آراء ثقافية

قراءة في المجموعة القصصية "سِتّ زوايا للصّلاة" لأميرة بدوي

عملٌ ثريٌّ فريدٌ، تزرعُنا به (أميرة بدوي) في قلب عالَم الخُرافة في ريفِ مصر- دار العين للنشر
عملٌ ثريٌّ فريدٌ، تزرعُنا به (أميرة بدوي) في قلب عالَم الخُرافة في ريفِ مصر- دار العين للنشر

"انزِل على الجُرحِ المُخَضَّبِ يا نَدَى. رَطِّب مَراقِدَنا الأليمةَ يا نَدَى. وَادْعُ الصُّخورَ لِتَرحَمَ العَظمَ المُهَشَّمَ يا نَدَى. واترُكْ بِنا رَمَقًا هزيلاً يا رَدَى". بهذه الأسطُر من ديوان (من مجمرة البدايات) لمحمد عفيفي مطر صدَّرَت الكاتبةُ مجموعتها، وهو اختيارٌ يتجاوبُ وسياقات القصص الاثنتي عشرة التي تضمُّها المجموعة، لاسيّما أنّها تغصُّ بالألم والفقر والخوف وينتاشُ الموتُ أبطالَها في النهاية دُون رحمة. كما أنّ استدعاء (مطر) بالتحديد لتصدير الكتاب، وهو المعروف بأنّ شِعرَه يمتاحُ حياةَ الرِّيف المصري بمفرداتِها ويُعيدُ تشكيلَها شِعريًّا، هذا الاستدعاء يكرّس ما تُخلِصُ له الكاتبةُ هنا تماما.

* الانحياز للمهمَّشِين:

في القصة الأولى (البُومة) تُمنَحُ البطولةَ (سنيّة) بائعةُ الخُضَر والعِنَب التي تسرح بحمارِها لتكسب قُوتَ يومِها وتربّي ابنتَها بعد وفاة زوجِها، وتُتَّهَم في شرفِها فيُحكَم عليها بالموت. وفي (العِرسة) تسقُط عروسٌ مُوشكةٌ على الزواجِ قُربَ ضريح (سيدي خالد) في غيبوبةٍ وتُحمَل إلى بيتِها لتُعاني ما يُشبِه المَسّ الشيطانيّ، وحين تُشفَى في السطور الأخيرةِ تموت. أما في (النَّعش) فإنّ ثعبانًا عملاقًا يحصد أرواح أبرياء القرية في كل ظهورٍ له، ويختم ظهورَه بخطف رُوح (ليلى) أُخت الرّاوي، لتكون قرابينُه فيما بعد من الأطفال. في (الخِضر) نجدُ البطلَ (عطشجيًّا) يقضي ليله ونهاره في جَدل الحبال وصُنع المقاطف قُرب مزلقان القطار، ويختطف الموتُ أمامه رضيعًا وضعَته أُمُّه على قضبان القطار لتتخلّص من عارِها. في (البُرص) يَحُلّ (سلطان) الذي هجرَ مهنة الحدادة ليعمل في سَنّ السكاكين والمقصّات بطلاً فقيرًا يسكنُ بطنَ الساقية، وتُحاكُ الحكاياتُ عن معاشرتِه جنّيّةً تعيش معه.

 

كذلك يتقاسَم البطولةَ في (الندّاهة) الريس حسن وابنُه (ناجي) وهما من الفواعليّة أي عُمّال البناء، والحدَث المحوريّ يدور حول حماقة (حسن) الذي لم يعرف كيف يستخدم الحّمّام الإفرنجي فجلس فوق صندوق الطَّرد وانزلقَ على بلاط الحمّام حتى شُجَّ رأسُه. في (القِطّ) هناك البطل (خالد) الصبيّ سليل الأسرة التي تعمل في الجزارة، والذي ذبحَ عَمُّه أباه وخلفَه على زوجتِه – فهو هاملِت قَرَوِيٌّ مصريّ – يحاول استظهارَ آيةٍ ويفشلُ فينال عِقابَه على الفَلَكَة في الكُتّاب. وفي (الغُولة) نرى البطلة قابلةً يخافُها الأطفال، وهكذا يطّرد انحياز المجموعة للفقراء المهمَّشِين.

 

وممّا يعمّق هذا الانحيازَ ما نراه من وصفٍ سينمائيٍّ بالغِ الدّقّة لمَشاهد حياة أولئك الأبطال المنسيِّين، لاسيّما مَشاهِد انكبابهم على حِرَفِهم التي يُنظَر إليها من منظورٍ استعلائيٍّ، ففي (البُرص) نقرأ: "ترى سلطان يمسك سكّينًا، ويقربه من وجهه، يوشوشه بكلمات غريبة، كأنها تعويذة، ثم يقبّله ويضعه على المسن. يدير العجلة، فيبدأ القرص في اللف، وتبدأ شرارة صغيرة تهرب من تحت يديه، كأن السكين يئنّ. يضغط على نصله، فيخرجه عريسًا، حادًّا، يسرق رقاب الدواب والطيور، رحيمًا، لا يؤذي إنسيّا"، وفي (الغُولة): "يطِشُّ قرنُها في وجه الغولة فتمُدُّ يدَها وتَشُدُّ رأسَ الوليد. عندما يرى وجهها يصرخُ ملسوعا. تُخرِجُ المُوسَ من الحقيبة وتقطع حبلَ سُرَّتِه وتربطه بفتيلٍ من الصوف." إلى غير هذَين المثَلَين ممّا يُضفي على اللحظات القصيرة التي تستضيفُها القصّة من حيواتِ أبطالِها شيئًا من المَلحميّة، كأنّ الكاتبة تحاولُ تعويضَهم عن نسيان المجتمع وتجاهُلِه.

 

لكنّ هذا الانحياز يصل إلى أقصاه في (الندّاهة)، فنرى الهامش الوحيد في الكتاب يشرح مفردة (الفواعلية) بأنهم "رجالٌ يَغدُون خِماصًا ويَعُودون خِماصا"، ونرى أحد أقسى السُّطور التي تصِف صعوبةَ الحياة لهؤلاء: "مَن أرادَ أكلَ العيش لن يَقَع، قانون البقاء موضوعٌ على يَد ريّس الأنفار." فهنا يتحول الانحياز إلى بيانٍ ضدّ الاستغلال والاستخفاف بالفقراء.

* الأنثى والموت:

في الفقرة السابقة يتّضِح أنّ عددًا من بطلات القصص وقعت في براثن الموت شابّاتٍ، والإحصاء يكشف لنا عن (سنية وحميدة وليلى وعَزّة) في قصص (البومة – العِرسة – النعش – الكَفّ).

 

واللازمة التي تكررت مع القَتَلة الأربعة هي الظِّلّ، ففي (البومة) أنّ سنيّة "لم تشعر بظِلّ علاّم خلفَها عندما تسلّل وقتلَها للمرّة الثانية"، وفي (العِرسة): "ظِلٌّ كبيرٌ يتخطى السُّرادِقاتِ والفَرشات، ظِلُّ عِرسة، يأكل السيارات والحناطير البلاستيكية، ..إلخ"، وفي (الكَفّ) إشارةٌ إلى ظلّ الخيّاطة التي ألمَّ بها أمرٌ غامضٌ وهي تبدأ العمل في ملابس العروس (عَزّة)، فحين تتوجّه قريباتُ هذه الأخيرة إلى المقابر لدهان أبوابها بالحنّاء لدفع المكروه حسبَ معتقدِهنّ الشعبيّ: "رأينَ ظِلَّ الستّ تحت شجرة الجُمَّيز الكبيرة. كانت تقف هناك ممسكةً بمقصّ.".

 

في (النعش) لا يوجد تصريحٌ بظِلٍّ واضحٍ للثعبان العملاق، لكنّ وجودَه الفوقيّ الحاضرَ وإن غابَ عن الأعيُن يُلقي بظلّه على حياة أهل القرية حتى إنّه: "لم يهرب من الرجال أحد، رغم السواد الذي عمَّم رؤوسنا، وجعل خوفنا من الثعبان يمنعنا عن قضاء حوائجنا"، ثم ينتقل الظّلّ إلى الشباب المتربّصين بالعجائز ليقتلوا منهم واحدًا ويقدّموه قُربانًا للثعبان، فنقرأ: "أرى ظلالهم تمسك بالسكاكين والخناجر أسفل الأشجار. أرى أعينهم تشتعل بالدم."

 

هكذا يبدو أنّ ظهور الظّلّ الشخصيّ نذيرُ قتلٍ في هذه القصص. لكن في حالة (الكَفّ) لا تفعل الخيّاطة شيئًا إلا أن تجهر بنبوءةٍ اطّلَعَت عليها من وراء حجُب الغيب، فهي ليست قاتلةً كالرَّجُل (علاّم في قصة البومة) أو الوحش (الثعبان في قصة النعش) أو الكيان الغامض (العِرسة). فإذا انتقلنا إلى امرأةٍ أخرى يلزمُها ظِلٌّ ذو خصوصيّةٍ في المجموعة، وهي القابلة في (الغُولة)، نقرأ: "ظِلُّها يتحسس البيوت والأخصاص، يتخطى النهر المردوم، ...إلخ." لكن بينما تتوسم فيها الطفلتان (زينب) و(هدى) الشّرّ وتخافان حضورَها، إلا أنها الكائن الوحيد ذو الظلّ الذي يرتبط حضورُه بإنبات حياةٍ جديدةٍ وبقاء الأنثى حيّةً، رغم الإيحاء بارتكابِها ختانَ البنت (زينب).

 

هكذا يبدو مِن استقراء هذه الظواهر أنّ الظِلّ الأخَفّ وطأةً على حياة إناث الكاتبة هو ظِلُّ الأنثى، بينما تحمل ظلالُ الرجال والوحوش والكائنات غير المعرَّفة نُذُر الموت. بيدَ أنّ حضورًا رجوليًّا خاصًّا في قصّتَين يرتبطُ بابتعاد الخطر عن الأنثى، وهما (الخِضر) و(الوليّ). في الأولى تنجو المرأة الخاطئة بفَعلَتها، ويموت الرضيع تحت القِطار، وتتجلّى (خِضريّة) البطل في مهمّته التي يُنكرُها عليه مَن يشهدونَه يُنجزُها، وهي مهمة دفن أشلاء الرضيع، فهو بهذا يُبعِد العار عن الأُمّ/ الأنثى، ويكلّف نفسَه فقدان عملِه حين يهبط عليه المفتّشون.

 

وفي الثانية نَجِدُ (الوليّ) حين يفرش عباءتَه أمام بيتٍ من البيوت فكأنه يصطفي الرجُل صاحبَ البيت للموت. ورغم قسوة الأمر على أهل البيت جميعًا إلاّ أنه يطرحُ احتمالاً لرؤيةٍ مفادُها أنّ نجاة الأنثى من الفَناء لا تأتي بيَد رجُلٍ إلاّ أن يكون وَليًّا أو أن يكون الخِضرَ شخصيّا!


* دِين الطواطم:

في (البومة) تتحول القتيلة إلى بومة تطارد قاتلَها أينما حَلّ، وذلك بعد إشاراتٍ إلى اتساع عينيها لحظة الموت، وشعور القاتل قبل ذلك بأعيُنٍ مستديرةٍ تراقبُه. وفي (العرسة) نعرف أنّ ظِلّ العرسة يسيطر على المشهد تمامًا إلى أن تخرُج العرسة من فم البطلة فتموت، ومن اللافت وجودُ توازٍ ما بين البطلة والعرسة من البداية، تلفت الكاتبةُ أنظارَنا إليه من خلال حدَث إزالة الشَّعر الزائد عن جسد العروس التي تتأمل جمالَها وملاستَها في المرآة، إلى أن تُوحيَ إلينا في النهاية بأنّ العِرسةَ تكادُ تكونُ رُوحَ هذه البطلة! أمّا في (البُرص) فإننا نعرفُ قُرب النهاية أنّ معلّم الحِدادة كان قد طردَ (سُلطانًا) قائلاً له: "اذهب أيُّها البُرص" لأنه اعتقد أنه يُشاغِلُ ابنتَه، وحين يشعر (سلطان) بالنفخة الساخنة يمسك البُرص الزاحفَ على صورة مناسِك الحَجّ المرسومة على جدار بيت أحد الحُجّاج، ويحتفظ به في قِنّينةٍ زجاجيةٍ بحُجّة أنّه ذلك الحيوان الذي نفخَ في النار المُوقَدَة لنبي الله إبراهيم وأنه ظلَّ خالدًا مُذ ذاك، إلى أن تُشيرَ الفتاةُ بتعريض البُرص للبشعة. وفي قصة (الإبريق) نقرأ أنّ النساء ينتظرن مجيء (أمّ قويق) يوم سبت البشارة لأنها ستعدل الميزان، والبطل (حربي) يخاف مجيئها ويعتقد أنها تُريد أن تأخذ حَصَى مثانتِه!

هكذا نجدُ أنفسَنا أمام درجاتٍ متفاوتةٍ من الطوطميّة، فربّما لا تعي البطلة طوطمَها كما في (البُومة)، وربّما تكتشفُه فقط لحظةَ موتِها كما في (العِرسة)، وهي مع ذلك متوحّدةٌ معه بشكلٍ ما، وهو يمثّل لها مثَلاً أعلى في الجَمال تحاول تحقيقَه. وُصولاً إلى ذلك اليقين الكامل للنساء على (أم قويق) في (الإبريق)، فهي طوطمٌ عامٌّ لجماعة النساء. وفي منتصف المسافة بين الدرجَتَين هناك الثعبان العملاق في (النعش)، فهو كائنٌ مُخيفٌ جَليلٌ يكرهه الناس في البداية ويحاولون قتلَه، ثُمّ يستسلمون له ويبحثون عن قُربانٍ يصالحهم عليه. ولعلّه ليس محض اعتباطٍ أنّ القاصّةَ وصفَت هذا الثعبان بأنه "ذو زبيبتين في جبهته"، وقالت بلسان الراوي إنه حين نظر إلى السماء وهو موشِكٌ على الموت "لم يَرَ في السماء غير زبيبتَين"، وليس اعتباطًا كذلك أنّ إمامة (سيّد الرفاعيّ) بالمُصلِّين في المسجد قد امتزجَت برقصٍ أشبهَ برقص الجماعات البُدائيّة طوطميّة الديانات.

في الحقيقة يبدو أنّ تجلّي المُقَدَّس في قَصَص المجموعة ملتصِقٌ بالجلال والرّهبة والقضاء النافذ الذي لا رادَّ له. هكذا، يجيء الحكم بموت (سنيّة) على يد (علاّم) في مجلس قُطّاع الطرُق الحريصين على الصلاة، وتجِدُ (العِرسة) بُغيتَها عند ضريح الوليّ (سيدي خالد)، ويطَّرِد الأمرُ على هذا المنوال، فحيثُما ظهرَت القداسةُ ظهرَ الموتُ أو انتشرَ الخوف. ولا نكاد نشتَمُّ رائحةً لشِقِّ الجَمال (من شِقَّي الجلال والجَمال الإلهيَّين في المأثور الإسلامي) إلاّ في قصّة (الدِّيك) التي يتدارَك فيها القدَر خطأ (نعمة) وابنتِها الجائعتَين - حيث ذبحَتا الدِّيك المقدَّس الذي تملكه المرأة العجوز - بأن يُلهِم العجوز وزوجَها أن يدرّبا ديكًا آخَر على القيام بدَور الدِّيك المقدّس الذي يُخيفُ الغِربان، فتعود القريةُ إثرَ ذلك إلى سابق عهدِها المُضيء. ويكادُ الدِّيكُ يكونُ الطوطمَ الوحيدَ الذي يقومُ بعملِه المَنوط به في المجموعة، فهو يحمي البلدةَ بالفعل من الغمّ والغِربان.

وفي تقديري أنّ كثيرًا مِمّا تجترحه القاصّة من تناصّاتٍ مع الموروث الإسلاميّ أو استدعاءاتٍ لرموزه يؤكّد هذا الحضور للجلال الرّهيب، فمن ذلك قولُها في (النعش): "والنساء يَشقُقن صُدورَهنّ ليخجِلَ ملَكُ الموت"، فالإنسانيّة في هذه اللحظة لا تملِك إلا هذا الاحتجاجَ العاجِزَ أمام جلال القدَر ورهبتِه ممثّلاً في الثعبان ذي الزبيبتَين. ومِن ذلك المشهدُ الختاميّ في (البُرص) حيث يُلقي الزاحِفُ بنفسِه في النار رغم تبيُّن براءتِه من جريمة النفخ في نار سيدنا إبراهيم، فلا ندري، هل (سُلطان) نفسُه – الملقَّب بالبُرص من معلِّمِه - هو الذي ينتحر ليعاقِبَ نفسَه على جريمةٍ لم يرتكبها (مشاغلة بنت المعلّم)، أم أنّ طوطمَه ينتحر ليفقِد هو كُلَّ حمايةٍ ممكنةٍ ويظلّ أعزلَ أمامَ القدَر؟ ومِن ذلك ما يقولُه (خالد القط) لنفسِه في (القط): "اللوح لابُد أن يكون محفوظًا" في إشارةٍ إلى لوح الإردواز الذي عليه أن يستظهر ما فيه من آية، فضلاً عن الآية نفسِها "وكَتَبْنا عَلَيهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالعَيْنَ بِالعَيْنِ والأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالجُروحَ قِصَاصٌ"، فهو استدعاءٌ يؤكّد نافذيّة القضاء أوّلاً ورهبتَه وجلالَه ثانيا. وأخيرًا في (العِرسة)، يأتينا شَطران من قصيدة ابنِ الفارض (ما بينَ مُعتَرَكِ الأحداقِ والمُهَجِ) يتغني بهما (ياسين التهامي) وتسمعهما البدويّة الدّوّادَة (التي تستخرج الدُّودَ من الآذان بالرُّقية في ريفِ مصر) وهي تتعقّب الصبيّ الآتيَ من بيت (حميدة)، يحمل صُرّةً فيها رُفاتُ العروسة الورقية المحروقة لشفاء (حميدة).


"أهلاً بما لم أكُنْ أهْلاً لمَوقِعِه ..     قَوْلِ المُبَشِّرِ بعد اليأس بالفرَجِ
لكَ البِشارةُ فاخْلَعْ ما عليكَ فقد .. ذُكِرْتَ ثَمّ على ما فيكَ مِنْ عِوَجِ"


تذكرُ القاصّة عجُزَ البيت الأوّل وصدر الثاني إلى (عليكَ)، فيظلّ المعنى ملتبسًا، وتظلّ البشارة ناقصةً، كأنها بشارةٌ بموتٍ لا رحمةَ فيه - "اخلع ما عليكَ" ربّما تخلعُ رُوحَكَ التي بين جنبَيك.

انتهاءً، هو عملٌ ثريٌّ فريدٌ، تزرعُنا به (أميرة بدوي) في قلب عالَم الخُرافة في ريفِ مصر، وتتخذ هذا العالَم تُكأةً لترسُم صورةً رهيبةً لفكرتها عن المُقدَّس، وهشاشة الوجود الإنسانيّ ولاسيّما وجود الأنثى، فضلاً عن ضنك المهمَّشِين الذين تُفسِحُ لهم ليصبحوا أبطالَ ملاحمِها البالغة القِصَر والوُعورة.

 

وقد قرأتُ مُراجعات مَن سبقوني إلى قراءة المجموعة لعلّي أهتدي إلى تفسيرٍ يُقنعُني للعنوان، فلم أعثُر على رابطةٍ واضحةٍ، ووجدتُ أنّ أي محاولةٍ لتأويلِ العنوان تكلّفُني لَيّ أعناق ظواهِر النُّصوص، فقررتُ أن أقبلَ عنوانَها كما هو. والقولُ الأخيرُ فيه أنّه بغموضِه هذا يكرّس تلك الهوّةَ غير القابلة للعبُور بين القضاء الإلهي النافذ والرهبة التي يتجلّى بها المقدّس من جِهةٍ، والإنسانيّة الهشَّة من الجهة الأخرى.

التعليقات (1)
sandokan
الأربعاء، 05-05-2021 03:06 م
'' سرديات السينما.. زوايا مختلفة لتصوير أفلام السيرة '' تمتعت أفلام السيرة الشخصية باعتبارها ذات حضور فني، على نطاق العالم وهي ذات اهتمام معروف كشف عنه عنوان الكتاب للناقد السينمائي علاء المفرجي، وهي تجربة ذات امتداد في التجربة الفنية السينمائية وقد انشغل بها عدد من المخرجين السينمائيين في العالم ومن أبرز هذه الاسماء نستطيع الإشارة للأكثـر حضوراً، مثل "بول ميوني" الذي قدم فيلمين هما "قصة لويس باستور: سنة 1936" وحياة "اميل زولا 1937" ويبدو بأن "بول ميوني" لاقى نجاحاً مهماً لتقديم فيلم عن أميل زولا بعد سنة كاملة من إخراج فيلمه الاول عام 1936. وهناك عدد من أفلام السيرة الذاتية في فترة الثلاثينيات التي تعتبر تأريخاً لمثل هذه التجربة الفنية والتي كانت عن أفلام سيرة الرئيس الامريكي "لنكولن" وكان البطل الذي جسد السيرة جون فورد مع هنري فوندا بدور لنكولن عن مسرحية شيرود . ومجال السيرة يستوعب عدداً من الشخصيات الرئاسية والسياسية والعسكرية ، تم تسجيلها وحفظها للمستقبل مثل "ويلسون 1944" من إخراج هنري كينك. وقدم سرداً عن حكاية الرئيس الاميركي ويلسون و(ثعلب الصحراء) 1951 وهو دراما وسيرة ذاتية رائعة وعاطفية عن الجنرال الالماني "اروين رومل" مع جيمس ماسون في دور البطولة. وذهب المؤلف للفترة الأكثر حساسية وهي فترة الثمانينيات، حيث الفيلم المهم والحائز على عديد من الجوائز وهو فيلم أماديوس 1984 للمخرج ميلويش فورمان ،الذي قدم فيه كل ما هو غرائبي في حياة هذا الموسيقي الشاب ، والذي يعتبر مثيراً للاهتمام في خلال تجسيده لحياة المعجزة " موزارت ". وسيظل تاريخ السينما السيرّية ، يتذكر الفيلم المهم الخاص عن "رأي تشارلس" في دور الموسيقي الامريكي الاسطورة وهو من إخراج وتايلور هاكفورد وهو سيرة درامية ذاتية عن تاريخ هذه الاسطورة وأيضاً عن تجاربه الرومانسية وعلاقاته مع النساء وتجربة الأديان المعروفة مع المخدرات. ما أثارته من ردود فعل واسعة حيث الاحتجاجات الواسعة بسبب الجدل الذي أثاره الفيلم من آراء واختلافات واتفاقات على الجانب الاخلاقي والاجتماعي وأجد من الضروري التذكير بفيلم روب كوهني " ملك العراة 2009" وهو ايضاً سيرة ذاتية عن صانع الافلام الذي ذهب كثيراً في توظيف الايروتيك . حرر المؤلف جهده الفني الجديد الذي استطاع الاهتمام بصرياً بالأعمال الفنية المكتسبة بالسيرة الذاتية، وتوصل بنجاح واضح إلى الكم المتبوع من هذه التجربة التي حررها في التوظيف المحدد والضيق بتفاصيل حياة شخص ما معروف في التاريخ ومزاولات الفن والسياسية ، اعتبرها أفلاماً خاصة عن سير الحياة، بمعنى تعامل مع سيرة الحياة، بوصفها جزءاً جوهرياً من حياة عامة ، إتسعت كثيرا لتقدّم وبنجاح توصيفات حيوية عن شخص ، توفرت له إمكانات ، وقدرات مميزة له ، كي يكتب دوراً مهماً في التاريخ السياسي والثقافي والاجتماعي . وهنا تبرز أهمية السينما وضروراتها في تقديم حياة ومازالت حاضرة لشخص من الشخوص الذي لعب على ما تستحق عليه مشروعاً سينمائياً وذلك " من أجل فهم أفضل لعصر معين ، وتبصر مباشر في التاريخ ، حين نتعرف على سيرة شخصية ما ، فإننا نخير عصراً بأكمله . قال نتيشة عن غوته " إنه حضارة بأكملها" وغوته مثل سائر الرجال العظام في كتابه عن الاستشراق وتوجهه بالنسبة لنا . . وغالباً ما تكون السيرة الشاملة ، إذ تكون لديك حياة أفكار . جوهر شخصية ، كلها في مكان واحد . وحياة فرد تكشف عن الحقائق الكونية وعن الحالة الانسانية ، فالسيرة تقشر الأسطرة الموجودة في الشخصية المقدمة في السيرة عنها . بحيث تراها بحضورها الإنسان أكثر بكثير مما كانت عليه في عناصرها الغرائبية. توفر أفلام السيرة الذاتية للمشاهد إمكانات ثقافية وفنية واجتماعية عن المعبر عنه أي تحفزنا على معرفة الذات واكتشافها مع إمساك شبكة من المعلومات والأفكار. أشار الناقد علاء المفرجي في القول بأن السيرة هي البحث عن إنموذج المثال أو حسب تعبير تاركوفسكي التوق إلى المثال فكل فرد يجرب عملية معرفة الذات ويستفيد من خلاصة المعرفة الانسانية وكل فرد يرهقه التوق على التوحد مع المثال. واستحالة تحقيق ذلك التوحد كما يقول وعدم فعالية "أناه" الخاصة هو المصدر الدائم لشعور الانسان بالألم وعدم الاشباع/ ص20. وأكد الناقد على أن السيرة تاريخ والتاريخ كما يقول منظر السينما كريستيان ميتز هي خطاب مقنع يطمس إشارات أضاحي ويتنكر بشكل قصة وفي السينما، يدعو هذا إلى استجابة تلصصية بدلاً من أن يواجه نظراتنا مباشرة وهذا أيضاً يتيح لنا للنظر فقط بل المشاركة والحضور. بهذه الطريقة يطرق ميتز فكرة "ايديولوجية" الأفلام ، والمشاهدون يتقاسمون ايديولوجية مشتركة هذا التقاسم يدعم أساس السينما . وهي ايديولوجية تحدد بنية فكرة المشاهد شيء يبقينا على مقربة من وضع أناني لا يمكن تبريره تلصصياً انما سار . لعبت السينما المعنية بالتاريخ وشخصياته دوراً بارزاً وتمظهر هذا في التميز الذي حظيت به شخصية البطل الممتلك والمشيع حسب تعبير الناقد الفرنسي بازان . بمعنى لعبت دوراً واضحاً في علاقة مجاورة ووثيقة جداً بالكشوف الخاصة بالتاريخ. لم يغفل الاستاذ علاء المفرجي دور السينما العربية في تقديم السيرة لكنه أكد على محدودية هذا الفضاء وبذلك قد قدم إشارة ذكية حول ذلك وسجل تاريخياً إن السينما المصرية الأقدم وذات التجربة المهمة بين التجارب العالمية، وأشار إلى أبرز أفلام السيرة وهو فيلم الناصر صلاح الدين عام 1963 إخراج يوسف شاهين وأيضاً فيلم قاهر الظلام إخراج عاطف سالم عن سيرة طه حسين وفيلم سلطانة الطرب عن الفنانة منيرة المهدية إخراج حسن الإمام كما ظهرت حياة المطرب عبد الحليم حافظ في فيلم سينمائي. وهناك أعمال مثل أبو حنيفة النعمان وعمر بن عبد العزيز حققت نجاحاً بارزاً ولم ينسَ المفرجي مسلسلات أم كلثوم وأسمهان وصباح.