قضايا وآراء

سكك كامل الإنجليزي

ماهر البنا
1300x600
1300x600
غالبا ما تنشأ المشاعر في لحظات غير مرصودة، ومن أسباب وروابط غير واضحة وغير مباشرة، لكن تناميها وتحولها إلى أفكار يحتاج وقتا وبحثا ووضوحا. حاليا، في اللحظة التي أكتب فيها الآن، أشعر بالغضب، لكني أعلم أسبابه وقد ظهرت لي روابطه المباشرة، وما سأكتبه هنا ليس إلا محاولة للتفكير فيما إذا كانت مشاعري ستترجم إلى أفكار ومعان، أم ستظل كذلك، مجرد غضب.

أطالع الأخبار بصورة عشوائية تفرضها ظروف - لا مجال للحديث عنها الآن - خبر فني، يعقبه خبر رياضي، سياسة خارجية، على خبر فضائحي، على مقال رأي، وهكذا. اليوم صباحا حدث العكس، تتابع متواصل من مطالعة أخبار عن موضوع واحد: السكك الحديدية والوزير كامل الوزير. جاءت العناوين أولا، وتساندت لتسد الأفق أمام أي شيء آخر، وها هي أمامكم: السكة الحديد" تكتفي بمنشور للاحتفاء بمرور 170 عاماً على تأسيسها. وزير النقل في بريطانيا لبدء تسليم قطارات المونوريل الجديدة. وزير النقل: بريطانيا ستدعم جهود مصر في تطوير برامج الربط الإقليمي.

هذه هي عناوين ثلاثة أخبار عن موضوع واحد فيه كل عناصر الدراما الممكنة، هناك ما هو تاريخي، وهناك علاقة "عاطفية" معقدة للغاية، وهناك تشويق مما تحفل به دراما الجريمة، وهناك سخرية لاذعة. بقي أن نفكر في التفاصيل، وفي دلالات هذه الأخبار التي جمعتها مصادفة قراءتي لها متتابعة، وإن كنت أشك في أن المصادفة هي التي كونت عناصر تلك الأخبار. وحتى يكتمل هذا المدخل التمهيدي، فلتصاحبنا في التفاصيل كلمات سيد حجاب، ونتخيل، بما أننا: أنا ككاتب، وأنتم كقراء، لا نملك سوى أن نتخيل موسيقى عمار الشريعي، وصوت حسن فؤاد:

دنياك سكك.. حافظ على مسلكك
وامسك في نفسك.. لا العلل تمسكك
وتقع في خية.. تملكك.. تهلكك
أهلك.. يا تهلك.. ده انت بالناس تكون

في الخبر الأول نعرف أن هيئة السكك الحديدية نشرت على صفحتها الرسمية على موقع التواصل الاجتماعي (فيسبوك) وثيقة عقد إنشاء السكة الحديد المصرية، الذي جرى في الثاني عشر من تموز/ يوليو 1851، وقد وقعه ستيفان بك بالنيابة عن عباس باشا (عباس حلمي الأول)، وبورثويك بالنيابة عن روبرت استيفنسن، لإنشاء خط سكك حديدية يربط بين القاهرة والإسكندرية.

أنا لا أملّ أبدا من ترديد جملة للمؤرخ عبد الرحمن الرافعي، ذكرها في كتابه عن عهد الخديوي إسماعيل، فهو يمهد له بنبذة عن الخديويين السابقين: عباس الأول وسعيد، وفي الجملة الأولى من عهد عباس يذكر الجملة التي لا أمل من ذكرها: "كان عهد عباس رجعيا"، وهذا درس تاريخي لا أنساه منذ مراهقتي الأولى: مجمل سياسات عباس كانت خطأ، رجعية، غبية، إلى آخر ما يمكن أن يصفه به المؤرخ المنصف، لكن في زمنه جرى توقيع عقد السكك الحديدية.

في الفقرة التالية يذكر بيان السكك الحديدية أن عبد الله الإنجليزي باشا أول من تولى إدارة مرفق السكة الحديد عبر تاريخها، وكان ذلك في عام 1853. لا أعرف من هو "عبد الله" هذا، لكن لقبه يهمني، فمع نهاية الخبر؛ الذي يبرز أن السكك "محط اهتمام وأولوية قصوى في سبيل التطوير الشامل الذي ترعاه وتنتهجه القيادة السياسية لجمهورية مصر العربية، من أجل تحقيق التنمية الشاملة"، يقفز متن الخبر الثاني ليجعل من لقب "الإنجليزي" قوة سحرية مذهلة، وبالطبع لم ننس بما يتعلق الخبر الثاني، فالعنوان يخبرنا أن وزير النقل كامل الوزير، ذهب إلى بريطانيا كي يفتتح خط إنتاج قطارات تعاقدت عليها مصر.

كأن مصر لم تتحرك خطوة واحدة من عباس حلمي الأول (الرجعي) إلى عبد الفتاح السيسي (...) ضع يا عزيزي القارئ ما تراه مناسبا مكان النقاط.

كامل (...) وريث مباشر لعبد الله الإنجليزي، ومصر ما زالت تفتقر للقدرة على صناعة وسائل مواصلاتها، بعد نحو 170 عاما.

هذا مبعث الغضب، وهو يتعاظم حين ينقل الخبر ذلك "العار" كأنه بشرى. فالوزير "الوزير" أكد على أهمية توطيد أطر التعاون بين مصر والمملكة المتحدة في المجالات محل الأولوية، لا سيما في ما يتعلق بمشروعات البنية التحتية المستدامة بكافة صورها، وقطاع النقل لما له من تأثير مباشر على تحديث البنية التحتية لمصر، وتعزيز الربط وبالتالي دعم التنمية في العديد من المناطق داخل مصر، معرباً عن تطلعه لتعظيم الاستفادة من الخبرات البريطانية في هذا المجال الحيوي. يقول ذلك وهو يستعد لافتتاح خط إنتاج مشروع المونوريل، وتدشين عملية بدء تسليم قطارات المونوريل إلى مصر من مصنع الشركة بمدينة ديربي البريطانية.

صورة وصوت الوزير يغلفهما الضباب، وتحل محله صورة وكيل الخديوي. قرن وسبعون عاما ونحن نعجز عن تدبير شؤوننا بأنفسنا. يعرب وزير النقل عن تقديره للتعاون الثنائي (المصري البريطاني) القائم في مشروع المونوريل، بما يمثله من قيمة إضافية ملموسة ويخدم مصالح البلدين.

في الواقع أن هذا لا يخدم سوى مصلحة البريطانيين، العمال والمهندسين الذين يعملون في المصانع التي تنتج لنا وسائل مواصلاتنا، يخدم الوسطاء والسماسرة ولجان الفحص وكتابة العقود، يخدم من يريدنا كما كنا في عهد عباس؛ سوقا منهوبة ثرواتها، وبلدا متخلفا.

الخبر الثالث يستوجب كبح الغضب، والهدوء، فمعه ستبرز بعض تفاصيل المشهد، تفاصيل "الخطة"، حيث تتفاعل السياسة مع الاقتصاد، المصالح مع الاستبداد.

فقد شارك الوزير - عبر تقنية الفيديو كونفرانس - في الاجتماع الأول للجنة البنية التحتية للنقل واللوجيستيات التابعة للجمعية المصرية- البريطانية لرجال الأعمال والغرف التجارية.

عبد الله الإنجليزي لم يعد فردا، أصبح لجنة. ومن الخبر نعرف أنه شارك في الاجتماع السفير طارق عادل، سفير مصر في المملكة المتحدة، وأنيسا داتي، المدير الإقليمي للمكتب التجاري في القاهرة (بالإنابة عن سفير المملكة المتحدة بمصر)، ورؤساء وممثلو 20 من كبريات الشركات والبنوك والمؤسسات البريطانية الدولية.

كان البريطانيون، حكومة وشركات، يجهرون خلال السنوات السبع الماضية، بالتعبير عن الاستياء من أن نصيبهم من "الكعكة" أقل بكثير من منافسيهم: الألمان والفرنسيين، فهؤلاء حازوا على حصص كبيرة؛ الألمان في الكهرباء، والفرنسيون في السلاح.

وها هو الوزير يعيد تعبيد طريق عبد الله الإنجليزي، ويكشف أن مصر وقعت والمملكة المتحدة في كانون الأول/ ديسمبر 2020 في القاهرة، اتفاقاً شاملاً للتعاون دخل حيز النفاذ في كانون الثاني/ يناير 2021، يؤسس للتعاون بين البلدين على المدى الطويل. وكان صريحا للغاية، حتى أوشك أن يقولها مباشرة "أنا عبد الله.."، لكنه قالها بصورة أخرى: "العلاقات الاقتصادية بين البلدين تستند إلى تاريخ من التعاون المشترك في مختلف المجالات التجارية والصناعية والاستثمارية"، ثم ذهب مباشرة إلى ملامسة استياء الإنجليز وأزمات الخروج من الاتحاد الأوروبي، فذكر أن "التعاون الاقتصادي المشترك يهدف لتحقيق نقلة نوعية في معدلات التجارة البينية والمشروعات الاستثمارية للشركات البريطانية في مرحلة ما بعد البريكسيت".

أما ذروة الاتجاه "الإنجليزي" للوزير فكانت كشفه عن أن الاتفاقية تضمنت قيام البلدين بإعداد الدراسات الفنية ودراسات الجدوى، لعدد من مشروعات البنية التحتية المستدامة، ومن أهمها "برامج الربط الإقليمي مع الدول الأفريقية".

وهذه النقلة في الواقع، التي تمهد لها "سكك كامل..."، تنقلنا من "عهد" عباس إلى "عهد" توفيق.
التعليقات (0)