كتاب عربي 21

حكايات من الخرابة

جمال الجمل
1300x600
1300x600
(1)
لا أحب البذاءة، لكن القليل منها يُصلح المعدة ويرحمها من الضغط العصبي، بل ويصبح ضرورة لمواجهة القبح والبغاء، ووسيلة إنسانية عاجلة للدفاع عن العقل والأخلاق، لهذا افتتح مقال اليوم بنكتة واقعية بذيئة تشبه المرحلة بسلاطينها ووزرائها وقناديلها التي تضيء كمصابيح اللصوص والداعرين في الخرابات التي يعرف بها الجميع.

(2)
تشاجر رجلان من سكان خرابة الأشلاء فارتفع الصياح والزيطة، كان الكل يعرف أن الطرفين يعملان في "أقدم مهنة"، لكن منافسات المصالح والأجر والحظوة تعارضت بين الداعرين، ما أدى إلى تصاعد الخلاف لدرجة انتقاد أحدهما للآخر علناً بأنه مكروه وفاشل و"طارد للزبائن"، رد الآخر ليذكره بأصله وفعله. واجتمع أهل السوء يعيبون على "سيئ منهم" أن يقول كلمة حق أو يتكلم كما يتكلم أعداء دولة الخرابة، وتصاعدت الأمور حتى وصلت إلى الكبير، فاستدعى المستخدم المقرب منه وسأله: إيه الحكاية.. بتتخانقوا ليه؟

قال: مش عاوزين نرهق سيادتك يا افندم.. همّا عارفين وأنا عارف.

قال الكبير بغضب: ما يصحش كده.. الحاجات دي تسيء لسمعة الخرابة، قول إيه اللي حصل وخلصنا.

كرر المستخدم إجابته: همّا عارفين وأنا عارف.

ابتسم الكبير وقال: انا كده اطمنت.. شكلها خناقة "شرابيط" وخلاص؟.. صحيح؟

قال المستخدم: همّا عارفين وأنا عارف وحضرتك عارف.

مغزى النكتة أن الكل يعرف ما يتصور البعض أنه أسرار، بل وأنهم يستخدمون نفس كلمات "أعداء الدولة" عند اختلافهم مع بعضهم البعض، هم يعرفون ونحن نعرف، الرجل الكبير يعرف والصغار يعرفون، الرجل المعين بالانتخاب والرجل المعين بالاختيار المباشر، المرأة التي تشكو للرئيس ما يفعلونه بها والمرأة التي تحيي الرئيس على ما يفعلونه بها.

والخلاصة، مش فارقة معاي.. مش قصة هاي.

(3)
في خناقة أمراء الطبلخانة مع أسامة، هيكل كرر الوزير حديث "إعلام التوجيهات" وأكد بلا تحفظ أو مداراة ما يكتب عنه المعارضون من ملاحظات عن رسائل موبايل السامسونج لإعلام الموالاة، وعن التعليمات العليا للعباسيين، وعن إملاءات النقيب أشرف الخولي، عصفورة المخابرات الحربية، وعن الرجل الخفي الذي يغذي الأبواق بما يريد ويشن الحروب ضد من يريد..

"ظاطت الدنيا"، وبعد "الظيطة" قال كثيرون: لا جديد فكل ما قيل معروف ومعلوم وقديم، لكنه جاء هذه المرة على لسان واحد منهم، على لسان واحد من قيادات الخرابة التي تتكلم فقط بما يملى عليها، وإذا خرجت عن النص تعرضت للفضح والتأديب. والفضح والتأديب في هذه الحالة ليس ثورة وليس معارضة وليس تصحيحا لمسار، لكنه تقليد قديم تلجأ إليه عادة المعلمة الكبيرة في "خمسة باب"، فتوجه أوامرها للبلطجية والقوادين بتأديب الفتاة التي تتجرأ وتتحدث عن الشرف أو كفاءة العمل أو تنتقد زميلاتها، ليتم تذكيرها وتذكير الجميع بأخلاق وأفعال الماخور، حتى لا تتسبب نوبات العطس بالحقيقة في هدم دولة الخرابة ونظامها.

(4)
الحال نفسه حدث مع بريد السيدة كلينتون: "زاطت الدنيا" وبعد "الزيطة" قال كثيرون: لا جديد، فكل ما قيل معروف ومعلوم وقديم، لكنه جاء هذه المرة.. إلخ.

يتشكك القارئ الذكي في الكاتب واهتمامه وحرصه على دقة التعبير، ويسأل نفسه: ظيطة أم زيطة؟.. لماذا هذا الازدواج المربك؟

(5)
قبل أن أجيب لا تنسى أن المقال بذيء، لكن بذاءته ليست "قلة أدب"، بل بذاءة رشيدة منقحة لها نظرة واقعية وتهدف إلى الكشف والجراحة معاً، وبما أن البذيء لا يجب أن يخشى شيئا في التعبير، أعترف بأنني أخطئ كثيراً في اللغة أثناء كتابة مقالي، وأشكر لهذا الموقع الصبور الذي أنشر فيه تحمله لأخطائي وتصحيحه لمعظمها، فالأخطاء اللغوية سهلة التدارك إذا كان النظام حريصا على التصحيح، المشكلة الأكبر ليست في أخطاء اللغة، بل في أخطاء المواقف والانحيازات، لأن اللصوص قد يستخدمون لغة الشرف أمهر من أصحاب الحق.

وبهذه المناسبة أشير إلى حجم الأخطاء اللغوية الفاحشة التي غرق فيها الإعلام المصري في السنوات الأخيرة، رغم حجم الإنفاق عليه وما يشاع عن تطويره. وبهذه المناسبة (أيضا) لا تعنيني الآن أخطاء الكتابة على السوشيال ميديا، لأن اهتمامي الأساسي يركز على نقد المؤسسات الرسمية والاحترافية قبل نقد الناس، فأخطاء الناس تابعة لأخطاء المؤسسات التعليمية والإعلامية. لكن جريمة الخطأ اللغوي تهون إذا وصلنا إلى جرائم الجهل والادعاء الكاذب وتنصيب البلداء في مناصب المعلمين.

وسوف أحكي لكم في الفقرة التالية مثالاً "تافها" و"مبتذلاً"، يعبر عن رداءة وحماقة واجتراء وتنطع الإعلام الرسمي الذي يحمي دولة الخرابة من الأعداء المتربصين بها.

(6)
نشرت صحيفة قومية كبرى خبراً تتهجم فيه على مديرة مدرسة لأنها كتبت في لوحة الإعلانات كلمة "تابور" بدلا من "طابور"، وكررت الفعلة الفاحشة ثلاث مرات، وخرجت الكتابة من حدود الخبر أو "القفشة"، إلى الزجر والتحريض على الإقالة والاتهام بتدمير العملية التعليمية في "وطن ضايع".

أتفهم مثل هذه الملاحظات المتسرعة على "السوشيال ميديا"، وأغفر للناس أخطاء اللغة طالما أن الهدف نزيه ويقصد الإصلاح، أما في المؤسسات الإعلامية الكبرى فإن هناك اقساما احترافية للتدقيق اللغوي، وأصغر عضو فيها يعرف أن كلمة "طابور" أعجمية دخلت العربية من التركية، وقد أقرت مجامع اللغة العربية كتابتها بالتاء أو الطاء بلا مشكلة، وهذا يحدث في كلمة "تابو" التي يكتبها آخرون "طابو" للتعبير عن المحظورات دون تنطع لغوي.

الطريف أن مشكلة: طابور بالتاء أو بالطاء أثيرت عشرات المرات وتحولت إلى قضية جدال انتهت في كل مرة إلى صحة كتابتها بالحرفين بلا تخطئة، لكن الموقع الإعلامي استغل جهله في التحريض وإثارة البلبلبة، وشن غارة على المجتمع ضمن حروب الجيل الرابع، ومع ذلك لا أحد يحاسب مثل هذه المؤسسة ولا أحد يتوقف ليصحح عمله، لكنهم يتبجحون ويتحدثون عن قدرتهم على الإصلاح الجريء للمجتمع كله!

(7)
قد تبدو قضية "طابور أم تابور؟" قضية تافهة إذا نظرنا إليها في حدود تحريض صحيفة قومية كبرى ضد مديرة مدرسة صغيرة، وإذا اكتفينا بتعليقات الناس التي يجرفها فيضان الإعلام الرسمي العابر للقضايا، لكن إذا اعتبرناها "نقطة دم" تكفي كعينة لفحص حالة النظام ومؤسساته، سنكتشف خرافة الإصلاح والتصحيح التي يروج لها النظام. فمن الواضح أن المعلمة لم تخطئ، بل أخطأت الصحيفة وكشفت عن جهلها وخطئها وتدني مستوى القائمين عليها، وهو ما يحدث بتوسع في المجال العام، حيث يظهر واضحا اعتياد "كائنات الخرابة" على فعل التحريض بحق أو بدون، وحيث يصل الجهل والخلط إلى أعلى المستويات فلا يعرف القادة الفرق بين الدولة والنظام، بين المجتمع وسلطة الحكم، وهو الجهل الأخطر الذي يجعل المخطئين يهاجمون المتخصصين والعارفين ويتهمونهم بارتكاب الأخطاء؛ لمجرد أن معرفتهم لا تناسب جهل القائمين بالحكم، والقادرين على التحريض والهجوم لمجرد أنهم يمتلكون سوطاً أو صوتاً.

(8)
بمناسبة يوم البذاءة أعترف بأنني أكتب هذه الفترة بمستوى رديء ومقتضب لا يعجبني، ربما لأن المساحة لا تسمح بالراحة وفيض الكتابة، وربما لأنني لا أشعر بالحرية في المرحلة كلها، لهذا أدخر عشرات المقالات التي لا تصلح في هذا المناخ الرديء، ومنها مقال عن لوثة التحديث الكاذب التي أصيب بها أو يتستر خلفها السيسي، لأن قضية "تابور أم طابور؟" تكشف عن خواء دعوة رأس النظام لتحديث الدولة وتطوير مؤسساتها، وإشادته بمعجزات بناء مصر بتخطيط عصري يستلزم هدم بيوت الناس المخالفة للقواعد، والمطالبة المتسرعة بتحديث الخطاب الديني، بينما الخطاب السياسي واللغوي يتعثر في ازدواجات وتناقضات من نوع "طابو أم تابور؟"، "زيطة أم ظيطة؟"، "شاويش أم رقيب؟"، بل إن الدولة التي تتجاسر على التحديث وتجديد الدين لم تستطع أن تتخلص من كلمة "أفندم" و"تمام أفندم"، بحيث يبدو الإرث التركي متغلغلا في بنية وكيان الدولة بدرجة لا تقل عن تسربها إلى لغة الشارع.

ولعل كلمة "طابور" واحدة من المداخل الرئيسية لفهم تحديات سؤال التحديث، خاصة وأن الكلمة ترتبط بمعنى الاصطفاف البشري والمادي الذي تدافع عنه السلطة العتيقة في مصر، برغم حديثها الديماجوجي عن التحديث والهوية.

كما أن أصل الكلمة يرتبط بالشأن العسكري وتنظيم الجيوش على الطريقة التركية، وهذا يعني أن السيسي كان عليه كضابط في مؤسسة عسكرية أن يبدأ بتحديث وتمصير المؤسسة التي ينتمي إليها، قبل أن يمد يده وتوجيهاته بتسرع وريبة في قضايا أكبر من وعيه ومن قدراته، فمعظم المصطلحات والقيم في جيش مصر حتى الآن تركية وأجنبية عموما.

وإذا كنت متنطعاً أو مبالغاً في هذا التقدير، فليخبرني القائد الأعلى (مثلاً) عن معنى كلمة "أورنيك" أو "يمك" أو "أونباشي"، أو حتى معنى كلمة "هايكستب"، وليقل لي العسكري الغيور على جيشه ومقاتليه لماذا استمر اسم المعسكر الشهير على ذلك دون تمصير أو تغيير لأكثر من 75 عاماً، رغم أنه يحمل اسم ضابط أمريكي نكرة يدعى "راسل بنيامين هاكستب" قتل في المنطقة الغربية أثناء الحرب العالمية الثانية. وبالطبع لم يقدم ذلك "الهاكستب" لمصر ما قدمه إبراهيم الرفاعي ولا عبد المنعم رياض ولا سعد الشاذلي ولا عبد العاطي شرف، ولا شهداء مصر الكثيرون الذين دافعوا عن أرضها وكرامتها بدمائهم، ولم يتوقعوا أن يأتي على رأس البلاد من يصافح ويساير الأعداء الذين قتلوهم.

(9)
الخلاصة: مصر تعيش مرحلة انتصار الأكاذيب، حتى أن الخنفساء تحصل على لقب ملكة الجمال، والسلحفاة تربح سباقات الماراثون، والثعبان يحرس البيض، والإعلاميون العباسيون يتحدثون عن الشرف، والسيسي يتحدث عن الإصلاح.

[email protected]
التعليقات (0)