقدمة للإطاحة به. إنه نموذج "الفرعنة والفرعونية" الذي حدثنا عنه القرآن الكريم مطولا، رغم أن الحفريات الأثرية المتناسلة والمليئة بالإثارة لم تكشف لنا بعد بما يكفي من ملابسات وأسرار ما حدث من ملحمة ما بين النبي موسى وآياته الباهرة "الخلخلة"؛ وبين فرعون المتأله وملئه وسحرته، لكن القرآن الكريم يخبرنا عن "آيات مفصلات = السنن والقوانين"، والتي ستكون ممهدة لهزّ أركان حكم الفرعون على طريق نسف الفرعنة وعتوها وجبروتها: "فأرسلنا عليهم الطوفان والجراد والقمّل والضفادع والدم آيات مفصلات، فاستكبروا وكانوا قوما مجرمين". (الأعراف/133).

ولكن يبدو أن الاستكبار كان دائما ما يحول بين المجرمين والآثمين وبين التماثل مع الحقيقة والنزول إليها. لذلك كان الفرعون ينكص عقب كل آية وتقع له ولقومه حالة من الاستعلاء المعنوي: "فلما جاءهم موسى بآياتنا إذا هم منها يضحكون فلما كشفنا عنهم العذاب إذا هم ينكثون". (الزخرف/47،50).

وقد تتالت عليهم الآيات والنوازل بشكل متصاعد: "وما نريهم من آية إلا هي أكبر من أختها لعلهم يرجعون".(الزخرف/48).

غير أنهم لم يرجعوا بفعل استكبارهم واستخفافهم بالآيات، فمضوا إلى حتفهم في الآية الكبرى عندما انشق البحر ليطبق عليهم وتكون النهاية.

هنا يترك الخالق عبرة الفرعون وقومه لأجيال البشرية اللاحقة: "فاليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية وإن كثيرا من الناس عن آياتنا لغافلون". (يونس/92).

 

هذه الفوضى الحاصلة ونسختها الأخيرة كورونا المرعب، والتي نتوقع أن تتلوها نسخ وأحداث، إنما هي إرهاصات مخلخلة لأحوال معوجة كثيرة في الطريق إلى ميلاد كوني جديد.

 



نأتي بهذا الشاهد القرآني لندلل على أن حالة الفوضى في العلاقات الدولية التي زادت وتائرها واستحكمت في العقدين الأخيرين، وشهد العالم ومنطقتنا أيضا سقوط نظم ومعسكرات وأيديولوجيات، طويت معها الكثير من ملامح القرن العشرين، وهو ما زاد في حدة الفوضى الكونية.. لندلل على أن هذه الفوضى الحاصلة ونسختها الأخيرة كورونا المرعب، والتي نتوقع أن تتلوها نسخ وأحداث، إنما هي إرهاصات مخلخلة لأحوال معوجة كثيرة في الطريق إلى ميلاد كوني جديد. وهذا الأمر له علاقة صميمة من ناحية التداعيات والموازين الدولية بنا وبقضيتنا الفلسطينية، وبخلخلة كيان الظلم في الأرض المقدسة، ومن يشد على يديه في هذا العالم. 

ومع هذه الخلخلات يبدو أن أصحاب الرؤى التي بشّرت بزوال كيان الاحتلال قد حصلوا على دعم لوجهة نظرهم، إذ ماذا لو جاء بعد مدة في المدى المنظور الزلزال المئوي الكبير الذي يضرب فلسطين في العادة مرة كل مئة عام. ويمكن طبعا تخيّل الكثير والكثير من المتواليات. لكن ما هو مؤكد أن الظلم والقهر واللصوصية والاستبداد لها عمر محدد، وتواريخ صلاحية محددة "فلا تعجل عليهم إنما نعد لهم عدا". (مريم/84).

التعليقات (0)