كتاب عربي 21

التطبيع ناجم عن تمييع القضية

جعفر عباس
1300x600
1300x600

خلال الهوجة الإعلامية التي أعقبت خروج العلاقات بين إسرائيل ودولة الإمارات العربية المتحدة إلى العلن، استوقفني أنه ما من دولة عربية استنكرت الأمر واحتجت عليه رسميا ببيان حاسم وصارم كما فعلت إيران، واستعدتُ الغضبة العربية المضرية التي كادت "تهتك حجاب الشمس وتمطر الدما" عندما وقع الرئيس المصري أنور السادات اتفاق سلام مع إسرائيل، بموجب ما صار يعرف باتفاقيات كامب ديفيد، حيث قطعت الدول العربية علاقاتها بمصر، ثم نقلت مقر الجامعة العربية من القاهرة إلى العاصمة التونسية، وانتزعت من مصر حق إسناد منصب أمين عام الجامعة العربية لمصري، فصار التونسي الشاذلي القليبي هو من شغل ذلك المنصب حينا من الدهر.

وشتان ما بين عهد السلام بين مصر وإسرائيل، والتوافق بين الإمارات وإسرائيل على "السلام"، فقد كانت هناك أراضٍ مصرية تحتلها إسرائيل ورمت اتفاقيات كامب ديفيد لردها إلى مصر، بينما لم تكن الإمارات في حالة حرب مع إسرائيل حتى يكون هناك حديث عن اتفاق سلام بينهما، وحقيقة الأمر أن جميع الدول الأعضاء في الجامعة العربية، ما عدا مصر والأردن في حالة حرب مع إسرائيل، ولكن على الورق فقط، وعليه يمكن الجزم بأن الإمارات خرجت إلى العلن بتطبيع العلاقات مع إسرائيل بدلا من أن تبقى غير معلنة كما تفعل الكثير من الدول العربية، ليس طلبا للسلام، بل إسهاما في حملة مساندة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب للبقاء في البيت الأبيض لولاية ثانية، وإلا لماذا تقرر أن يكون التوقيع على التوافق الجديد ـ القديم بين الطرفين في حفل ضخم في واشنطن برعاية ترامب؟

ثم كان ما كان من أمر تهليل رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو لما صرح به الناطق الرسمي باسم وزارة الخارجية السودانية، بأن التطبيع بين الخرطوم وتل أبيب وشيك وحتمي، ولا شك أن نتنياهو يدرك أن الأمور في السودان ليست "سائبة" بدرجة أن يتولى سفير من الدرجة الثانية (في التراتبية الدبلوماسية) إذاعة أمر كبير وخطير كهذا، ولكنه، وبدوره كان محتاجا إلى فرقعة تبعد عن الأذهان اتهامات الممارسات الفاسدة التي تلاحقه، وتصوير نفسه كالزعيم الفذ الذي مهد لكل ما قاله ذلك الدبلوماسي السوداني، بحكم أنه التقى بعبد الفتاح البرهان رئيس مجلس السيادة السوداني في يوغندا لبحث أمر تطبيع العلاقات بين البلدين.

 

يمكن الجزم بأن الإمارات خرجت إلى العلن بتطبيع العلاقات مع إسرائيل بدلا من أن تبقى غير معلنة كما تفعل الكثير من الدول العربية، ليس طلبا للسلام، بل إسهاما في حملة مساندة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب للبقاء في البيت الأبيض لولاية ثانية

 



بعد سويعات من تصريحه ذاك كان الناطق باسم الخارجية السودانية (حيدر بدوي صادق) قد طار من منصبه، وقبله تعرض البرهان لطوفان من الانتقادات بعضها جارح جدا على لقائه بنتنياهو، حتى قيل إنه هدد بفض شراكة العسكر والمدنيين التي تحكم البلاد عقب الثورة الشعبية التي أطاحت بنظام عمر البشير في نيسان (أبريل) من عام 2019.

وعلى المستوى الشعبي أيضا قوبلت تصريحات السفير بدوي بالاستنكار، ليس فقط رفضا للتطبيع مع إسرائيل، ولكن لأنه خالف أصول العمل الدبلوماسي وعبّر عن آرائه الشخصية مرتديا حُلة المنصب الرسمي؛ وأعلم أن كثيرين يقولون إنه لا يوجد دخان من غير نار، بمعنى أن بدوي ما كان ليقول ما قال، ما لم يكن وراء الأكمة ما وراءها، أي أن التطبيع مع إسرائيل مطروح في أجندة الحكومة الحالية، وفي هذا مجافاة صارخة للحقيقة، فهذه الحكومة غارقة حتى الأُذنين في جهود تطبيع العلاقات بين شعوب وقبائل السودان التي صارت تتناحر بالسلاح، وما فيها من مشكلات اقتصادية "تكفيها".

وأحسب أنني من أكثر الناس قربا ومعرفة بالسفير حيدر بدوي طوال ربع القرن الأخير، وأعرف أنه ينتمي لتنظيم سياسي ظل الاعتراف بإسرائيل واردا في تلافيف وتجاويف أدبياته دون أن يكون أمرا ذا أولوية، وأعرف أنه متى ما اقتنع شخصيا بأمر ما، فإنه يجاهر به ولو خالف ذلك الضوابط المتعارف عليها هنا أو هناك، وقد كلفه ذلك العديد من المناصب عبر السنين، وعليه فلا نار ينبعث منها الدخان وليس وراء الأكمة السودانية شيء مخفي.

ومع هذا فإن كرة الثلج التي تدحرجت مع اتفاق كامب ديفيد تواصل الاندفاع في الاتجاه الذي تشتهيه إسرائيل، وأسهمت في ذلك على نحو كبير القيادات الفلسطينية المتكلسة التي رضيت من الغنيمة بالمناصب، ومحمود عباس أبو مازن سعيد بلقب وظيفي افتراضي هو رئيس فلسطين، رغم أنه وبموجب الاتفاقيات التي بصم عليها فقط رئيس السلطة الفلسطينية، وهي سلطة أثبتت الوقائع أنها سلطة من "سلط يسلط فهو متسلط"، بدليل أن سجلها لا يحوي إنجازا واحدا في اتجاه تحقيق حلم إقامة الدولة الفلسطينية.

وهكذا كان منشأ الذريعة التي يتعلل بها الرسميون العرب للتقارب السري والعلني مع إسرائيل: "نريد ما تريده القيادة الفلسطينية" وبعبارة أخرى فهم يقولون إنه إذا كان رب البيت يميّع قضيته، فلا تثريب علينا إن مارسنا التمييع وصولا إلى التطبيع "فلسنا كاثوليكيين أكثر من البابا".

التعليقات (0)