قضايا وآراء

المغرب المتخيّل في مشروع النموذج التنموي الجديد

امحمد مالكي
1300x600
1300x600
تضمّن العنوان الفرعي للتقرير العام الخاص بـ"النموذج التنموي الجديد"، المقدم للعاهل المغربي يوم الثلاثاء (25 أيار/ مايو 2021)، مفردات بالغة الأهمية، وذات دلالات عميقة، وأبعادا استراتيجية، هي تحديدا: تحرير الطاقات، واستعادة الثقة لتسريع وتيرة التقدم، وتحقيق الرفاه للجميع. والحقيقة أن أعزّ ما يطلب في مغرب اليوم هي بالذات هذه الأهداف، التي إن تحققت ستغير جذريا أوضاع المغاربة، وتضع المغرب بكامل مكوناته على سكة الرفاه، بمعانيه ومضامينه العامة.

لا شك أن التقرير - الذي صدر في 152 صفحة، واستغرق إعداده قرابة السنتين (2019- 2021)، من قبل لجنة ملكية من 35 عضوا، جمعت كفاءات متعددة الخلفيات، والتخصصات، والتجارب - يعكس جهدا جماعيا ألزم أصحابه باعتماد آليات الإنصات لمطالب المجتمع وتطلعاته، والتحاور مع صناع الرأي والقرار في الاقتصاد، والسياسة، والثقافة، والمجالات لترابية، كما قادهم إلى تجميع المعطيات والأفكار والتحليلات على تنوعها واختلافها، وإعادة ترتيبها، وتنظيمها، وصياغتها في رؤية تتوافق مع الغرض من مشروع "النموذج التنموي الجديد"، كما حددت مصادره الخطب الملكية المتعاقبة سنوات 2017 و2018 و2019.

فبإطلالة على فحوى العمل التواصلي الذي اعتمدته اللجنة، يمكن تقدير حجم المجهود الذي كان وراء هذا التقرير. فهكذا، تفاعل مع اللجنة بشكل مباشر أكثر من 9700 شخص، و1600 من خلال جلسات الإنصات والاستماع، علاوة على ذلك حصلت على 6600 مساهمة مكتوبة، منها المقدمة إلى اللجنة مباشرة، وأغلبها عبر منصتها الرقمية، ناهيك عن 3800 مساهمة موجهة إلى التلاميذ والطلبة ونزلاء المؤسسات السجنية، أي الإصلاحيات.

وقد شكلت كل هذه المعطيات الرصيد الذي اشتغلت عليه اللجنة بالتفكيك والتحليل والفهم وإعادة البناء والصياغة. والواقع لم يكن تشخيص اللجنة للعوائق التي عطلت التنمية في البلاد وجعلت نتائجها محدودة بعيدة عن الواقع، بل كانت متوافقة معه، ومعبرة بشكل عميق عن مصادر خيبة الأمل التي تعبر عنها شرائح واسعة من المغاربة تجاه ما آلت إليه أوضاعهم العامة، بعد مرور أكثر من ستة عقود على استقلالهم والشروع في إعادة بناء دولتهم الوطنية.

فتشخيص اللجنة في ضوء جولات مشاوراتها واستماعها وحواراتها، قادها إلى تحديد أربع مصادر للإعاقة في تجربة التنمية في المغرب، أي في النموذج التنموي الجاري به العمل، هي تباعا: غياب الانسجام بين الرؤية التنموية والسياسات العمومية المعلن عنها، ثم بطء التحول الهيكلي للاقتصاد، وثالثها محدودية قدرات القطاع العام في صياغة خدمات عمومية سهلة الولوج، وأخيرا الشعور العام بضعف الحماية القضائية.

فحين نقرأ الخطب الملكية المُشكلة لمصادر بروز فكرة إعداد نموذج تنموي جديد، يجبّ الموجود، ويفتح أفقا نوعيا قادرا على إطلاق مشروع مجتمعي مغاير، يطلق القدرات والطاقات، ويضع الاقتصاد على طريق التقدم، وينجز العدالة الاجتماعية الضرورة لتحقيق رفاه الجميع، نجد أنها نفسها العوائق التي كبحت التنمية في المغرب، وكانت مسؤولة عن الاختلالات التي أضعفت قدرة المغاربة على الانتقال التدريجي الحقيقي نحو التقدم. لذلك، حين قارن معدو التقرير في قسمه الأول بين "مغرب اليوم ومغرب الغد"، أي المغرب المُعاش والمغرب المتخيل، وخلصوا إلى أن "التغيير ضروري ومستعجل"، أفردوا القسم الثاني من التقرير بكامله لـ"النموذج التنموي الجديد"، أي "مغرب الغد"، أو المغرب المتخيل، وحددوا سقفه الزمني في العام 2035.

ينهض "النموذج التنموي الجديد" في متن التقرير على ثلاثة عناصر، يتعلق أولها بـ"طموحنا من أجل مغرب في أفق 2035"، ويخص ثانيها "المرجعية الجديدة للتنمية"، القائمة على: "التوجه التنظيمي الجديد"، و"المبادئ المشتركة للعمل"، و"التزامات الفاعلين"، و"إطار ترسيخ الثقة والمسؤولية". أما العنصر الثالث، فيتعلق بـ"المحاور الاستراتيجية للتحول"، وقد حصرها التقرير تباعا في أربعة، هي: "اقتصاد منتج ومتنوع، وقادر على خلق قيمة مضافة ومناصب شغل، ورأسمال بشري معزز وأكثر استعدادا للمستقبل، وفرص لاندماج الجميع وتوطيد الرابط الاجتماعي"، و"مجالات ترابية قادرة على التكيف".

إن مغرب الغد، أو المغرب المتخيل، الذي يتطلع التقرير إلى تحقيقه في أفق 2035، لن يتحقق بدون الإقدام بإرادة صادقة على خطوات جريئة وشجاعة ومؤلمة في الكثير من الأحيان، والقراءة الموضوعية لنص التقرير، على الرغم من الجهد الواضح الي قام به أعضاء اللجنة في أعداده، لا تقنع بقدرة الحلول والاستراتيجيات المقترحة على تحقيق مغرب الغد. فمن مفارقات التقرير أن منسوب جرأة أعضائه كانت أقل من المساحة الواسعة المعبر عنها في الخطب الملكية، كما أن من مفارقاته أن اللجنة تجنبت الكشف عن المصادر العميقة لأزمة التنمية في المغرب، وطرح الأسئلة الحقيقية المسؤولة عنها، والإجابة عنها بكل جرآة..

هناك في الواقع حيرة واضحة اكتنفت صياغة التقرير، وعبرت عن إصرار أعضاء اللجنة على تجنب إبراز أسباب الداء، والحلول الجذرية للتعافي منه، سواء في الاقتصاد بكل روافده، أو في القيم الناظمة للسياسات العمومية، وممارسات النخب بكل أنواعها، أو في الثقافة السياسية الموجهة للدولة ومؤسساتها وعلاقتها بالمجتمع ومكوناته.

بناء مغرب الغد مرتهن بالقطيعة مع مغرب اليوم، وإذا كان قدر المغاربة أن يظلوا مرتابين وخائفين من القطيعة، وميالين دوما لى الإصلاح، فالأجدى أن يكون أصلاحا جديا حاملا بذور التغيير الممكن.
التعليقات (0)