كتاب عربي 21

معركة بدر وحرب وطروادة

أحمد عمر
1300x600
1300x600
عندما قرأت "تاريخ المخيلة"، احتفلتُ بها، وهي دراسة أعدها صبحي الحديدي في مجلة الكرمل العدد 83، سنة 2005. وفيها جهد كبير، فرصد فيها أثر معركة طروادة في العقل الغربي ومخيلته. والمقال ناقص، ربما تعوزه جملة واحدة، لو قالها الحديدي في بحثه لأنصفه، وهو أثر حرب طروادة في مثقفي الشرق ونخبته، لكنه لم يفعل، ربما لم يخطر له الأمر، فهو من أسرى طروادة من غير أن يعلم.

المعركة معروفة وسنشير إلى أبرز مواقعها وشخصياتها في المقارنة السريعة بينها وبين بدر الكبرى، طروادة المسلمين، فلكل أمة طروادتها، إذا جاز التعبير.

حكاية طروادة حكاية غير دينية لكنها صارت ديناً، وإنجيلاً غربياً، فلا بد للدين من معركة كبرى فاصلة بين الحقِّ والباطل، كأنَّ الإنجيل وقصص المسيح "لا تعمر الطاسة". وفيها أبطال من الآلهة، بل إن الحكاية تبدأ بخصومة بين الآلهات "النسوة" الثلاث. ويتذكر معدُّ المقال آخر نسخة هوليودية، ويصفها بأنها أكثرها سطحية، ويربط بين آغا ممنون ودونالد رامسفيلد، وينتبه إلى أنَّ طروادة صارت مثالاً للاقتداء وأسوة لدى الشعوب المقهورة. وهذا الكلام يحتاج إلى برهان، فمحمود درويش شاعر من الأمة، وليس لسان حالها، ويرى محمود درويش أن خياره طروادي، وهو خيار المحاصر، لكن هذا تضليل، فقد اختار الانحياز إلى فريق من العائلة الغربية، ومعظم الشعراء المعاصرون نازحون إلى الثقافة الإغريقية.

إنَّ الإغريق الذين انتصروا على الطرَاودة عسكرياً انهزموا سياسياً، فقد نزح الطراودة وأسسوا روما الجديدة، ولم تغب طروادة عن بال الإسكندر المقدوني الذي غزا الشرق. ويتذكر معد المقال قافلة من الشعراء استلهموها في أشعارهم، مثل ييتس ودوليتل وغيرهما، فطروادة خيط يربط بين خرزات عشرات الحكايات والمسرحيات والقصص.

استقرّت ملحمة هوميروس الإلياذة والأوديسة، والإلياذة الرومانية لفريجيل نصاً مركزياً في الثقافة الغربية. وجوبهت النظريات القائلة بالصراع الأبدي بين روما وإسطنبول، فالطرواديون ليسوا أجداد الأتراك، وسيجد الباحثون الدول الأوربية المعاصرة تسعى إلى تأصيل نسب لها في طروادة، مثل فرنسا وبريطانيا وإيطاليا. ثم ينتهي بحث الحديدي إلى أخيل في فيتنام، ولا يغفل عن الحروب الصليبية التي يمكن أن تذكّره بأمر، وأنّى له الذكرى.

نذكّر بمعركة طروادة المسلمين بدر، فهي أولى حروب المسلمين مع المشركين. وسبب الصراع الأساسي هو التوحيد والشرك، وليس صراعاً على امرأة، أو تحكيماً في مسابقة ملكة جمال بين الربات الحسناوات. وقد صارت مسابقات ملكات الجمال تقليداً في الغرب يعاملن كالربّات، ونزح إلى الشرق، أو إنَّ الشرق تبع الغرب القوي، حذو الضبِّ للضبِ، وإن ظهر أنَّ السّبب المباشر في معركة بدر هو قافلة عمرو هاشم المخزومي العائدة من الشام، فأهل مكة أثروا بأموال المسلمين المنهوبة، وتاجروا بها، ونجت القافلة من كمين المسلمين، لكنَّ المشركين (الذين يعادلون الإغريق في معركة طروادة) أرادوا أن يكسروا شوكة المسلمين، فانكسروا عسكرياً وسياسياً.

لم تُسبَ امرأة واحدة في معارك المسلمين الكبرى الثلاث بدر وأحد والخندق أو تقتل، ويمكن أن نتذكر أبا دجانة وقد ظفر بهند بنت عتبة، وقد شاركت في المعركة تحريضاً وحثاً وتأليباً، وقيل إنها لاكت كبد حمزة بن عبد المطلب أسد الله وأسد رسوله، فأكرم سيف رسول الله أن يقتل بها امرأة. وكان عدد المشركين ثلاثة أضعاف عدد المسلمين، بينما كان عدد الإغريق يفوق الطرواديين بعشرة أضعاف، ولم يكن هناك حصارٌ في بدر، الحصار أو ما يشبهه نجده في معركة الخندق، أما الغنائم أو الحصان الخشبي، فنجد صورته الطروادية في غنائم جبل الرماة في معركة أحد.

في بدر آلهة، وهي لدى قريش أصنام تقرِّبهم إلى الله زلفى، أما إله المسلمين، فهو الواحد الأحد. وفي بدر خوارق مثل إمداد الله المسلمين بألف من الملائكة مسومين، أو ثلاثة آلاف بشرى، أو خمسة آلاف، والحاصل أن عدد المسلمين مع الملائكة صار مكافئاً لعدد المشركين. ونتذكر هذا لنقول إنها غنية ثقافيا، وليس فيهم أنصاف آلهة مثل أخيل الذي كان نقطة ضعفه في كعبه، لكن شهداء المسلمين وقتلى المشركين أبطال ليس لهم أمثال في المعاركز فالمشركون لا يبارزون إلا أمثالهم وأقرانهم لكبريائهم وفخرهم. ونرى مثال ذلك في أولى مبارزات بدر، ونرى بطولات المشركين مثل بطولة الأسود المخزومي الذي أراد أن يشرب من الحوض لا عطشا وإنما ليبرّ قسمه، والبختري بن هشام.

ويروي ابن إسحاق أنَّ رسول الله نهى عن قتله لأنه كان أكفَّ الناس عن إيذائه، وكان ممن مشى في نقض الصحيفة، فظفر به المجذر بن زياد البلوي، ومعه زميل له، فعفا عنه، فقال البختري وكان معه زميل له اسمه جنادة بن ملحية: وزميلي؟ فقال: نُهينا عنك وحدك. فقال: لَا وَاَللَّهِ، إذَنْ لَأَمُوتَنَّ أَنَا وَهُوَ جَمِيعاً، لَا تَتَحَدَّثُ عَنِّي نِسَاءُ مَكَّةَ أَنِّي تَرَكْتُ زَمِيلِي حِرْصاً عَلَى الْحَيَاةِ. ذكرنا بطولات الكفار، أما بطولات المسلمين فهي فريدة، وفي كل سطر من بدر ملحمة بطولة وفداء وتضحية، لا تجد أمثالها في ملحمة من ملاحم الأرض.

كان سبب معركة طروادة مشاحنة إلهية بين آلهة الأولمب الإثني عشر، وخلافا بين الربات الثلاث: هيرا وأفردوديت وأثينا؛ حول الأجمل منهن. واتفقن على الاحتكام إلى أول غريب يرينه، وقد كان الراعي الشاب باريس المنفي إلى البراري حتى لا يكون سبب دمار طروادة في الرؤى، وكان والده بريام ملك طروادة قد نفاه، فسردن عليه أمرهن وطلبن إليه أن يحكم بينهن فيجعل التفاحة للأجمل منهن. وأغرته هيرا بالسلطة إن هو وهبها إياها، وأثينا بالحكمة والمجد، وقالت له أفروديت ربة الجمال إنها ستهبه أجمل نساء الأرض، ففضّلها عليهن وأعطاها التفاحة ليغضب بذلك الربتين الأخريين.

فتدفع أفروديت هيلين إلى الوقوع في حب باريس وبباريس إلى الوقوع في حبها، فيقوم باريس بخطف هيلين الطروادية ملكة أسبرطة، وزوجة منيلاوس شقيق أجا ممنون ابن أتريوس. وتنشب الحرب بين طروادة وأسبرطة.

إنَّ المخطوفة متزوجة، ولو كانت بنتاً لكان الأمر أهون، وإنَّ معركة طروادة دامت عشر سنين، بينما دامت معركة بدر واحد ساعتين من النهار، أما معركة الخندق فقد طالت عشرة أيام، ويقوم نعيم بن مسعود بخدعة حربية تشبه طروادة وهي خدعة ماكرة، وهي فكرة عقلية وليست ساذجة مثل فكرة حصان طروادة.

يقول فاضل الربيعي في كتابه أبطال بلا تاريخ: إنَّ الأساطير الإغريقية هي أساطير عربية مهاجرة، ويجد وشائج قربى بين حصان طروادة وبين جِمال قصير بن سعيد الأربعين في الحيرة، في قصة الزباء، ويخطب عمرو بن عدي يد ملكة تدمر، وكانت أجمل أهل زمانها، وعذراء لم يمسسها رجل. وفي قصتهما مجمع أمثال، وتقع بينهما أحاديث، وتنتهي بانتحار الزباء وهي تقول: بيدي لا بيدك يا عمرو.

المرأة طاهرة عفيفة وذكية في الأساطير العربية.

ونجد أثراً للحكاية الطروادية في قصص علي بابا والأربعين حرامي، ولا نتوقع من كاتب يساري مثل الحديدي أو شاعر يساري مثل محمود درويش الطرواديين أو الإغريقيين أن يريا معركة بدر أو يتباهيا بها، مع أنَّ المؤرخين ذكروا أسماء الجند واحداً واحداً، وذكروا أسماء أسلحتهم وخيولهم، وكان يمكن لهما وهما عربيان أن يفتخرا بمعركة ذي قار، وهي طروادة عربية، لكن ليس لها آثار بدر في نفوس العرب أو المسلمين.

في أسباب معركة ذي قار، يطلب كسرى يد ابنة النعمان، فيرفض تزويج ابنته لكسرى الفرس أعظم ملكين في الأرض، إما استعلاء بدينه على وثنيّ يعبد النار، وكان نصرانياً، أو افتخاراً بأصله العربي، فيستشيط كسرى غضباً وتدور أكبر معارك العرب مع الفرس، وينتصرون.

هناك امرأة عربية وحيدة خانت والدها في القصص العربية العتيقة، ووقعت في حب الغريب، هي النضيرة بنت الضيزن، وكان جزاؤها قتلها بيد العاشق سابور. وكانت أجمل أهل زمانها، وسابور أجمل أهل زمانه.

يمكن أن نجد المرأة في كل صراع على الأرض، لكننا نختلف حول التأويل، فنجد سبب الصراع بين قابيل وهابيل التقوى والسباق إلى مرضاة الله، ويجد آخرون سبب الصراع بينهما امرأة. الصراع حول هيلين ما زال، وقد نجد صورة من هيلين في مصريةٍ سعى ترامب إلى إطلاق سراحها، ويمنيةٍ نالت نوبل، ومخرجة سورية منحت أوسكار. الغرب يريد تحويل الصراع، كل صراع إلى جنس ونكاح ولهذا أحبَّ رواية موسم الهجرة إلى الشمال.

نساء العرب، والمسلمين لاحقاً، أبيّات، عفيفات، ينتحرن مثل الزباء، أو يهتفن مثل أم عمرو بن كلثوم إذا شعرن بالذلَة، أو يرفضن الزواج من العلوج أمثال ابنة النعمان بن المنذر، أما هند بنت عتبة فلها شأن آخر، وقلما يتعرضن لسوء بين قومهن. معارك العرب معارك كبرياء وكرامة قبل الإسلام بما فيها البسوس، فهي معركة ضد الاستبداد، وكذلك داحس والغبراء، أما معارك المسلمين فكانت معارك إعلاء لكلمة الله. عجلة التاريخ لا تدور إلا بالدماء والحروب.

خطف الرجال واقع أكثر من خطف النساء، وهو نوع من الخطف، لا يرى بالعين. الخطف الأكبر هو خطف العقول، الذي نجده لدى الطرواديين العرب المفتونين بجمال هيلين وحصانهم الخشبي، والسينما الغربية ، والثقافة الغربية حتى صارت دينا لهم.

الحرب خدعة، والخيانة ليست من الخدعة.

twitter.com/OmarImaromar
التعليقات (0)