مقالات مختارة

لماذا نجحت الثورة التركية بامتياز؟!

فيصل القاسم
1300x600
1300x600

لا شك أنكم تساءلتم وأنتم تقرؤون العنوان أعلاه: متى وقعت الثورة التركية؟ وهل هناك ثورة تركية أصلا؟ طبعا من حقكم أن تتساءلوا، فليس هناك ثورة تركية بالمعنى الثوري للثورة أبدا، لكن الحقيقة أن تركيا تقوم بثورة حقيقية منذ أكثر من عشرين عاما، نقلتها من عالم إلى عالم آخر تماما. لست هنا أبدا بصدد التطبيل والتزمير لحزب العدالة والتنمية دون غيره، لكن الأمانة الإعلامية والعلمية تحتم علينا أن نقارن وضع تركيا قبل وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة في عام 2002، بوضعها الآن بعد حوالي عشرين عاما من حكم الحزب المذكور.


ماذا كنتم تعرفون عن تركيا إعلاميا قبل ذلك؟ بماذا كانت تشتهر تركيا من قبل؟ كيف كان العالم والعرب خصوصا ينظرون إلى الإنسان التركي؟ لعل أشهر شيئين كانا يميزان تركيا هما الانقلابات العسكرية، وسعر الليرة التركية الذي كان مضربا للمثل في التدني والرخص. فلم نكن نسمع عن تركيا في وسائل الإعلام قبل وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة سوى أخبار الجنرالات والانقلابات. وقد كان كثيرون يتندرون ويسخرون من العملة التركية. ومن النكات التي كنا نسمعها في ذلك الوقت، أن شابا سوريا ذهب للعمل في تركيا، وبعد فترة اتصل بأهله في سوريا ليقول لهم: سأقوم بتحويل ملايين الليرات التركية لكم قريبا، فطارت عقولهم من الفرحة عندما سمعوا بالملايين التركية التي ستصل إليهم من ابنهم، لكنهم تفاجؤوا لاحقا بأن لا قيمة أبدا لملايين الليرات التركية، التي كانت قيمتها أرخص من الورق المطبوعة عليه. وذات يوم كان كل مليون ليرة تركية يعادل دولارا أمريكيا واحدا. لا عجب إذا أن فرح أهل الشاب السوري بالملايين لأول وهلة، ثم أصيبوا بالإحباط عندما وجدوا أن الملايين التركية لا تشتري كيلو لحمة.


من أهم إنجازات الثورة التركية الصامتة، أن تركيا انتقلت خلال سنوات قليلة من دائرة العالم الثالث إلى دائرة أقوى عشرين اقتصاد في العالم، وصارت الليرة التركية حلم الكثيرين بعد أن تخلصت من ستة أصفار، وصارت من العملات المحترمة في العالم. وحدث ولا حرج عن المدن التركية التي كان بعضها يفتقر إلى شبكات الصرف الصحي ومنها إسطنبول نفسها، حيث كانت الروائح الكريهة تنبعث من مياه المجارير، لتصبح اليوم من أجمل وأرقى مدن العالم، وتجتذب سنويا ملايين السياح. من كان يحب أن يقضي عطلته الصيفية في تركيا قبل تولي حزب العدالة السلطة في البلاد قبل عشرين عاما؟ أما اليوم فقد غدت تركيا مهوى أفئدة السياح من أنحاء العالم كافة. وغدا شراء شقة في أي مدينة تركية حلما لملايين البشر من معظم أنحاء المعمورة.

من أهم إنجازات الثورة التركية الصامتة، أن تركيا انتقلت خلال سنوات قليلة من دائرة العالم الثالث إلى دائرة أقوى عشرين اقتصاد في العالم، وصارت الليرة التركية حلم الكثيرين بعد أن تخلصت من ستة أصفار،       وصارت من العملات المحترمة


من كان يريد أن يحمل الجنسية التركية قبل عهد أردوغان؟ قلة قليلة جدا. أما اليوم، فقد بات القاصي والداني يتفاخر بحصوله على الجنسية التركية، لما باتت تتمتع به من سمعة عالمية. ما هي البضاعة التركية التي كان يشتريها الناس؟ ربما حلويات الراحة التركية، أما اليوم فقد باتت الصناعات التركية في كل المجالات تنافس الصناعات العالمية بامتياز، حتى في الصناعات الحربية. من منكم لم يسمع بطائرات بيرقدار المسيرة التي باتت تبلي بلاء حسنا في كل المعارك التي دخلتها؟ وحدث ولا حرج عن صناعة الأزياء والمطاعم والمواد الاستهلاكية. لقد صارت الملابس التركية تنافس الملابس الإيطالية والعالمية الأخرى بجودتها وأناقتها وموديلاتها، ناهيك عن أنها أرخص تكلفة بكثير.

 

هل شاهدتم المولات والمجمعات التجارية في مدن تركيا الكبرى؟ لا شك أنكم سخرتم من المولات الأوروبية التي تبدو مسكينة وكئيبة مقارنة بمولات إسطنبول العملاقة. من كان منكم يسمع بممثل أو ممثلة أو مسلسل تركي من قبل؟ أبدا، لكن الفن التركي الآن يغزو العالم وغدا الممثلون والممثلات التركيات على كل لسان. لقد غزا الفن والبضائع التركية مختلف أنحاء العالم، وعندما خرجت بريطانيا من الاتحاد الأوروبي توجهت فورا لعقد اتفاقيات تجارية مع تركيا دون غيرها؛ لتزويد بريطانيا بالسلع الغذائية والمنزلية.


هل كنتم تسمعون باسم أي شركة تركية تنافس الشركات العالمية في الإنشاءات والتعمير؟ بالطبع لا. أما اليوم فقد صارت شركات التعمير والبناء التركية تغزو العالم وتنافس بقوة على المشاريع الكبرى. ماذا كان يُقال عندما كان يُذكر اسم التركي في البلاد العربية؟ كانوا يقولون: «الحلاق». لم يكن هناك أي شيء آخر يشتهر به الأتراك خارج بلادهم سوى المهن البسيطة، لكن العالم بات اليوم يشير للأتراك بالبنان في كل المجالات الكبرى.


وبينما كان جنرالات تركيا منشغلين بالانقلابات بعضهم على بعض قبل حزب العدالة وأردوغان، صار الجيش التركي الآن يجوب العالم ويبني استراتيجيات خارجية غير مسبوقة في تاريخ تركيا الحديثة، وعاد الناس ليتذكروا الفتوحات العثمانية التاريخية.


هل هذه ثورة عظيمة أم لا؟ لقد أنجزت تركيا ثورتها دون قطرة دم واحدة بفضل النخبة السياسية والاقتصادية والعلمية والاجتماعية. لقد علمتنا التجربة التركية أن الثورات يمكن أن تحدث بشكل صامت دون دماء ومظاهرات وفوضى. وهذا ما فعله حزب العدالة والتنمية بقيادة أردوغان الذي تجاوز أتاتورك بمراحل في النهضة الصناعية والاقتصادية، ووضع تركيا على الخارطة الدولية. وعندما يتوفر القائد الوطني والحزب الوطني الحقيقي الذي همه النهوض ببلده وشعبه، فالجميع سيقف معه ويشد على يديه. الثورات تحتاج إلى أبطال وطنيين وهم يحشدون الطاقات والشعوب وراءهم، وهذا ما فعلته القيادة التركية التي جعلت الأتراك جميعا ينهضون في كل المجالات دفعة واحدة. لماذا؟ لأن الرأس نظيف ووطني، ولو كان الرأس فاسدا لفسدت البلاد والعباد، وكما يقول المثل: السمكة تفسد من رأسها، والثلم الأعوج من الثور الكبير. لكن النخب التركية كانت مضربا للمثل في الوطنية والأمانة، لهذا قادت ثورة ناجحة هادئة بكل المقاييس دون أن تطلق رصاصة واحدة، فالقائد الوطني يصنع وطنا وشعبا عظيما. وقد قلبت تركيا القول المأثور: «كما تكونوا يولى عليكم» إلى «كما يولى عليكم تكونوا». وسلامتكم.

كاتب وإعلامي سوري
[email protected]

 

(عن صحيفة القدس العربي اللندنية)

التعليقات (5)
أحمد العراقي
السبت، 12-06-2021 06:39 م
واضح أن عسكر تركيا كان لديهم درجة من الحياء تمنعهم من تزوير الانتخابات وتشكيل أحزاب يحكمون من خلالها، فكانوا يسمحون لمن يفوز بالأغلية بالحكم وتشكيل الحكومة شرط أن تبقى تركيا علمانية، أي أن عسكر تركيا هم حراس العلمانية، أما عسكر بلادنا العربية فليس لديهم أدنى درجة من الحياء، فهم يزورون الانتخابات ويشكلون الأحزاب التي يحكمون من خلالها وهم حراس الفساد.
باسم إبراهيم
السبت، 12-06-2021 05:34 م
تكملة لتعليقي السابق؛ أن القادة الوطنيين المخلصين أمثال ؛أندريس وأربكان؛ كانوا ينجحون في انتخابات بدون تزوير خلال هيمنة العسكر، وكانوا يقومون بإصلاحات اقتصادية ودينية ثم ينقلب العسكر عليهم، وأيضا أردوغان الوطني المخلص وصل للحكم خلال هيمنة العسكر، وقام أيضا بإصلاحات اقتصادية ودينية خلال هيمنة العسكر، ولكنه تعلم من الانقلابات السابقة وخدع العسكر في الداخل وحلفاءهم في الخارج حتى لقبه البعض بــ "ثعلب الأناضول"، وحينما حاول العسكر الانقلاب عليه قام الشعب "بـــــــــثـــــــــــورة" دموية أفشلت الانقلاب، إذا في النهاية قامت ثورة "دمـــــــــــــــويـــــــــــة".
باسم إبراهيم
السبت، 12-06-2021 05:00 م
لعل السر في هذا النجاح هو أنه لم يحدث أي تزوير في أي انتخابات منذ كمال أتاتورك وحتى خلال الانقلابات العسكرية وخلال فترات هيمنة العسكر، حتى في خلال جميع فترات هيمنة العسكر والانقلابات؛ كانت تتشكل أحزاب إسلامية لا يرضى العسكر عنها وكانت تفوز هذه الأحزاب بالأغلبية وتتولى تشكيل الحكومة ورئاسة الوزراء رغم عدم رضا العسكر عنها، وكانت هذه الأحزاب تقوم بإصلاحات اقتصادية وبتعزير الإسلام، ثم ينقلب العسكر عليها، ولكن لم يحدث أبدا في تركيا أن قام العسكر وهم مهيمنون على كل شئ بتزوير الانتخابات وبمنع الإسلاميين من تشكيل أحزابهم ومن رئاسة الحكومة وتشكيلها والقيام بالإصلاحات في حال فوزهم، وهذا هو السر في اختلاف عسكر وانقلابات تركيا عن أمثالهم في البلاد العربية.
محمد ماضي
السبت، 12-06-2021 09:41 ص
برافو أستاذ فيصل قاسم. نعم، من الممكن جدآ ان يتم تحقيق بناء إقتصاد و منشآت بلد معين عندما تكون النوايا حسنة و المقاصد وطنية بإمتياز. إن تجربة حزب العدالة و التنمية هي ليست فقط ناجحة بل و تستحق أن تكون مثلا يحتذى به في دول العالم العربي المنحط و المتخلف. لم ألتقي تركيا واحدا في بريطانيا يحب أردوغان و الجميع يشتم فيه و لكن، نظام الحكم في تركيا يعتمد على الإنجازات و ليس الشعارات الفارغة و السياسية الأوليغارخية كما هو الحال في لبنان.
أحمد
السبت، 12-06-2021 06:25 ص
انجازات اللير الترکي بين 2002 الي الانقلاب الذي لم يتم في 2016 کانت بسبب دور حزب العدالة و التنمية في تنفيذ الدور الترکي في مشروع القوات العالمية خصوصا في سوريا و اسرائيل و غيرهما. بعد فشل مشروع ولايات المتحدة في سوريا حدث الانقلاب في 2016 و وجد ترکيا أن الولايات المتحدة اتخذ خطوات الضرب علي الحزب العدالة و التنمية عوضا عن حمايته فأخذ أردوغان خطوات التباعد عن الناتو فحصل هبوط اللير الترکي 8.59 في هذه الأيام و هذا يشير الي خاتمة هذا الدور و تغيير سياسة الولايات المتحدة . فسنري تکرار تجربة ماليزيا ماهاتير محمد في ترکيا اردوغان ...