قضايا وآراء

البوطي.. انتقاداته ومآخذُه على العمل الدّعوي والتّربويّ عند الإخوان المسلمين

محمد خير موسى
1300x600
1300x600

في نهاية السّبعينيات من القرن الماضي بدأت المعركة بين الدّكتور البوطي وجماعة الإخوان المسلمين تأخذ منحى المفاصلة والشّدّة، فكان لا يوفّر مناسبةً ليوجّه انتقاداته إليهم في عملهم الدّعوي أو السّياسيّ، سواء في كتبه أو في دروسه العامّة أو مجالسه الخاصّة. ويمكن إجمال انتقاداته ومآخذه على عمل جماعة الإخوان المسلمين في الحقل الدّعويّ والتّربويّ في النّقاط الآتية:

• تشويه معنى الدّعوة واختزاله بالعمل الحركيّ التّنظيميّ

من أهمّ ما ينتقده الدّكتور البوطي على الإخوان المسلمين حرفهم للدّعوة إلى الله تعالى عن معناها الواسع، وقصرها على أنشطتهم الحركيّة واختزالُها في العمل التّنظيميّ بشكلٍ يهمل المجتمع والتّائهين فيه عن صراط الله تعالى، بل يحمّلهم من خلال هذا الاختزال مسؤوليّة تغلغل الشّبهات والانحرافات الفكريّة والسّلوكيّة في أوساط المجتمع الذين يغفلون عن ممارسة الدّعوة بمعناها الحقيقيّ فيه.

وفي أكثر من موضع من كتبه يؤكّد على هذه الفكرة وهو يهاجم الإخوان المسلمين، ومن ذلك ما يقوله في كتابه "الجهاد في الإسلام كيف نفهمه وكيف نمارسه؟":

 

 

كان لا يوفّر مناسبةً ليوجّه انتقاداته إليهم في عملهم الدّعوي أو السّياسيّ، سواء في كتبه أو في دروسه العامّة أو مجالسه الخاصّة

"إنّ الدّعوة التي يفهمها ويمارسها أكثر الجماعات الإسلاميّة اليوم ليست أكثر من أنشطة تدور حصراً بين أفرادها أنفسهم.

وتتمثّل هذه الأنشطة كما هو معروف في مناقشات تدور بينهم حول المستجدّ من أوضاع المسلمين والمشكلات التي تطوف بهم أو التي يعانون منها، وفي تحليل وتقويم واقع الحكومات والأنظمة القائمة في بلادهم خاصّة أو في البلاد الإسلاميّة عامّة، ثمّ في رسم الخطط التي تتكفّل بترسيخ وجودٍ أفضل وأكثر قوّة، على طريق السّعي إلى مناطق الحكم والنّفوذ، ثمّ في التّحرّك التّعاوني المنظّم لتنفيذ هذه الخطط بالسّبل المتنوّعة الممكنة.

ذلك هو - باختصار - حجم الأنشطة التي يمارسها أكثر من يسمّون أنفسهم بالإسلاميّين أو الجماعات الإسلاميّة، والتي يطلق عليها اسم العمل الحركي، ثمّ تدخل بمفهومهم في مصطلح الدّعوة الإسلاميّة!

إنّنا لا نقوّم هذا العمل هنا بسلبٍ ولا إيجاب، بل ربّما كان عملاً مفيداً بحدّ ذاته، ولكن هل هذه هي الدّعوة التي أمر الله عزّ وجلّ بها في قوله عزّ وجلّ: "ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ واًلْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجاًدِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ" (النّحل: 125)، والتي عناها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بقوله: "لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خيرٌ لك ممّا طلعت عليه الشّمس أو غربت"؟

أين هو الدّاعي المرشدُ والمدعو التّائه في سلسلة الأنشطة الحركيّة؟

أين هو أثر هذه الطّريقة من الدّعوة على التّائهين والجانحين والفاسقين والواقعين في شباك محترفي الغزو الفكري، وما أكثرهم في كلّ صعيد؟

إنك لتنظر فترى أنّ برزخاً كبيراً يفصل بين تلك الجماعات التي تنشط نشاطها الحركيّ الذي أوضحناه، وهذا الخليط من التّائهين والجانحين والجاهلين، ليس بين هؤلاء وأولئك أيّ تلاقٍ على صعيد دعوة أو نقاشٍ أو حوار، بل بوسعك أن ترى بدلاً من ذلك فئاتٍ شتّى من أصحاب المذاهب والأفكار الهدّامة يتغلغلون بين خليط هؤلاء التّائهين والجهّال، يلحقون بهم إلى قراهم النّائية - ربّما - أو إلى أماكنهم المستوعرة، فيجلسون إليهم ويؤانسونهم ثمّ يبثّون في أفكارهم عوامل الشّبهات والرّيبة، ثمّ يسعون إلى إحلال أفكارهم ومذاهبهم الباطلة محلّ قناعاتهم الدّينيّة التّقليديّة، وذلك بأساليب شتّى من الحوار والنّقاش.

كلّ هذا، في حين أنّ الإسلاميّين أو الجماعات الإسلاميّة منصرفون إلى أنشطتهم الحركيّة الخاصّة بهم والدّائرة فيما بينهم، ومع ذلك فهم عند أنفسهم وقناعاتهم يمثّلون طليعة الدّعاة إلى الله تعالى من خلال هذا العمل الحركيّ!

وليكن واضحاً أنّني لست أعني ببيان هذه الحقيقة التّهوين من أنشطة هذه الجماعات، كما أنّي لست الآن بصدد تقويمها وبيان مدى أهميّتها، وأكرّر القول بأنّها ربّما كانت مفيدة بل ضروريّة.

لكن الذي أعنيه أنّ هذه الأنشطة الحركيّة شيء، والدّعوة إلى الله التي هي القاعدة العريضة الأولى للجهادِ شيءٌ آخر، فلا يجوز إطلاق اسم أحدهما على الآخر.

بل ممّا لا شكّ فيه أنّه مهما كانت الأعمال التي ينهض بها هؤلاء الإسلاميّون صالحةً ومفيدةً، فإنّها لا تقوم مقام واجب تعريف النّاس بالإسلام ودعوتهم إليه قطّ، كما أنّ من الخطأ تسمية هذه الأعمال الذّاتيّة دعوة إلى الله تعالى" (انتهى كلام البوطي).

ويمكننا القول: إنّ الدّكتور البوطي ألقى الضّوء على جزءٍ من الصّورةٍ عند جماعة الإخوان وعمّم هذا الجزء على سلوك الجماعة الدّعويّ، مغفِلاً ونافياً من حيث النّتيجة الدّور الدّعويّ الذي اضطلعت به جماعة الإخوان المسلمين في مختلف البلدان، ومنها سوريا، في العمل الدّعويّ خارج الإطار الحركيّ والتّنظيميّ في مرحلة ما قبل الصّدام مع نظام الأسد. فمما يحسب لجماعة الإخوان أنّها كانت العنوان الأبرز لإخراج العمل الدّعويّ إلى الواقع المجتمعيّ وعدم حصره في الحالة المسجديّة، فهم كانوا الأسبق في نقل الدّعوة إلى ساحة المؤسّسات التعليميّة من رياض الأطفال والمدارس الخاصّة وباحات الجامعات، بل إنّهم كانوا أصحاب الرّيادة في تأسيس كليّة الشّريعة التي أسّسها الدّكتور مصطفى السّباعي ومعه الدّكتور محمّد المبارك، إلى أن وقع الصّدام بينهم وبين نظام الأسد فكان من الطّبيعيّ أن تنسحب الجماعة من الميدان وتنكفئ على ذاتها.

 

 

 

ألقى الضّوء على جزءٍ من الصّورةٍ عند جماعة الإخوان وعمّم هذا الجزء على سلوك الجماعة الدّعويّ، مغفلاً ونافياً من حيث النّتيجة الدّور الدّعويّ الذي اضطلعت به جماعة الإخوان المسلمين في مختلف البلدان، ومنها سوريا، في العمل الدّعويّ خارج الإطار الحركيّ والتّنظيميّ في مرحلة ما قبل الصّدام مع نظام الأسد


وهذا مع التّأكيد على أنّ الدّكتور البوطي في انتقاده هذا قد أصاب في توصيف ما تسرّب إلى الكثير من التّنظيمات الإخوانيّة في مختلف الأقطار، وليس التّنظيم السّوريّ، فقط في مرحلة ما بعد التّسعينيات، وهو يحتاج من الجماعة الوقوف عليه وقفة تقييم ومراجعة في المنهج والأداء الدّعويّ.

• إهمال العبادة لصالح العمل الحركيّ والتّنظيميّ

كان الدّكتور البوطي في مجالسه ودروسه عند الحديث عن الإخوان المسلمين كثير التّأكيد على إهمالهم للجانب التّعبّدي، فقد سمعت منه مباشرة في أكثر من مجلسٍ خاصٍ ودرسٍ عام أنّ هناك تشويهاً حلّ بمفهوم العبوديّة والعبادة عند جماعة الإخوان المسلمين، فتراهم يقدّمون أعمالهم الحركيّة التّنظيميّة على العبادات من صلاة وذكرٍ وقراءة للقرآن بحجّة أنّهم بتلك الأعمال منغمسون في العبادة.

ومن الأمثلة التي يذكرها الدّكتور البوطي في هذا المجال، أنّ الإخوان المسلمين يكونون في اجتماعٍ إداريّ أو نشاطٍ تنظيميّ فيحلّ وقتُ الصّلاة مثلاً فلا يجدون أدنى غضاضة في تأخير الصّلاة إلى آخر وقتها لأنّهم منشغلون بما يرونه عبادةً أيضاً، وذلك حتّى لا يقطعوا اجتماعهم أو نشاطهم، حتّى إذا بلغوا آخر الوقت قاموا سراعاً فأدّوا صلاتهم على عجلٍ ليغرقوا بعد ذلك في اجتماعهم أو نشاطهم الذي قدّموه على الصّلاة المكتوبة!

وكذلك نراه يتحدّث عن انكفائهم أيضاً عن مجالس الذّكر وحلقات التبتّل معلّلاً ذلك في كتابه "يغالطونك إذ يقولون" تحت عنوان "مجالس الذّكر تورّط في البدعة وملهاة عن العمل الإسلاميّ" فيقول:

"إنّهم يتصوّرون أنّ مجالس الذّكر من شأن العوام من النّاس، من شأن أولئك السّذّج الذين لم يتمرّسوا بمعرفة حقائق الإسلام، ولم ينهضوا ليرتفعوا إلى مستوى الإبداع العلميّ، والوقوف في مصاف الدّعوة إلى الله والمجاهدين لإقامة المجتمع الإسلاميّ، ولعلّ أحدهم يقول: إنّ وقتاً ينفقه أحدهم في مجلس ذكرٍ كان ينبغي أن ينفَق في عمل إسلاميّ علميّ، في عملٍ حركيّ، في شأن من شؤون الإسلام، في خدمةٍ لإقامة المجتمع الإسلاميّ".

ثمّ يقول: "وإنّي لأتأمّل حال كثيرٍ من هؤلاء الإخوة، فأراهم معرضين كلّ الإعراض عن سبيل التّبتّل، وعن واجب الاصطباغ بالعبوديّة الضّارعة لله عزّ وجلّ، تائهين عن مراقبة الله، غافلين عن ذكر الله وتذكّره!

أجدهم - ويا للعجب - مشغولين عن هذا كلّه بالإسلام، والحديث عن الإسلام، وعظمة الإسلام!

أنظر إلى مجتمعاتنا الإسلاميّة فأراها تعجّ بالحركات والأنشطة الإسلاميّة، وألتفتُ إلى محاريب ذكر الله؛ فإذا هي خاويةٌ منسيّة من أكثر هؤلاء العاملين في الحقل الإسلاميّ".

بل إنّ الدّكتور البوطي يراهم يرفعون شعار "الرّسول إمامنا" دون أن يتمثّلوا به في عباداته القلبيّة والشّعائريّة؛ فيقول في كتابه "على طريق العودة إلى الإسلام":

"العبوديّة التي هي حال تكتنف مشاعر المسلم، والعبادة التي هي سلوكٌ منضبط تثمرها تلك الحال؛ لم أجد إلى اليوم من يحفل بهما من الإسلاميّين الذين يرقدون ويستيقظون على همّ المجتمع الإسلاميّ والتّفكير في إقامته.

فلئن كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم هو إمامهم المتَّبَع في مناهج الدّعوة ومسالكها، فما لهم لا يقتدون به في حال العبوديّة الملازمة له، وفي أعمال العبادة التي كانت ديدنه في ناشئة الليل والأسحار وفي البكور والآصال، ولقد كان ذلك شأن أصحابه وأتباعه وخلفائه من بعده؟!".

وكان الدّكتور البوطي يرى أنّ هذا الإهمال لجانب العبادة هو نهج الجماعة ورؤيتها، وليست مجرّد مواقف فرديّة يمكن أن يتلبّس بها بعض الأفراد منحرفين عن المنهج العام للجماعة.

 

البوطي يرى أنّ هذا الإهمال لجانب العبادة هو نهج الجماعة ورؤيتها، وليست مجرّد مواقف فرديّة يمكن أن يتلبّس بها بعض الأفراد منحرفين عن المنهج العام للجماعة

بل إنّه ينسب هذه القناعة أيضاً إلى والده ملاّ رمضان، على الرّغم من أنّ والده كان معروفاً بقربه وعلاقته الحميميّة مع عموم أبناء وقيادات جماعة الإخوان المسلمين، فيقول متحدّثاً عن أبيه في كتابه "هذا والدي":

"وكان يروي لنا أنّ شابّاً من العاملين في حقل أكبر جماعةٍ إسلاميّة، زاره مرّةً وقال له في عنجهيّةٍ ناقدة: إلى متى يا شيخنا تظلّون تدعون النّاس إلى الصّلاة وأداء العبادات؟

قال له: إلى أن نرى أنّ النّاس جميعاً قد استقاموا على ذلك كلّه.

ثمّ قال له: إنّ العبادات التي تستهين بها وتتبرّم من استمرارنا في التّذكير بها والدّعوة إليها، هي المرقاة الوحيدة إلى سائر الخيرات، وهي المفتاح الأوحد لحلّ سائر المشكلات، وتلك هي وظيفتنا التي أقامنا الله عليها وخلقنا من أجلها، فلا نزال نقوم على أدائها ونذكّر النّاس بها، حتّى يأتينا يقين الموت.

وبوسعك أن تتصوّر مدى اشمئزاز أبي من هذا النّقد المتعالي، إذا علمت أنّه الرّجل الأوّل بين علماء دمشق، في كثرة التّبتّل، وتذكير النّاس جميعاً بالإقبال على الله تعالى من هذا الطّريق، ومعالجة مشكلاتهم من هذا الباب، ثمّ إنّه كان يعلمُ أنّه ليس نقداً شخصيّاً آتياً من تصوّرٍ خاطئٍ لشخص، وإنّما كان يجزم بأنّه تعبيرٌ عن رؤية الجماعة ومنهجها".

بل وصل الأمر بالدّكتور البوطي إلى أن يستنتج أنّ حالة الصّفاء الرّوحي تتناقض مع الانتماء لجماعة الإخوان المسلمين والانخراط في صفوفها، فنراه بعد أن يتحدّث عن الدّكتور مصطفى السباعي في كتابه "شخصيّات استوقفتني"، وإعجابه البالغ بحالة الصّفاء الرّوحي والرّقّة القلبيّة التي كان يعاينها في شخص السّباعي؛ يقول: "ولستُ أدري، أكان إبان نشاطه الإخوانيّ متميّزاً بهذه الصّفات النّادرة، أم هي حالةٌ من الصّفاء أكرمه الله بها بعد ذلك".

• الاستعلاء التّنظيميّ

كان الدّكتور البوطي يرى أنّ جماعة الإخوان المسلمين تزرع في أبنائها وأتباعها نظرةً استعلائيّةً على بقيّة المسلمين لمجرّد انتمائهم هذا، فهم يرون أنّ المسلمين أقلّ قدراً منهم، وعليهم أن يكونوا لهم تبعاً في سلوكهم وأفكارهم، وقد عبّر الدّكتور البوطي عن هذا المعنى في أكثر من موضع من كتبه، ومن ذلك ما كان يتحدّث فيه عن قناعاته هو من خلال الحديث عن أبيه ملا رمضان في كتابه "هذا والدي" فيقول:

 

كان الدّكتور البوطي يرى أنّ جماعة الإخوان المسلمين تزرع في أبنائها وأتباعها نظرةً استعلائيّةً على بقيّة المسلمين لمجرّد انتمائهم هذا، فهم يرون أنّ المسلمين أقلّ قدراً منهم

"كان يرى رحمه الله أن أيّ نشاطٍ يرمي إلى اصطفاء فئةٍ من المسلمين من الجماعة الإسلاميّة الكبرى التي سمّاها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم (جماعة المسلمين) وتمتين الصّلة بها من دون بقيّة المسلمين، ويرمي إلى تغذية شبكة العلاقة بين أفرادها على حساب الأخوّة الإسلاميّة التي عقد الله رباطها وأوصى بتغذيتها ورعايتها، لا يكون في حقيقة دوافعه إلاّ استجابةً للأثرة المقيتة، ولكن في مظهرها الجماعيّ لا الفرديّ.

وكان يرى في شعارين تتعامل معهما كبرى الجماعات أو الأحزاب الإسلاميّة؛ أكبر شاهدٍ على ما يقول، أحدهما الشّعار القائل: "من لم يكن معنا فهو علينا"، والآخر الشّعار القائل: "من لم يكن منّا فهو مسلمٌ من الدّرجة الثّانية".

والغريب أنّ الدّكتور البوطي ساق هذين الشّعارين بطريقة توحي للقارئ أنّهما شعاران تعلنهما جماعة الإخوان في أدبياتها وكتبها أو تردّدها على ألسنة متحدّثيها، وهذا غير صحيحٍ البتّة، فالجماعة لا تورد مثل هذين الشّعارين في أيّ من كتبها أو على ألسنة أبنائها، وكان أولى بالدّكتور البوطي الإشارة إلى ذلك، وأنّه ربّما لمس ممارسة هذين الشّعارين من تعامل بعض أبناء الجماعة دون الحديث بصيغة توهم السّامع وتلبّسُ على القارئ.

كما أنّه يؤكّد على فكرته ونظرته هذه فيقول في كتاب "وهذه مشكلاتنا":

"ويظهر اليوم في السّاحة الإسلاميّة من يسمون بالإسلاميّين أو الجماعات الإسلاميّة، يضعون أنفسهم من عامّة النّاس موضع الصّحابة ممّن بعدهم، فهم النّموذج الذي ينبغي أن يقتدى به اليوم بعدهم، إذ هم طليعة رجال الدّعوة إلى الله، والقائمون بأمر الله، والمجاهدون في سبيله، والمنافحون عن حرماته.

والحقّ أنّ على عامّة المسلمين - في هذه الحال - أن يقتدوا بهم وينهجوا نهجهم، إذ هم الوارث للخصائص التي تميّز بها الصّحابة عمّن سواهم".

• مصدر أخطاء جماعة الإخوان المسلمين وانحرافاتها عند البوطي

يعزو الدّكتور البوطي ما أسماه "مأساة العمل الإسلامي" الذي تتلبّس به جماعة الإخوان المسلمين وانحرافها عن عملها الدّعويّ والتّربويّ إلى ثلاثة أسباب:

الأوّل: تقليد جماعة الإخوان المسلمين أتباعَ المذاهب والأنظمة الوضعيّة والماديّة.

الثّاني: الدّخول في معتركات السّياسة وسلوك الطرق الثّوريّة في التّغيير.

الثّالث: شهوة الوصول إلى الحكم.

ويعبّر عن هذا في كتابه "وهذه مشكلاتنا" فيقول:

"إنّ مصدرَ الأخطاء كلّها يتمثّل في العدوى التي سرت إلى الجماعات الإسلاميّة من واقع المذاهب والأنظمة الوضعيّة، والاتّجاهات السّياسيّة الثّوريّة التي يسلكها قادة هذه المذاهب ودعاتها، لفرض مذاهبهم وأنظمتهم على المجتمع".

ثمّ يقول في موضع آخر من الكتاب: "أجل، فقد نظر قادة هذه الجماعات إلى قادة الأحزاب والمذاهب الوضعيّة، ورأوا كيف يتّجهون إلى كراسي الحكم عن طريق الدّخول في المعتركات السّياسيّة، أو اقتحام الطّرق الثّوريّة، وما هي إلاّ بضع محاولاتٍ على هذه السّاحة أو تلك، وإذا هم متربّعون على عروش الحكم، وإذا بأنظمتهم وأفكارهم تنبسط في المجتمع دون أيّ مشاغبٍ أو معارض!

فما هو إلاّ أن استهوتهم ـ أي استهوت الإسلاميّين ـ هذه السّرعة الخاطفة في نجاح تلك المنظّمات أو الأحزاب في فرض سلطانهم، ومن ثمّ فرض أفكارهم وأنظمتهم على النّاس.

وأخذت العدوى تفعل فعلها في أفكارهم، بل في نفوسهم، لماذا لا نسلك مسالك هؤلاء النّاس؟ إنّهم يحملون إلى النّاس أفكاراً وأنظمةً بشريّةً تافهة، ونحن نحمل إليهم الإسلام، ألسنا أولى منهم بالتّوجّه إلى كراسي الحكم والتّحكّم بمقاليده؟!".

ثمّ ينتهي الدّكتور البوطي إلى القول: "وهكذا تحوّل هؤلاء الذين عرّفوا النّاس على أنفسهم دعاةً إلى الله وخدّاماً لدين الله إلى طلّاب حكم ينتجعونه في ساحة العمل السّياسيّ أو يطرقون أبوابه من خلال المغامرات الثّوريّة، وبوسعك أن تتبيّن عندئذٍ سلسلة الأخطاء والانحرافات الفرعيّة التي لا بدّ من الوقوع فيها نتيجة هذا الخطأ الكبير القتّال".

• ملحوظات على منهجيّة الدّكتور البوطي في انتقاداته

وبعد استعراض انتقادات الدّكتور البوطي للعمل الدّعويّ والتّربويّ لجماعة الإخوان المسلمين، نجد أنّ السّمة الأبرز في انتقاداته هذه هي مخالفته الصّريحة لمنهجه الذي يعلن دوماً التزامه به في التّقييم. ففي الوقت الذي ينكر فيه على التيّارات والجماعات الصوفيّة أخطاءهم وسلوكيّاتهم وأفعالهم التي يراها مخالفةً للشريعة، فإنّه لا يفتأ يؤكّدُ على صلاحهم وصدقهم وحبّهم العميق لرسول الله صلى الله عليه وسلّم. ولم تحُل المحرّمات التي يتلبّسون بها والتي ينكرها عليهم في العديد من كتبه ودروسه من محبّته لهم وقربه منهم ومدحهم في كلّ موطن، فهو الذي يؤكّد على أنّ هذه السلوكيّات الباطلة لا تغيّر أبداً يقينه بصلاحهم وصفاء نيّاتهم، كما أنّها لا يجوز أن تكون سبباً في الحكم السلبيّ على منهج التصوّف بعمومه، فلا يجوز نقض التوجّه الصّوفي بسبب أخطاء أبنائه.

 

يطبّق رؤيته هذه على جماعة الإخوان المسلمين إذ تشتغل بالسّياسة؛ فيراها تنسحب من دائرة العبادة والعبوديّة والتّبتُّل، لكنّه يطبّق نقيضها على حافظ الأسد الذي كان يراه عابداً متبتّلاً منغمساً بالعبوديّة، ولم تفعل السّياسة بقلبه وسلوكه وعباداته وعبوديّته فعلها

غير أنّه في حكمه على العمل الدّعوي والتربوي عند جماعة الإخوان المسلمين يأخذ عدداً من سلوكيّات أفراد الجماعة ويعمّمها على جميع أبناء الجماعة، ثمّ يحكم من خلالها بطريق الجزم على رؤية الجماعة ومنهجها وتوجهاتها، وهذا يناقض منهجه الذي ألزم هو نفسه به.

كما أنّه ينطلق في تعليل انتقاداته على عمل جماعة الإخوان المسلمين الدّعوي والتّربوي من قناعته المتمثّلة في أنّ الانخراط في العمل السّياسيّ يُفقدُ المشتغلين بالسّياسة رقّتهم وروحانيّاتهم والكثير من مظاهر العبوديّة، غير أنّه يقع في التّناقض المنهجيّ هنا أيضاً فهو يطبّق رؤيته هذه على جماعة الإخوان المسلمين إذ تشتغل بالسّياسة؛ فيراها تنسحب من دائرة العبادة والعبوديّة والتّبتُّل، لكنّه يطبّق نقيضها على حافظ الأسد الذي كان يراه عابداً متبتّلاً منغمساً بالعبوديّة، ولم تفعل السّياسة بقلبه وسلوكه وعباداته وعبوديّته فعلها.

وبعدَ انتقادات الدّكتور البوطي للعمل الدّعوي والتّربوي عند جماعة الإخوان المسلمين، لا بدّ من وقفة مع انتقاداته لعمل الإخوان المسلمين في المجال السّياسي وعلاقتهم مع الأنظمة الحاكمة، وهذا ما نتوقّف معه - بإذن الله تعالى - في المقال القادم.

twitter.com/muhammadkhm

 

التعليقات (0)