كتب

أصول العنف.. الدين والتاريخ والإبادة.. قراءة في كتاب

كتاب يدرس مفهوم العنف وتاريخه القديم والحديث  (عربي21)
كتاب يدرس مفهوم العنف وتاريخه القديم والحديث (عربي21)

حقل الإبادة (genocide) بالعربية حقل بالغ الفقر، فالكتب الصادرة بالعربية تأليفا وترجمة في هذا الحقل، لا تناسب مطلقا أعداد الإبادات التي حدثت في التاريخ القديم والحديث والمعاصر.

من هنا أرتأت سلسلة دراسات فكرية، في جامعة الكوفة، ترجمة كتاب "أصول العنف: الدين، والتاريخ، والإبادة"، للكاتب جون دوكر، الذي نقله إلى العربية، علي مزهر، ط1، 2018. يقع الكتاب في 342 صفحة من الحجم المتوسط، ويتألف من تمهيد وشكر، ومقدمة، وتسعة فصول.
 
يقول دوكر في التقديم لكتابه: "أناقش في هذا الكتاب العنف والإبادة، ومسألة العنف والإبادة، بوصفهما من مكوّنات الشرط الإنساني منذ العصور السحيقة. لا أركز هنا على العنف بين الأفراد بل على العنف بين الجماعات. هدفي هو أن أعرض وأفسّر هذا النوع من العنف بوسائل تشمل العنف الجسدي والعنف المتوارث في اللغة والثقافة والأفكار والمفاهيم والمرويّات والصور" (ص 19). 

يستعين المؤلف في الحجج التي يطرحها في كتابه، على تقصّي كتابات القانوني والمؤرخ البولندي اليهودي رافائيل لَمْكِن (1900 ـ 1959)، الذي يُبرهن في كتابه "حكم المحور في أوروبا المحتلة الصادر في عام 1944" على أن "الإبادة هي ظاهرة متكرّرة فيما يخصّ الطريقة التي تعامل فيها جماعة بشرية جماعة أخرى، مثلما تحدث جرائم القتل باستمرار في العلاقات بين الأفراد" (ص 20). ويعتمد دوكر في تحليل النصوص الأدبية أو التاريخية أو الفلسفية على "ميخائيل باختين (1895 ـ 1975)" (ص 23).

يستعرض المؤلف في الفصل الأول، "الإبادة ممارسة قديمة: الشمبانزي والبشر والمجتمع الزراعي"، آراء عدد من المؤرخين والعلماء، حول جذور الإبادة في التاريخ الإنساني، فيبدأ برؤية المؤرخ رفائيل لمكن للتاريخ البشري "بوصفه تاريخ الإبادة" (ص 27). 

أما العالمة جين كَودال، "تلاقي بصيرة لمكن في التاريخ الإنساني، ومفادها أن الإبادة بين الجماعات ومثلها جرائم القتل بين الأفراد قد حدثت في الماضي ويحتمل أن تستمر بالحدوث، تُلاقي سندا لها في علم الثدييات الذي يهتم بالأسلاف المشتركين بين البشر والثدييات الأخرى" (ص 41). وعالم الطيور، جارد ديمند، حيث "تلاقي فكرة لمكن عن كون الإبادة مظهرا متواصلا من مظاهر التاريخ الإنساني سندا في كتابه (صعود الشمبانزي الثالث وسقوطه (1991)" (ص 57).
 
وبحسب المؤلف، "لطالما اقترفت الرئيسيات مثل الإنسان والشمبانزي العنف الجماعي، وما ينجم عنه من إبادة، وسيبقى هذان احتمالان قائمان. فعلى امتداد التاريخ البشري اشتدت مثل أعمال العنف والإبادة هذه إلى درجة هائلة وكارثية مع نشوء المجتمعات الزراعية. هذا هو ديدن العالم الذي عشنا فيه لستة آلاف سنة خلت" (ص 69 ـ 70).
 
يبحث دوكر في الفصل الثاني، "الإبادة ومساءلتها في العالم اليوناني القديم: هيرودوت وِثوسّدِديس"، "أحداث العنف بين الجماعات، ومن ضمنها الإبادة، وفي الأسئلة التي توجّهها مؤلّفات اثنين من مؤسسي الكتابة التاريخية الغربية إلى أعمال العنف في العصر الكلاسيكي الإغريقي، وهما هيرودوت وثوسِّدِديس. كتب كل منهما عمله العظيم التواريخ والحرب البيلوبونيزية في اليونان إبان القرن الخامس قبل الميلاد"، (ص 72). 

ويضيف: "فمؤلفاتهما مضادة للنزعة القومية والتمركز العرقي. ونقدهما العنيف الذي ينوش الإغريق لا يقل حدة عن نقدهما للمجتمعات الأخرى" (ص 73). ويلمس المؤلف عند هيرودوت وثوسدديس "تفاعلا شائقا بين المنظورات المعنية بالعنف التي تتضمن قصص النقد والاحتجاج على أعمال العنف الجماعي والإبادة، التي تحدث في أثناء الحرب والاستعمار والإمبراطورية، وهي أعمال لا تليقُ بالإنسانية" (ص 74).
 
يواصل المؤلف، في الفصل الثالث من كتابه، "الإبادة، والصدمة، والعالم المقلوب رأسا على عقب في المأساة الإغريقية القديمة: أسخيلوس ويوريبيديس"، تحقيقاته "في العنف ما بين الجماعات، ومن ضمنه الإبادة، والتشكيك في هذا العنف في العالم الإغريقي القديم، كما يردُ في المسرحيات التراجيدية هذه المرّة. نصوصي الأساسية هي مسرحيات أغاممنون لأسخيلوس وهَكَبي وأندروماك ونساء طروادة ليوريبيدس، مع نظرات سريعة لمسرحية هيلين ليوريبيدس. أتمعن في عواقب الإبادة وتأثيرها على كل من الجُناة مثل أغاممنون وأودسيوس وعلى الضحايا، وخاصة النساء المستباحات وأطفالهن الذين سُفروا عبيدا إلى بلاد بعيدة" (ص 100 ـ 101).
 
يناقش دوكر، في الفصل الرابع، "المدينة الفاضلة والمدينة الفاشلة: جمهوريتا شيشرون وأفلاطون"، مواقف وقيما في علاقتها بـ"الإمبراطورية والغزو والحرب والاستعمار والاستشراق. وقد وردت هذه المواقف في نصوص شهيرة تنتمي للفترة الإغريقية ـ الرومانية في الفلسفة السياسية والملحمة والكتابة التاريخية: ومنها جمهورية شيشرون (106 ـ 43 ق.م)، وإنيادة فرجيل (حوالي 70 ـ 190 ق.م)، وكتابا أغريكولا وجرمانيا لتاسيتس (حوالي 56 ـ 117 ب. م). "(ص 142). 

وبحسب المؤلف، قدمت جمهورية أفلاطون "للتاريخ العالمي مدينة فاضلة مهمة (...). يمكننا معارضة جمهورية أفلاطون بتاريخ ثوسِّدِديس في هذا الصدد. في الجمهورية، لازم طيف العنف السياسي في توصيته بدولة استبدادية، إذ لم نقل شمولية، نظاما من الحكم ذا تاريخ مُرعب وطويل" (ص 148). و"على النقيض من جمهورية أفلاطون، فإن جمهورية شيشرون، كما وصلت إلينا، هي نص أكثر رصانة في أفكاره، وكذلك هو أكثر تعدديةَ أصواتٍ، وأكثر طباقاً في تجاور مواقفه إزاء مسائل أساسية، وخاصة فيما يتعلق بالاحترام الذي على الإنسانية إظهاره لتأسيس الإمبراطوريات وإدارتها" (ص 152).
 
يحاول دوكر، في الفصل الخامس "علم الضحيّة: سفر الخروج التوراتي وإنيادة فرجيل"، إثبات أن "للديانة الإغريقية ـ الرومانية القائمة على تعدّد الآلهة والديانتين اليهودية والمسيحية التوحيديتين، مفاهيم وأفكار مشتركة، لها أهمية في علاقتها بالعنف في تاريخ العالم.. ويمكن إدراك أفكار تؤيدّها الآلهة مثل الإبادة وعلم الضحية، والغزو والاستعمار، فضلا عن الخطاب الإحلالي، بوصفها أفكارا عابرة للحد الفاصل الذي يميّز بين التوحيد وتعدد الآلهة" (ص 173).
 
ويسعى المؤلف لإيجاد تشابه بين نصوص الإبادة التوراتية وما فعله الصهاينة في فلسطين، فيقول: "استمر الصهاينة على العمل من أجل تحقيق مثال أوروبي قومي استعماري واستيطاني.. تفكروا فيه في تسعينيات القرن التاسع عشر: استمروا بارتكاب مجازر الإبادة ضد الفلسطينين، لإخضاعهم وتصفيتهم وتشريدهم وطردهم وقتلهم أنّى ومتى شاؤوا في إسرائيل ـ فلسطين، لكي يستبدلوهم بمستوطناتهم الاستعمارية ومجتمعهم الحصري (...)، فيرتكب الصهاينة بحق الفلسطينيين كل يوم إبادة حسب تعريف لَمْكِن الخاص بالطرد والاستبدال، وفي كل يوم يوافق العالم الغربي على هذه العمليات، ولا يتذمر هذا العالم الغربي إلا لماما عندما يقترف الصهاينة جريمة إبادة ،كالتي وردت في سفر يوشع وليس سفر القضاة" (ص 212).

 

اتهم التنوير في النصف الثاني من القرن العشرين وبداية الألفية الجديدة، بتهيئته الأسس المفهومية للهولوكست وتعزيزها بسلطته

 



في الفصل السادس بعنوان "إمبريالية المستوطن الروماني في بريطانيا: السرد والسرد المضاد في كتابي تاسيتس أغريكولا وجيرمانيا"، يتقصى دوكر، "كتابي المؤرّخ تاسيتس، أغريكولا وجرمانيا، وقد ألّفهما في مطلع العصر الميلادي (ظهرا معا في 98 م)، في الوقت الذي حاولت فيه الإمبراطورية الرومانية تأمين سيطرتها الإمبراطورية الجارية في بريطانيا وألمانيا" (ص 218). 

وبحسب المؤلف، "يؤكد النصان فكرة الإحلالية لدى الرومان باعتبارهم الشعب المختار، ويضمنان لهذه الأمة الغازية وإمبراطوريتها مكانتها الإلهية وشرعيتها التاريخية. وامتدادا لهذا المزاج الإحلالي، يُسلم النصان بتفوق الرومان على البرابرة بسبب امتلاكهم وعيا تاريخيا" (ص 232).
 
في الفصل السابع، "المُستَعمِر النبيل"، يدرس المؤلف، "أفكارا متعلّقة بالاستعمار والغزو والإمبراطورية في مطلع أوروبا الحديثة، على ضوء المفاهيم التي تُوجّه هذا الكتاب، وهي: الإبادة والإحلالية وعلم الضحيّة والشعب المختار والأرض الموعودة وناقلو الثقافة" (ص 237).
 
يقول دوكر: "كان مروّجو الاستعمار الإنجليز في بواكير العصر الحديث إحلاليين بكل وضوح. فهم ضليعون كمسيحيين أوروبيين أو تحديدا مسيحيي إنجلترا، بالعهد القديم وبنفس الدرجة بالمعرفة والفكر الروماني الوثني، وهم يمتلكون مُثُلا نبيلة، وهم الشعب التاريخي المختار، الذي يمل حق استكشاف بقية العالم وامتلاكه" (ص 274 ـ 275). و"كان سن القانون الدولي وتعديله المستمر، ولم يزل في بعض مناحيه، لا لحماية المُسْتَعْمرين من الغزو والاستعمار أو الإمبراطورية أو الحرب، ولكن لتنظيم الغزو والاستعمار والحرب بين الأمم القوية في زمن بعينه" (ص 275).

يستعرض المؤلف في الفصل الثامن،"هل كان عصر التنوير أصل الهولوكوست؟"، أفكار عدّة مؤرّخين وفلاسفة، ما بين مؤيّد للطرح المذكور ومعارض له. فقد "اتهم التنوير في النصف الثاني من القرن العشرين وبداية الألفية الجديدة، بتهيئته الأسس المفهومية للهولوكست وتعزيزها بسلطته" (ص 278).
 
في خاتمة كتابه، "الفصل التاسع: خاتمة هل للعنف نهاية؟"، يقول دوكر: "يقدّم فكر غاندي، من وجهة نظري، أملا للعالم، فتبقى أفكاره في اللاعنف بديلا أساسيا للنزوع اللانهائي نحو العنف، ماضيا وحاضرا، سواء أكان من يمارس العنف هي الحكومة أو الذين يقاومون الاضطهاد والظلم" (ص 319). ولكن "لم تحقق مبادئ غاندي اللاعنفية إلا تقدما يسيرا في عالم ورث تراثا طويلا جدا من الأفعال والأفكار التي تسوغ العنف بين الجماعات" (ص 320).

وأخيرا، يرى دوكر، أنه علينا "الاستمرار في البحث عن تراث لا عنفي بديل، هو جزء من الوعي التاريخي المتصاعد الذي يساعد في تشكيل تاريخ العالم" (ص 321).


التعليقات (0)