قضايا وآراء

وباء التطبيع أشد فتكا من وباء كورونا!

أميرة أبو الفتوح
1300x600
1300x600
غدا سوف يطوي عام 2020، أوراقه، ويرحل مسلّما ملفاته لعام جديد، لا نعرف أسراره، وما تخبئه لنا أيامه بين طياتها، وإن كانت إرهاصاتها تشير إلى استمرار الأزمات التي نشبت في العام المنصرم، وربما تتصاعد على جميع الأصعدة الإقليمية والدولية، لخلط الأوراق وإعادة ترتيبها من جديد، خاصة بعد رحيل "ترامب"، الذي ساهم بشكل فعال في نشوبها، وكان الوقود الذي يغذيها باستمرار كلما خفتت جذوتها..

عام 2020 ينتهي دون حل جذري للصراع في ليبيا، وخاصة بعد تعثر المفاوضات، فعلى الرغم من قرار وقف إطلاق النار، إلا أن الانقلابي "خليفة حفتر" هدد تركيا بشن حرب ضدها في ليبيا إذا لم تسحب قواتها. وبالطبع ليس هذا التهديد ببعيد عن فرنسا والإمارات اللتين تدعمانه، وتعاديان تركيا، وتشعران بمرارة الهزيمة لانتصار حكومة الوفاق المدعومة من تركيا، وسيطرتها على العاصمة "طرابلس" ومحيطها الغربي، وتريدان إخراج تركيا من ليبيا بشتى الوسائل. وربما وصول بايدن للبيت الأبيض، والذي لا يكن ودا للرئيس "أردوغان"، يدعم هذا التصعيد، ولكن دون اللجوء للحرب، لأنه يريد أيضا أن يحد من النفوذ الروسي في ليبيا، فربما يجد في تفاقم الأزمة الليبية الحل المناسب، لإيجاد صيغة توافقية لإخراج روسيا من مناطق نفوذ الولايات المتحدة، بعدما سمح لها "ترامب" أو غض الطرف عنها. وهذا بالقطع سيكون عبر تفاهمات أمريكية أوروبية مشتركة..

أما بالنسبة لليمن، فلا أعتقد أن العام الجديد سيشهد تغييرا كبيرا في المشهد اليمني، فولي عهد السعودية، الأمير المغرور "محمد بن سلمان"، قد غرق في المستنقع اليمني، منذ ما يقرب من ست سنوات، وهو الذي اعتبرها نزهة سريعة يعود بعدها مُحملا بالغنائم والعطايا، ويظهر أمام شعبه في صورة البطل المغوار. ولذلك لا يريد أن ينسحب ويظهر في صورة المهزوم، فهو في وضع كارثي، أشبه بوضع أمريكا في أفغانستان، حيث لا يمكنه الانسحاب وفي الوقت ذاته يستحيل عليه البقاء، وكل طموحه الآن ينصب على إيجاد حل توافقي تساهم فيه الدول الإقليمية والغربية، كي لا يريق ماء وجهه، خاصة بعدما تخلى عنه مَن ورطه في هذا المستنقع، ولي العهد الإماراتي "محمد بن زايد"، وتركه وحيدا يلاطم الأمواج العاتية، ليتلقى ضربات الحوثيين الموجعة والتي وصلت إلى عمق بلاده، بينما ينعم ابن زايد بجنوب اليمن وموانئ عدن التي أصبحت تحت سيطرة الموالين له..

* * *
لقد ابتلانا الله هذا العام بوباء "كورونا"، وابتلانا حكام العرب الصهاينة، بوباء "التطبيع" مع العدو الصهيوني، وهو أشد فتكاً من وباء "كورونا"، فهذا الوباء يصيب أشخاصاً، ولكن وباء "التطبيع" يصيب أمة بأكملها، ويهدد حاضرها ويدمر مستقبلها

بعيداً عما حدث في ليبيا واليمن وسوريا من أحداث جسام، وما سيترتب عليها من تحضيرات دولية لهذه الدول الثلاث، عام 2021، يظل أهم حدثين شهدهما العالم في العام المنصرم، هما وباء "كورونا" ووباء "التطبيع"..

لقد ابتلانا الله هذا العام بوباء "كورونا"، وابتلانا حكام العرب الصهاينة، بوباء "التطبيع" مع العدو الصهيوني، وهو أشد فتكاً من وباء "كورونا"، فهذا الوباء يصيب أشخاصاً، ولكن وباء "التطبيع" يصيب أمة بأكملها، ويهدد حاضرها ويدمر مستقبلها..

لم يتعظ الحكام العرب من هذا الفيروس الذي لا يرى بالعين المجردة، بل تمادوا في طغيانهم واستبدادهم لشعوبهم، وذهبوا لأبعد من ذلك، فوضعوا أيديهم بأيدي أعداء الأمة، وتآمروا على فلسطين، قضية الأمة الإسلامية جمعاء، وليست قضية العرب فحسب.

بل الأدهى من ذلك أن انبرى البعض لتبرير تطبيع المغرب، والدفاع عن توقيعه معاهدة "العار" مع العدو الصهيوني، بأن المغرب دولة تقع في المغرب العربي، وفلسطين تقع في المشرق العربي، وهي قضية دول المشرق العربي حصريا، وليست قضية المغرب العربي! بل جنح البعض باعتبارها قضية خاصة بالفلسطينيين فقط، وهم فقط المخولون بالدفاع عنها دون غيرهم! هكذا قزّموا قضية الأمة، وأخرجوا أو "خلعوا" أنفسهم ببساطة منها، وتنصلوا من المسؤولية، وبرروا خيانتهم بمبررات واهية لا تنطلي على طفل صغير..

نسوا القدس ونسوا المسجد الأقصى، ثالث الحرمين الشريفين ومسرى ومعراج نبي الأمة، رسولنا الكريم محمد عليه الصلاة والسلام، وجعلوه فقط مسؤولية الفلسطينيين المقهورين داخل بلادهم التي اغتصبها الصهاينة ويلاقون منهم أشد أنواع العذاب ويذيقونهم الذل والهوان، يقتلونهم ويشردونهم والمطلوب منهم دون باقي المسلمين الدفاع عن مقدسات المسلمين!!

لم يقصّر الفلسطينيون يوما في أداء دورهم المنوط بهم، فهذا قدرهم، أن تواجدوا على هذه الأرض المقدسة، وأخلصوا في أداء واجبهم الديني والوطني، لقد قاتلوا الصهاينة، ودافعوا عن القدس والمسجد الأقصى، دافعوا عن كرامة الأمة وشرفها، ولم يبخلوا بالغالي والنفيس، وقدموا فلذات أكبادهم قربانا لهما، دفعوا الدم ضريبة خذلان الأمة وتقاعسها، وهوانها على أعدائها، فماذا قدمتم أنتم؟!

لم يكن الفلسطينيون يريدون منكم غير الدعم المعنوي، ولم يطلب منكم أحد حمل البندقية للدفاع عن الأقصى، ولكنكم بدلا من ذلك حوّلتم البوصلة، وجعلتم الكيان الصهيوني مقصدكم وقبلتكم، تتوددون إليه، وذهبتم لتضعوا أيديكم في أيدي مَن اغتصب القدس، لتشرعنوا الاغتصاب، وليستقوي بكم على الفلسطينيين ويُحكم سيطرته على القدس والأقصى. لم يكن الفلسطينيون يريدون منكم شيئا غير الكف عن أذاكم، والبعد عن شركم، وهذا أضعف الإيمان، حتى هذا بخلتم به عليهم!!

يزعمون أن التطبيع لن يضر القضية الفلسطينية، وتغافلوا عن أن هذا الكيان الصهيوني ما هو إلا مشروع استعماري غربي لإخضاع المنطقة كلها وتقسيمها والسيطرة علي دولها، فمن غير الطبيعي إقامة علاقات طبيعية معه، بسبب طبيعة المشروع الصهيوني وأهدافه التوسعية التي قد تشمل هذه الدول المطبّعة نفسها!

ومن دواعي السخرية أن يتوهم هؤلاء المطبعون، أن التطبيع سيجلب لهم المنافع ويحصدون منه المكاسب، ولهم أن يسألوا مَن طبّع قبلهم منذ عقود ووقعوا اتفاقيات سلام (مصر والأردن ومنظمة التحرير) عن المكاسب التي حصلوا عليها بعد اتفاقيات السلام المزعومة هذه!

حتى المغرب التي يبدو ظاهريا أنه حصل على مكسب مجز مقابل التطبيع، وهو اعتراف الولايات المتحدة بسيادتها على الصحراء الغربية، فذلك أيضا مكسب وهمي، فلا الاعتراف الأمريكي مضمون، ولا هو دائم مع إدارة أمريكية جديدة، والأهم انه ليس اعترافا دوليا أو أمميا مُلزما، كما أنه لا تجوز مساومة حق المغرب بالسيادة على الصحراء الغربية، بملف آخر، مثل التطبيع، مما يجعل الأمر تضليلا وتبريرا غير منطقي أكثر منه مكسبا حقيقيا حصل عليه..

والسودان الذي رُفعت عنه العقوبات ورُفع اسمه من قائمة الدول الداعمة للإرهاب، نظير تطبيعه مع الكيان الصهيوني، فهو ثمن بخس، في مقابل وصول دولة الاحتلال إلى منابع نهر النيل، والتحكم في دول حوض النيل، والسيطرة على منابع المياه، وتحقيق حلمها الكبير بـ"إسرائيل الكبرى"، من النيل إلى الفرات!!
لقد باع المطبعون العرب ودفعوا ثمنا لبيعهم أيضا، ولم يأخذوا مقابل بضاعتهم شيئا، وهذه سابقة في التاريخ، لم تسبقهم إليها أمم من ذي قبل!!


باختصار، لقد باع المطبعون العرب ودفعوا ثمنا لبيعهم أيضا، ولم يأخذوا مقابل بضاعتهم شيئا، وهذه سابقة في التاريخ، لم تسبقهم إليها أمم من ذي قبل!!

للأسف الشديد النظم العربية السلطوية لا تقرأ التاريخ، ولا تنظر إلى ما هو قادم، ولا يهمها شأن الأمة ومصلحتها، فلا يهمها شيء غير عروشها فقط، وثبات أركان حكمها السلطوي على شعوبها التي يحكمونها عنوة، بالحديد والنار، ويعيشون على الوهم بأن رضا أمريكا التي عينتهم وكلاء لها في المنطقة؛ ورضا الصهاينة كفيل بحفاظهم على عروشهم، وأن التقرب للكيان الصهيوني زلفاً هو الذي يحميهم ويدعمهم ضد شعوبهم..

ولأن هذه الأنظمة السلطوية لا تقيم وزنا لشعوبها، فقد مضت في سيرها سريعا بالتطبيع العلني والمجاهرة به، بعد أن كانت تقيمه في الخفاء، بعيدا عن أعين ومسامع شعوبها، وعقدت المعاهدات دون أخذ موافقة من شعوبها التي ترفض التطبيع، لأنها لا تعبأ مطلقا بمشاعر شعوبها أو غضبها.

 

ولكن هذه النظرة المتغطرسة المتعالية غفلت عن حقيقة هامة، وهي أن تلك الخطوات المسرعة في التطبيع، وهذا الفجور العلني في التعامل مع العدو الصهيوني، تحمل مخاطر كثيرة بالنسبة لهم، فهي ستزيد من الاحتقان والغضب الشعبي تجاه هذه الأنظمة السلطوية، والاستخفاف بتلك المشاعر والاستهانة بها يضيف مخزون الغضب الذي يتراكم لدى الشعوب العربية، والذي قد ينفجر في أي لحظة تتوافر لها الظروف الداخلية والخارجية.

بالطبع لن تنتفض الشعوب العربية دفاعا عن القضية الفلسطينية، مع أنها الأولى والأحق لأن تنتفض من أجلها، وما يمنعها عن ذلك إلا إنها شعوب مقهورة تحكمها أنظمة استبدادية، تمنعها من التظاهر من أجل فلسطين، لكنها تظل القضية الأولى للشعوب العربية، المحفوظة في الصدور، وتنتظر الفرصة لانطلاقها من بين ضلوعها، وحينما تنتفض وتثور ضد أنظمتها، لن تكون فلسطين غائبة عنها، كما حدث في ثورات الربيع العربي، والتي كانت فلسطين حاضرة بقوة في قلبها، في جميع ميادين الثورة في مصر وسوريا وليبيا واليمن..

فلتسعد تلك الأنظمة المطبّعة بعلاقاتها مع الصهاينة، ولكن عليها أيضا أن تستعد ليوم تنتفض فيه شعوبها ضدها.. ولسوف يجيء اليوم الذي تتحرر فيه الشعوب العربية من المحتل الداخلي، ومن المحتل الخارجي، وإن غدا لناظره قريب..

وإذا كان العالم قد توصل مع نهاية هذا العام للقاح للوقاية ضد وباء "كورونا"، فإن اللقاح الفعال للوقاية من وباء "التطبيع" هو الشعوب العربية، وعليها أن تقضي فوراً على هذا الوباء، وتمنعه من الوصول لدول أخرى مهددة بالإصابة بهذا الوباء اللعين، كي لا ينخرط الكيان الصهيوني داخل الوطن العربي، ويصبح كياناً طبيعياً يجول ويصول فيه.. 

لا تزال هناك آمال عريضة ورهان قوي على الشعوب..

twitter.com/amiraaboelfetou

التعليقات (0)

خبر عاجل