قضايا وآراء

مصداقية مجلس الأمن ولامبالاة ترامب

صابر كل عنبري
1300x600
1300x600

كان تدمير الاتفاق النووي مع إيران حلما يراود الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، قبل وصوله إلى السلطة عام 2016، ليجعل ذلك أحد العناوين الرئيسة لحملته الانتخابية، إلى أن نفذ وعده بالانسحاب من الاتفاق بعد عام ونيف من توليه الرئاسة الأمريكية، يوم الثامن من أيار/ مايو 2018، ظانا أن ذلك سيؤدي إلى انهيار الاتفاق ويحقق حلمه بالقضاء عليه، لكن على أرض الواقع، ظل الاتفاق النووي قائما ومعه بقي جزء من الامتيازات التي حصلت عليها طهران بموجبه، رغم ترنحه الشديد ودخوله غرفة العناية الفائقة بفعل الانسحاب الأمريكي منه وتداعياته التي صفرت مكاسب إيران الاقتصادية منه.

 

خطة ترامب لتدمير الاتفاق النووي

وعليه، بعدما أخفق الرئيس الأمريكي في مجلس الأمن خلال الشهر الماضي في تمديد الحظر التسليحي على إيران، علم أن المانع الأساسي هو ذلك العدو اللدود، أي الاتفاق النووي، التراث الأهم لسلفه باراك أوباما، فقرر أخيرا في توقيت حساس له دلالات جمة في عدة سياقات، تدمير الاتفاق النووي للأبد.

ولتحقيق هذا الغرض، تقدمت الإدارة الأمريكية بطلب إلى مجلس الأمن يوم العشرين من الشهر الماضي، لتفعيل آلية "فض النزاع"، التي تنص عليها خطة العمل الشاملة المشتركة المبرمة بين إيران والمجموعة السداسية الدولية في 14 تموز (يوليو) 2015، والقرار الأممي المكمل لها، أي القرار 2231 الصادر في مجلس الأمن الدولي، بعد أقل من أسبوع على التوقيع على الخطة، لحل الخلافات بين الطرفين. 

والطرافة أن واشنطن المنسحبة من الاتفاق النووي عام 2018، عزت سبب تقديمها هذا الطلب لمجلس الأمن إلى ما وصفتها بانتهاكات إيران للاتفاق، وصاغت مبررات قانونية شاذة لتفسير خطوتها هذه، لكن الغالبية المطلقة لأعضاء المجلس (13 عضوا) بما فيهم أعضاء الاتفاق النووي الخمسة، أي الصين وروسيا وفرنسا وبريطانيا وألمانيا، رفضت جمعيا هذه المبررات، وأكدت أن الولايات المتحدة الأمريكية لانسحابها من الاتفاق النووي، لا يحق لها استخدام آلية "فض النزاع" وأن هذه الآلية تخص الدول الأعضاء المتبقية فيه. 

غير أن هذه المواقف لم تجد آذانا صاغية في البيت الأبيض، الذي يؤكد منذ أيام أنه بعد انتهاء شهر واحد من إخطاره مجلس الأمن ستحيى ستة قرارات أممية علقها القرار 2231 عقب التوصل إلى الاتفاق النووي، وهي المدة المنصوص عليها في القرار لتفعيل الآلية في حال لم تُحل الخلافات بين أطراف النزاع. 

والقرارات التي تتحدث واشنطن عن إحيائها، ترتبط بالعقوبات الأممية على البرنامجين النووي والصاروخي وأشخاص وكيانات مرتبطة بهما، واقتصاديا لا تتضمن بنودا مهمة حول الاقتصاد الإيراني الذي يواجه منذ عامين عقوبات أمريكية "تاريخية" لم يسبق أن تفرض على دولة أخرى. بالتالي، فإن هذه العقوبات اقتصاديا لا تضيف شيئا على العقوبات الاقتصادية الأمريكية، وأهميتها تنبع من قيود فرضتها على البرنامجين المذكورين، فضلا عن وضع هذه القرارات إيران تحت الفصل الأممي السابع.

 

إن ما يصبو إليه الرئيس الأمريكي لتدمير الاتفاق النووي عبر تفعيل آلية "فض النزاع"، لا يدمر هذا الاتفاق فحسب، وإنما يدمر مجلس الأمن نفسه، بكل ما تعنيه الكلمة من المعنى، حيث وضع المجلس أمام أزمة مصداقية على نحو غير مسبوق،

 



وغدا الأحد بعد انقضاء مدة شهر منتصف الليل، تُفعّل جميع تلك القرارات الستة، بحسب الرواية الأمريكية، لكن هنا قد يسأل سائل عن إمكانية ذلك في ظل المعارضة الواسعة داخل أروقة مجلس الأمن. 

في الإجابة يمكن القول إن الموضوع له طابع سياسي بامتياز، والمبررات التي قدمتها واشنطن لم تقنع إلا غيرها، واجهت أدلة قانونية دامغة لأعضاء الاتفاق النووي. لكن رغم ذلك، فالتجربة تشي بأن الأحادية الأمريكية على الأغلب ستكون هي النافذة هذه المرة أيضا، والتعددية الدولية ستخفق مرة أخرى في مجابهتها، وذلك لوجود عاملين: الأول أن واشنطن تسعى إلى إعادة تطبيق تلك القرارات المعلقة بأسلوب التهديد والوعيد الذي مارسته بعد انسحابها من الاتفاق النووي لإرغام المجتمع الدولي على الالتزام بعقوباتها على إيران، والعامل الثاني، أن أعضاء الاتفاق النووي رغم تسجيل معارضات قوية، لكنهم لم يقدموا على خطوة عملية في مواجهة الحراك الأمريكي لتفعيل آلية "سنب بك"، إلا اذا أرادوا الإعلان أنهم لن يلتزموا بالعقوبات الأممية، وسيواجهونها بأفعال، مثل الدخول في صفقات مع إيران، لكن يستبعد هذا الأمر لأسباب كثيرة، لا مجال لتناولها في هذا المقام.

 

سياقات الحراك الأمريكي ضد إيران
 
أما عن سياقات الحراك الأمريكي لتدمير الاتفاق النووي، فغير أنه يأتي في صلب سعي ترامب منذ سنوت لتحقيق حلمه هذا، لكنه أولا يرتبط بالحسابات الانتخابية للرئيس الأمريكي دونالد ترامب الذي أدخل إيران في صلب حملته الانتخابية، ساعيا إلى تسجيل نقاط في مواجهتها في هذه اللحظات الفارقة التي هو بحاجة إلى هذه النقاط على ضوء هشاشة موقعه الانتخابي أمام المرشح الديمقراطي جو بايدن.

وفي هذا السياق، لا يستبعد أن يذهب ترامب إلى الأبعد في ذلك، خلال الفترة القليلة المقبلة قبل حلول يوم الاستحقاق الانتخابي الأمريكي، من خلال الإقدام على خطوات خطيرة للغاية لإضفاء الطابع الأمني على المواجهة مع إيران، وفي الوقت نفسه، على الأجواء الانتخابية الأمريكية لخلط الأوراق الانتخابية لصالح نفسه. وفي الإطار، لعله أراد أن يمهد لهذه الخطوات عبر الترويج لقصة سعي إيران لاغتيال السفيرة الأمريكية في جنوب أفريقا، لانا ماركس المقربة منه، وتهديداته بشن هجوم عليها يكون "أقوى ألف مرة".

والسياق الثاني أن الإدارة الأمريكية تسعى إلى إعادة وضعية المواجهة مع إيران إلى مرحلة ما قبل الاتفاق النووي في العام 2015، لتأسيس مرحلة جديدة عبر تدويلها ووضعها في مواجهة أممية على أمل إرغامها على اتفاق شامل يلامس جميع الملفات المثارة معها وفق الشروط الأمريكية.

والسياق الثالث أن إسرائيل ودول أخرى في المنطقة، والتي عارضت منذ اللحظة الأولى الاتفاق النووي مع إيران، ربما تكون قد ضغطت على ترامب لإطلاق الرصاصة الأخيرة على الاتفاق النووي لتدميره نهائيا، لوجود مخاوف لديها من احتمال خسارته الانتخابات. وذلك بهدف وضع بايدن أمام واقع جديد فيما يتعلق بإيران لا يستطيع تجاوزه، في حال فوزه بالانتخابات. 

وأخيرا ما يمكن قوله إن ما يصبو إليه الرئيس الأمريكي لتدمير الاتفاق النووي عبر تفعيل آلية "فض النزاع"، لا يدمر هذا الاتفاق فحسب، وإنما يدمر مجلس الأمن نفسه، بكل ما تعنيه الكلمة من المعنى، حيث وضع المجلس أمام أزمة مصداقية على نحو غير مسبوق، لا يمكن إعادة الاعتبار إليه إلا بإنهاء الأحادية الأمريكية وهذا أيضا غير وارد في الوقت الراهن، فالولايات المتحدة رغم أنها لم تعد القوى العالمية الأولى، لكنها مازالت القوة العالمية الأكثر تأثيرا على السياسة الدولية ومعادلاتها، ما يشجعها على ممارسة هذه الأحادية ضد الأسرة الدولية كلها.

التعليقات (0)