ملفات وتقارير

هل تحتم "الذاكرة التاريخية" حربا بين تركيا واليونان قريبا؟

"السياسيون بحاجة لأدلجة التاريخ ولأساطير لها صدى في الواقع السياسي" سواء لمواراة الفشل أو لتبرير الصدام- يني شفق
"السياسيون بحاجة لأدلجة التاريخ ولأساطير لها صدى في الواقع السياسي" سواء لمواراة الفشل أو لتبرير الصدام- يني شفق

يشهد بحر إيجة غليانا غير مسبوق وسط حرب كلامية حادة بين ضفتيه، تطورت مؤخرا إلى تحركات عسكرية تنذر بصدام مباشر بالتزامن مع إعادة أنقرة فتح "آيا صوفيا" للصلاة، والمئوية الأولى للحرب اليونانية التركية، ما يطرح تساؤلات عن ما إذا كان تجددها تحتمه "الذاكرة المحتقنة" لدى الشعبين، أم أن للأمر أبعادا أخرى تدفع قادة البلدين لاستدعاء التاريخ.

واعتبر الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، في تصريحات السبت، أن مشكلة منتقدي بلاده، في إشارة إلى اليونان، لا تتعلق بـ"آيا صوفيا" أو الخلافات الحدودية البحرية، بل "بوجود الأتراك والمسلمين في هذه المنطقة" برمته.

وتقول أنقرة إن القوميين اليونانيين يؤمنون بأن أجزاء واسعة من تركيا، لا سيما إسطنبول والولايات الغربية المطلة على بحر إيجة، جزء من بلادهم "التاريخية"، وهو ما دفعهم إلى غزوها عام 1919 بدعم من قوى غربية، مستغلين ضعف الدولة العثمانية، مشعلين حربا استمرت أكثر من ثلاثة أعوام.

 

وتوقف القتال في تلك الحرب الطاحنة إثر "هدنة مودانيا" عام 1922، ما مهد توقيع "معاهدة لوزان" عام 1923، التي انتزعت حقوق تركيا بعشرات الجزر التي تبعت كيلومترات قليلة عن شواطئها.

واليوم، عادت تلك الجزر، فضلا عن قضايا قبرص وآيا صوفيا وغيرها، لتشكل محور صراع في إطار التجاذبات على الحقوق البحرية في إيجة والمتوسط، وسط حديث عن تحركات عسكرية من الجانبين، أوشكت بالفعل أن تؤدي إلى اقتتال مباشر الثلاثاء، لولا تدخل المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل لتخفيف التوتر، بحسب ما كشفته صحيفة "بيلد"، في تقرير اطلعت عليه "عربي21"، وأعقبه تأكيد برلين إجراء الاتصالات المشار إليها مع كل من أنقرة وأثينا، دون تفاصيل.

مستويات تاريخية ثلاث

ولتسليط الضوء على الاحتقان التاريخي و"حتمية الصدام" بين تركيا واليونان، تحدثت "عربي21" إلى الباحث في جامعة "باموق قلعة" التركية، محمد عثمانلي، الذي أشار إلى ثلاثة مستويات تاريخية تحضر بقوة في ذهنية شعبي البلدين.

وقال عثمانلي: "إن أول ما يخطر في ذهن اليوناني والتركي، كخلفية تاريخية، ثلاثة مشاهد واضحة، الأول من التاريخ الوسيط المتمثل بذلك الحصار الهائل لمدينة القسطنطينية الذي انتصر فيه المسلمون الأتراك على عاصمة المسيحية الشرقية ذات الثقافة اليونانية".

 

اقرأ أيضا: مخطط أمريكي لإنشاء قاعدة عسكرية بين تركيا واليونان

وأضاف: "المشهد الثاني هو من التاريخ الحديث، أي العلاقات العثمانية اليونانية المضطربة منذ استقلال اليونان عن البلاد العثمانية في العقد الثالث من القرن التاسع عشر، وذلك الاضراب كان ظاهرا في البلقان وجزيرتي قبرص وكريت في ذلك القرن".

وتابع بأن المشهد الثالث هو من التاريخ المعاصر، "والمرتبط بدرجة أساسية بحروب الاستقلال التركية التي قادها مؤسس الجمهورية مصطفى كمال أتاتورك".

عقدة ضعف وحاجة لـ"أسطورة"

وبشأن حضور بعد "الكراهية" لدى الجانب اليوناني إزاء تواجد المسلمين والأتراك على ضفاف بحري إيجة، والذي تحدث عنه أردوغان مؤخرا، أوضح "عثمانلي" أن ذلك "قد يكون نابعا عن عقدة الضعف والمشاكل الاقتصادية التي تعانيها أثينا، والشعور بغياب العدالة من أشقائها الأوروبيين"، في إشارة إلى الأزمة المالية التي عصفت بالبلاد خلال السنوات الماضية، وأدت إلى تنامي القومية.

وأضاف الباحث التركي أن قطاعا واسعا من اليونانيين باتوا "بحاجة إلى أسطرة بعض الأزمات لتبرير واقعهم".

ويبدو ذلك جليا في قبرص، بحسب "عثمانلي"، الذي أوضح أن سياسيين يروجون لنظرية أنها "يونان صغيرة قد تؤكل من قبل الأتراك"، بعد أن فشلوا في انتزاعها إثر تدخل أنقرة عام 1974.

لكنه استدرك بالقول: "على مستوى الذهنية الشعبية لا يوجد شيء حتمي بدون إجراء دراسات مسحية إحصائية، أما السياسيون فهم بحاجة لأدلجة التاريخ ولأساطير لها صدى في الواقع السياسي" سواء لمواراة الفشل أو لتبرير الخطوات الصدامية.

 

اقرأ أيضا: 46 عاما على عملية تركيا بقبرص.. شبح حرب بشرق المتوسط


مفارقة تركية بين "صفر مشاكل" والجذر القومي

وعلى الجانب السياسي التركي، لفت "عثمانلي" إلى مفارقة "غريبة"، حيث ورثت أنقرة من أتاتورك مساران مختلفان لدى كل منهما سرديته التاريخية الخاصة.

وأوضح أن المسار الأول يتمثل بمقولة أتاتورك الشهيرة: "سلام في الوطن سلام في الخارج"، والتي أحياها حزب العدالة والتنمية في بدايات حكمه عبر استراتيجية "صفر مشاكل"، لافتا إلى أنها تبرز في زمن النشاط الدبلوماسي والرخاء.

وتابع: "أما في زمن الشدة، فلا بد من ظهور الجذر القومي للدولة، والذي أسس أتاتورك له أيضا".

وختم بالقول إن "اليونان بحاجة كما سبقت الإشارة لأيديولوجيا سياسية تنفس احتقانها الداخلي، كذا ومسألة تجديد الصراع الذي تحتاج تركيا من حين لآخر إليه، وتضاف عوامل ذات خلفيات تاريخية مثل هيئة الزعيم السياسي والكاريزما الشعبية لكل من صورة اليوناني لدى التركي والعكس"، التي يتم أيضا إحياؤها وتوظيفها سياسيا، ما يرجح أن يكون الصراع "معادلة سياسية" داخلية وإقليمية ودولية أكثر من كونه "حتمية تاريخية".


 
التعليقات (0)