كتاب عربي 21

الديون مقابل التطبيع: التطبيع المغربي وتونس

طارق الكحلاوي
1300x600
1300x600

لم يكن إعلان التطبيع مفاجئا لأي متابع مدقق في الشأن المغربي، فهناك أصول تاريخية للتطبيع المغربي سنتحدث عنها لاحقا. لكن، بالنسبة لنا في تونس، يضعنا التطبيع المغربي في "مهب رياح" قوية. أمامنا صيغة من اثنتين: إما الاحتماء تماما بالجزائر وتجنب التطبيع أكثر ما أمكن، أو مواجهة إغراءات مختلفة، ولكن أيضا ضغوط من قبل "الدول المانحة"، خاصة أن الوضع الاقتصادي هش للغاية. وعموما مثلما كانت هناك صفقة مغربية في التطبيع (التطبيع مقابل الصحراء)، فإننا إزاء سيناريو صفقة تونسية سيتم عرضها من قبل "المانحين" الغربيين على الطرف التونسي (التطبيع مقابل الديون).

الأصول التاريخية للتطبيع المغربي قوية وثابتة وتم عرضها بالتفصيل في كتاب مايكل لاسكيار "إسرائيل وبلاد المغرب: من إقامة الدولة إلى أوسلو" (Israel and the Maghreb: From Statehood to Oslo)، ونجد فيه عرضا مفصلا من الأرشيف الإسرائيلي للتطبيع في تاريخ المملكة المغربية. فقد اتخذت العلاقة بعدا أكبر بكثير بعد الاستقلال؛ تجاوز التنسيق الدولي ليصبح فيه الدور الإسرائيلي في المعادلة السياسية الداخلية للمغرب أكبر من أي قُطر مغربي آخر، وتجسد في الدور الإسرائيلي في اغتيال المهدي بن بركة. هذه العلاقة الخاصة جعلت من الإسرائيليين منخرطين مباشرة في مسألة الصراع على السلطة في المغرب، من خلال محاولة دعم المعارضة المغربية في مرحلة أولى، ثم العمل على التخلص منها في مرحلة لاحقة.

اتخذت العلاقة بعدا أكبر بكثير بعد الاستقلال؛ تجاوز التنسيق الدولي ليصبح فيه الدور الإسرائيلي في المعادلة السياسية الداخلية للمغرب أكبر من أي قُطر مغربي آخر، وتجسد في الدور الإسرائيلي في اغتيال المهدي بن بركة

المرحلة الأولى اتسمت باستعداد للقاء والتحاور، وهو ما تجسد في لقاء بن بركة بممثل سام إسرائيلي (وكان حسب الوثائق ضابطا كبيرا في الموساد)، وذلك في شهر آذار/ مارس 1960، حيث طالب الإسرائيليون على وجه الخصوص باستعادة الاتصالات بين إسرائيل والمغرب في ظل الحكومة التي كان يسيطر عليها أنصار بن بركة. 

وقد قام الإسرائيليون في هذه المرحلة باللعب على حبلي المعارضة والسلطة، حيث تشير الوثائق إلى سماح وزير الخارجية الإسرائيلي لمدير المكتب السياسي لـ"المؤتمر اليهودي العالمي" الكس يسترمن؛ بالذهاب في آب/ أغسطس 1960 إلى الرباط للقاء ولي العهد المغربي ورئيس الحكومة آنذاك، الحسن الثاني، حيث قدم له نفس قائمة المطالب الإسرائيلية التي تم عرضها على بن بركة في اجتماع آذار/ مارس.

ويبدو أن هذه السياسة الإسرائيلية المزدوجة أثرت على أي إمكانية لانحياز إسرائيلي واضح لأي من الطرفين، وهو على ما يبدو أدى إلى قرار بن بركة بالتخلي عن هذه العلاقة، خاصة في ظل الدعم المتزايد الذي بدأ يلمسه من قبل الحكومة الجزائرية. في المقابل، تطورت العلاقة بين المخزن المغربي والإسرائيليين خلال الستينيات، خاصة من خلال رجال أعمال مؤثرين في الساحة الدولية بالإضافة إلى الأثرياء من اليهود المغاربة، وهو ما كان منسجما مع طموحات العاهل المغربي لإقامة علاقات قوية مع الأوساط المالية الدولية. وقد تطورت العلاقات الأمنية بشكل متسارع بعد قيام الموساد بإشعار المقربين من ولي العهد آنذاك الحسن الثاني، في كانون الأول/ ديسمبر من سنة 1959 بتحضير المعارضة المغربية للوصول إلى السلطة. 

ويبدو أن علاقة الموساد بالجنرال أوفقير قد توثقت منذ تلك اللحظة، حيث تشير الوثائق الإسرائيلية إلى مساعدته شبكة الموساد في المغرب على استمرار عملية تهجير اليهود المغاربة. ولكن نقطة التحول الدراماتيكية في هذا التحالف الأمني/ المخابراتي غير المسبوق عربيا حدثت حسب الوثائق الإسرائيلية مع أواسط سنة 1963، عندما قام الجنرال أوفقير بالاتفاق مع الموساد في تدريب أعوان وضباط مغاربة من قبل ضباط إسرائيليين. وفي فترة قريبة من ذلك ولكن غير محددة حسب هذه الوثائق، ذهب الملك الحسن الثاني إلى حد القبول بوجود مكتب دائم للموساد على الأراضي المغربية. وقد أشرف هذا المكتب على الحفاظ على علاقة مستمرة بين الإسرائيليين والمخزن، وقام مثلا بترتيب زيارة إسحاق رابين للمغرب سنة 1976. كما قام المكتب بتنسيق الدعم العسكري الذي قدمه الإسرائيليون للمغرب خلال المواجهات مع الجيش الجزائري سنة 1963. وعموما، فإنه ضمن هذه المعادلة بالذات شاركت المخابرات الإسرائيلية في عملية اغتيال المهدي بن بركة، والتي لم تكن إلا نقطة في بحر من التنسيق الوثيق بين الطرفين.

رئيس الجمهورية المنتخب قيس سعيد بقوة تميز بمواقف واضحة ضد التطبيع (التطبيع خيانة عظمى)، إلا أن الوضع الاقتصادي كان دائما كعب أخيل الذي يتسرب منه مسار التطبيع

من جهة أخرى، نجد في نفس الكتاب ما سبق أن تعرضت إليه من أصول تاريخية للتطبيع التونسي. ورغم أن رئيس الجمهورية المنتخب قيس سعيد بقوة تميز بمواقف واضحة ضد التطبيع (التطبيع خيانة عظمى)، إلا أن الوضع الاقتصادي كان دائما كعب أخيل الذي يتسرب منه مسار التطبيع. مثلا، في شهر شباط/ فبراير 1956 وخلال المفاوضات الدائرة في فرنسا حول الاستقلال، التقى بورقيبة بالسفير الإسرائيلي بباريس ياكوف تسور (Yaakuf Tsur)، وبعد سماع الأخير ملاحظات عديدة لبورقيبة تتلخص في "كرهه" لعبد الناصر وسياسته في المنطقة، نصح السفير الإسرائيلي بورقيبة النصيحة التالية: إن عليه "ضمان دعم اليهود الأمريكيين للحصول على دعم اقتصادي أمريكي".

وبالإضافة إلى التعاون الاقتصادي المباشر بين الحكومتين والذي انطلق بشكل فعلي مع لقاء السفير الإسرائيلي تسور في 3 تشرين الأول/ أكتوبر 1956 مع وزير المالية التونسي، فإن أهم ثمار هذه العلاقة خاصة بالنسبة لتطوير العلاقات التونسية الأمريكية كان مع أواسط الستينيات. ففي أيار/ مايو 1965، أي بعد أقل من شهرين من خطاب أريحا الشهير وجولة بورقيبة المثيرة في المشرق العربي في آذار/ مارس 1965، سافر بورقيبة الابن والذي كان حينها وزيرا للخارجية في تونس وحامل أسرار أبيه؛ إلى واشنطن في زيارة هدفها طلب الدعم المالي الأمريكي. واستجابة لطلبه فقد طلبت وزارة الخارجية الأمريكية من إسرائيل التوسط للجانب التونسي مع حكومتي فرنسا وألمانيا الغربية للحصول على دعم مالي يقدر بـ20 مليون دولار، كما طلب الأمريكيون في نفس الإطار من إسرائيل شراء الخمور التونسية.

وتلاحظ الوثائق الإسرائيلية في هذا الإطار أن موافقتها على الاستجابة للمطالب الأمريكية كانت في إطار أملها في أن تساهم الحكومة التونسية في تشجيع حكومات عربية "معتدلة" أخرى من أجل "إفشال أو تخريب الجهود المصرية والسورية للوحدة العربية".

الواضح أيضا أن قيس سعيد يقوي بشكل مستمر مؤشرات تقاربه مع الطرف الجزائري الذي عبر علنا في تصريحات وزيره الأول جراد؛ عن تخوفه الكبير من "وجود إسرائيل على حدوده"

ومن البديهي أن ميزانية مثل ميزانية السنة المقبلة التي تم فيها التوسع في المديونية لتصل إلى 13 ألف مليار من المليمات التونسية، وجزء مهم منها مطلوب تحصيله من السوق الخارجية، يعني أن هناك مدخلا مجددا للسماح بالضغط على تونس بتوظيف ورقة المديونية من الأطراف الغربية، وهي "المانح" الرئيس لتونس لتمرير أجندة التطبيع.

ومن غير الواضح إن كان "الاحتماء" بجزائر لا تزال هشة سياسيا سيوفر هذا الغطاء، لكن من الواضح أيضا أن قيس سعيد يقوي بشكل مستمر مؤشرات تقاربه مع الطرف الجزائري الذي عبر علنا في تصريحات وزيره الأول جراد؛ عن تخوفه الكبير من "وجود إسرائيل على حدوده"، في أول موقف رسمي من خطوة التطبيع المغربي.

twitter.com/t_kahlaoui

التعليقات (0)