كتب

نظام التفاهة.. قراءة هادئة في مكونات الدولة المعاصرة

هل فعلا تحول العالم إلى نظام التفاهة؟ كتاب يجيب- (عربي21)
هل فعلا تحول العالم إلى نظام التفاهة؟ كتاب يجيب- (عربي21)

يقدم الكاتب والباحث الفلسطيني أحمد الدبش، اليوم قراءة في كتاب "نظام التفاهة"، للكاتب الكندي آلان دونو، في محاولة للإجابة عن سؤال "لماذا تتلاشى القيم وتتهاوى بدل أن تترسخ وتنمو؟" وهي قراءة تتكامل مع قراءة سابقة للكاتب والباحث المغربي بلال التليدي، نشرناها هنا في "عربي21"، بعنوان "هل آل العالم إلى تحكم التافهين على رأس مؤسساته؟".

 

مرحلة تاريخية غير مسبوقة

 

في العام 2017، أصدر الأكاديمي ألان دونو (Alain Deneault)، أستاذ الفلسفة في جامعة كيبيك الكندية، كتابه "نظام التفاهة" (La mediocratie) باللغة الفرنسية، وقد لاقى رواجاً في كثير من دول العالم بسبب أطروحاته الجريئة، ومؤخرًا صدرت النسخة العربية عن دار سؤال للنشر ـ بيروت (ط1، 2020)، ترجمة د. مشاعل عبد العزيز الهاجري.
 
يتكون الكتاب من 368 صفحة من القطع المتوسط، ويتألف من مُقدمة، وأربعة فصول، وخاتمة.

يدور موضوع الكتاب حول فكرة محورية: "نحن نعيش مرحلة تاريخية غير مسبوقة، تتعلق بسيادة نظام أدى، تدريجيًا، إلى سيطرة التافهين على جميع مفاصل نموذج الدولة الحديثة. بذلك، وعبر العالم، يلحظ المرء صعوداً غريباً لقواعد تتسم بالرّداءة والانحطاط المعياريين: فتدهورت متطلبات الجودة العالية، وغُيب الأداء الرفيع، وهُمّشت منظومات القيم، وبرزت الأذواق المنحطّة، وأُبعد الأكفاء، وخلت الساحة من التحديات، فتسيّدت إثر ذلك شريحة كاملة من التافهين والجاهلين وذوي البساطة الفكرية، وكل ذلك لخدمة أغراض السوق بالنهاية، ودائماً تحت شعارات الديمقراطية والشعبوية والحرية الفردية والخيار الشخصي" (ص 13- 14).

تقول الهاجري: "كفاني المؤلف مؤونة أن أدبّج كتاباً مكرّساً لذلك، ومكنني، عوضًا عن إعادة اختراع العجلة، أن أكون مترجماً أميناً ـ ما استطعت ـ لأفكار الكتاب" (ص 16).

في مقدمة الكتاب يقول ألان دونو، "لقد تبوّأ التافِهون موقع السلطة" (ص 69). ينوه المؤلف إلى أن "التافهين لا يجلسون خاملين؛ إنهم يؤمنون بأنهم يعرفون كيف يعملون بجهد" (ص 73). لقد "أصبحوا جماعة مسيطرة الآن(...) يتربعون على قمة المؤسسات" (ص 74). فإن نظام التفاهة يقودنا إلى تسليم ملكة الحكم السليم إلى نماذج اعتباطية مُسوق لها من قبل السلطة" (ص 78). فالسلطة "تُعرف بالكلمات التي تشعر نحوها بالقدر الأكبر من الرعب: الابتكار، التعاون، الجدارة، والالتزام. يتبع ذلك أن كل من لا يُشارك في هذا الفكر المُدَلس سوف يواجه بالنبذ والإقصاء، وهو أمر سوف يتم، بطبيعة الحال، بطريقة مبتذلة تقوم على الإلغاء، والإنكار، والرفض" (ص 85).
 
يناقش المؤلف في الفصل الأول، وهو، "المعرفة والخبرة"، مسألة تسليع المعرفة الأكاديمية وبيعها للجهات الممولة للجامعات. وينقل عن الصحافي الأمريكي كريس هيدجيز، قوله: "إن الأكاديميين هم المسؤولون عن عللنا الاجتماعية" (ص 87). 

 

 

إن الجامعة ما عادت اليوم تبيع نتائج أبحاثها، وإنما تبيع علامتها التجارية تحديدًا، تلك العلامة brand التي تختم بها التقارير ،التي تمتلك حقوقها التجارية

 



وبحسب المؤلف، كانت المؤسسة الأكاديمية تشجع التفاهة، "فاليوم، ما عاد الطلبة مُستهلكين للتدريس وللشهادات المُقدمة في الحرم الجامعي؛ لقد صاروا هم أنفسهم سلعاً. فالجامعة تبيع ما تصنعه منهم إلى زبائنها الجُدُد، وتحديدًا إلى الشركات وغيرها من المؤسسات المٌمولة لهذه الجامعة" (ص 92). ومن هنا "يُصبح التفكير تافهاً(...) حينما يُوظف لخدمة الاقتصاد" (ص 94). 

ضمن اقتصاد كهذا، فإن الجامعة ما عادت اليوم تبيع نتائج أبحاثها، وإنما تبيع علامتها التجارية تحديدًا، تلك العلامة brand التي تختم بها التقارير ،التي تمتلك حقوقها التجارية" (ص 97). لقد "كانت الجامعة تعمل لعقودٍ الآن لجعل نفسها قابلة للتلاعب من قبل أي طرفٍ على استعدادٍ لتمويلها" (ص 101).

يذهب المؤلف إلى إن "قواعد الكتابة الأكاديمية تنحدر بالطلبة الذين يُرغمون أنفسهم على الامتثال لها أثناء وجودهم في الجامعة" (ص 110). وينقل المؤلف عن أستاذ علم النفس في جامعة هارفرد، فستيفن بنكر، قوله: "الكتابة الأكاديمية هي كتابة متعفّنة" (ص 111). 

ويشير الكاتب إلى "عدم الاهتمام، أو حتى الاحتقار الذي يستشعره الباحثون - كجماعة مهنية - تجاه العامة" (ص 113). ويصف المؤلف علاقة الطالب بالجامعة من خلال الإحالة إلى صورة شريك مؤذ في علاقة ما بالقول: "والآن، وقد صرت أسيرًا، فلن يمكنك الفرار من جملةٍ من الخطوات التي تمثل جزءا من البرنامج الجامعي، والتي غالباً ما يتكشف كونها أما طقوس إذلال عقيمة، أو ابتزازاً مرتبطاً بتمويل متدن إلى درجة المجاعة" (ص 150).
  
في الفصل الثاني، وهو،"التجارة والتمويل"، يشير المؤلف إلى المسؤولية المباشرة للممارسات التجارية عن كثير من أوجه الانحطاط المجتمعي، الأخلاقي التي آلت إليها حياتنا المعاصرة، والتي أدت إلى تمكن نظام التفاهة من مفاصل هذه الحياة. ويحدثنا دونو، عن التجارة والتمويل، مُتناولاً الاقتصاد، وبحسب الكاتب،"البرامج المصممة لتثقيف الناس حول الاقتصاد هي، بدورها أيضاً، تقصد إلى منعنا من إدراك أن هذا النظام هو في حالة تامة من الفوضى" (ص 180). ينبه دونو إلى أن "الصناعيبن شمال الأمريكيين [حققوا] المشروع المجنون سياسياً المتمثل في تدمير البنية الأساسية التصنعية للقارة، وذلك حتى يعيدوا توطينه في الصين بالدرجة الأولى، تاركين لشعوبهم وظائف في مجال الخدمات فقط" (ص 193). أما نتيجة ذلك تتلخص بالهوس المالي، والاقتصاد الجشع. 

يولى المؤلف في الفصل الثالث، وهو، "الثقافة والحضارة"، أهمية كبرى لموضوعات الثقافة، ويلفت أنظارنا إلى كونها صارت أداة هامة في توطيد أركان نظام التفاهة كما يحيط بنا اليوم. يقسم المؤلف الاقتصاد إلى" الاقتصاد الروحانيّ، الذي يجد أصله فينا كبشر (...) وهناك الاقتصاد الماديّ، الذي يتكون من الصفقات التجارية (...) هذا الصنف الأخير من الاقتصاد يتسبب في تآكل حركة وعواطف الصنف الأول. ولكن، بخلاف ما قد يِظن، فإن الاقتصاد الروحانيّ هو الذي يكون له الدور الفعال عندما يتعلق الأمر بمراكمة رأس المال" (ص 247).
 
في سياق متصل، يتوقف دونو عند القضايا المتعلقة بالفن، ودورها في نظام التفاهة الحاصلة اليوم، "من خلال اختراع فن جديد للخيال وتوسعته وتعزيزه، يصل هؤلاء الفنانون إلى قناعة مفادها أن أرباح الشركة الثقافية التي "تشارك في الاقتصاد" هي مجدية أكثر من أفكارها الجمالية، ذلك أنه أياً ما كانت هذه الأفكار، فإنها ستكون مقبولة بالنهاية من الجمهور المُستهدف من قبل حملة دعائية جيدة التصميم" (ص 268). ويطلق دونو على هذا الفن "الفن التخريبي المدعوم" (ص 289).

 

 

 

"أغلب أنظمة العالم البيئية مُهددة، لشركات البترول اقتصاديات أشبه ما تكون بالمافيا، أقوى من أية دولة؛ الإنتاج الإعلاميّ مصممُّ للتلاعب بناءً على أساسٍ من التجارب العصبية؛ الأجناس الطبيعية تنقرض؛ هناك قارة من البلاستيك المرميّ تتشكّل الآن في المحيط الهادئ؛ والتوترات تثور بلا هوادة في مناطق الصراع الجيوسياسي حول العالم"

 



يكرس الكاتب، الفصل الرابع، وهو، "الثورة، إنهاء ما يضر بالصالح العام"، للحديث عن الثورة، "فالثورة ـ التي تعني إسقاط المؤسسات والسلطات التي تدمر الصالح العام بشكل خطير وجعلها من الماضي ـ هي مهمة عاجلة جداً، حتى ولو كانت مجرد مسألة تتعلق بأشياء مثل حماية أي نظام بيئي ما زال يمكنه الإفلات من الدمار الأعمى الذي توقعه الصناعات الكبرى والأموال الطائلة، وحمل متخذي القرار الاقتصادي على إجراء تغييرات راديكالية على الطريقة التي يفكرون بها في البلايين من الناس الذين تم إفقارهم والذين يعانون إقصاءً مجنوناً يستشعرونه في دمائهم" (ص 301 ـ 302).

في ختام حديث دونو، يقول: "أغلب أنظمة العالم البيئية مُهددة، لشركات البترول اقتصاديات أشبه ما تكون بالمافيا، أقوى من أية دولة؛ الإنتاج الإعلاميّ مصممُّ للتلاعب بناءً على أساسٍ من التجارب العصبية؛ الأجناس الطبيعية تنقرض؛ هناك قارة من البلاستيك المرميّ تتشكّل الآن في المحيط الهادئ؛ والتوترات تثور بلا هوادة في مناطق الصراع الجيوسياسي حول العالم" (ص 363).  

ويتساءل المؤلف ما الذي يمكنني عمله؟! "أعمل بلا هوادةٍ لخلق توليفٍ من القضايا الوجيهة؛ التقِ مع آخرين في تجمعات بخلاف تلك الطائفية والشللية؛ اسخَر من الأيديولوجيات؛ اختزل المصطلحات التي تريد البروباغندا كتابتها في جوهر ذواتنا وحَوّلها إلى موضوعاتٍ مجرّدةٍ للتفكير؛ تجاوز أساليب السيطرة التي تمارسها المنظمات، وحاول خلق بنى تُشبِهُنا" (ص 365).

* كاتِب وباحِث فلسطيني

 

التعليقات (0)