قضايا وآراء

قصص الرسل والرسالات في القرآن (3)

أحمد أبو رتيمة
1300x600
1300x600
في هذه الأيام المباركة، العشر الأوائل من ذي الحجة، تهوي أفئدة المؤمنين في الأرض شوقاً إلى بيت الله الحرام في مكة، ويأتي الحجاج من كل فجٍ عميقٍ لإحياء مناسك الحج التي يستذكرون فيها أحداثاً وقعت في الزمان القديم في ذلك المكان، فيسعون بين الصفا والمروة كما فعلت هاجر زوجة إبراهيم، ويرمون الجمرات ويذبحون الهدي اقتفاءً لملة أبيهم إبراهيم عليه السلام، ويقفون بجبل عرفة إحياءً لسنة رسولهم محمد عليه الصلاة والسلام.

ومن اللافت أن الفاصل الزمني بين قصة إبراهيم ومحمد عليهما الصلاة والسلام يجاوز 2500 عامٍ، فما الذي جمعهما في باقة واحدة؟!

إن إبراهيم عليه السلام يمثل إلقاء البذرة: "ربَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ".

بينما يمثل محمد عليه الصلاة والسلام قطف الثمرة: "اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشونِ. اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً".

يمثل إبراهيم عليه السلام الدعوة الخالصةَ من قلبٍ سليم: "رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ".

ويمثل محمد عليه السلام استجابة الله لهذه الدعوة: "كما أرسلنا فيكم رسولاً منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون".

أن تأتي استجابة الدعاء بعد نحو ثلاثة آلاف عامٍ فهي آية من الله تعالى أن الكلمة الطيبة لا تضيع أبداً، وأن الله يحفظ البذور وينميها حتى تستوي على سوقها.

واللافت أن مثَلَ الكلمة الطيبة والشجرة الطيبة ذكر في سورة إبراهيم تحديداً، ربما هي إشارة إلى أن إبراهيم هو خير مثال من التاريخ يبين هذا المعنى: "أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَآء تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ".

يحيي المسلمون في مناسك الحج كلَّ عامٍ ذكرى فداء إبراهيم وهاجر وإسماعيل حين كانوا وحدهم في مجاهل التاريخ وفي بطن الصحراء، ويحيون كذلك ذكرى تنزل آية كمال الدين وتمام النعمة في يوم عرفة، وربما يقرب لنا ذلك مفهوم انتصار الرسل في القرآن.

فالله تعالى يذكر أنه ينصر رسله في الحياة الدنيا: "إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ"، لكن كثيراً من الرسل لم يشهدوا انتصار رسالاتهم بمن فيهم إبراهيم عليه السلام. ومن الرسل من كُذِّبوا وأوذوا وقُتلوا، وربما يعني انتصار الرسل خلود رسالاتهم، لأن هذه الرسالات منسجمة مع قوانين الكون، وهذا ما تحقق مع إبراهيم عليه السلام، الذي يذكره اليوم مليارات المؤمنين عبر الأجيال صلاةً وتمجيداً، رغم انقضاء آلاف السنين على موته، وهو أمر لا يحظى به الملوك الذين فتحوا الأرض في أزمانهم وأخضعوا الشعوب لسلطانهم، ثم دالت دولتهم وانطوى سلطانهم.

"مصدِّقاً لما بين يديه"

يظنُّ الذين لم يتذوقوا حقيقة الإيمان أن رسالات الرسل والأنبياء هي عقائد متشاكسة أو أنها وجهات نظر مختلفة في قضايا اللاهوت، فيعتذرون بأنهم في حيرة وقد تاهوا عن الحق ولا يعرفون ما هي الطريق الصحيح إلى السماء. ويتورط بعض المسلمين في شيء من هذا حين يركزون جهودهم الدعوية على إظهار أوجه الاختلاف بين الإسلام والمعتقدات الأخرى، بدل التأكيد على وحدة الجوهر الكامن في الملل المتعددة: "لا نفرِّق بين أحدٍ من رسله"، "وَقُلْ آمَنتُ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِن كِتَابٍ".

يركز القرآن على حقيقة وحدة الرسالات، ومن الكلمات المفتاحية التي تبصرنا بالرؤية القرآنية كلمة "مصدِّق، تصديق" التي يذكرها القرآن كثيراً في سياق إظهار الصلة بين الرسالات المتعاقبة عبر التاريخ، فكل رسول يبعث ليصدِّق الرسل الذين سبقوه ويؤكد على دعوتهم.

و"َإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ".

الرسل ليسوا في حالة تعارض، بل إن جوهر رسالاتهم واحد، ومؤشر المؤمن الصادق من الدعيِّ الكاذب هو الإيمان بوحدة الرسالات، أما الانتقائية في تصديق رسول وتكذيب آخر فهو مرض بني إسرائيل الذي يفصِّله القرآن في سورة البقرة:

"وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ".

قضية الإيمان ليست قضية قرابة وعصبية قومية، فمن كان صادقاً في الإيمان بالرسالة فإن مقتضى هذا الإيمان أن يؤمن بأن الله ينزل الرسالات في كل الأقوام ويرسل الرسل من كل الأقوام، وأن طبيعة الإيمان تقتضي الوحدة ولا يجوز فيها الانتقائية. ومن يدَّعي أنه يؤمن برسول دون غيره فهو كاذب حتى في ادعاء الإيمان بالرسول الأول، ولو كان في زمان ذلك الرسول الأول لحاربه وقتله، لأن المؤمنين الصادقين متجردون للحق لا يخلطونه باعتبارات الشخص والقومية.

"وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ"

ما دام الرسل يبعثون برسالة واحدة ويصدق بعضهم بعضاً، إذاً لماذا يختلف أتباعهم ويقتتلون ويتنكرون لحقيقة أن الذين يختلفون تحت راياتهم هم في الأصل إخوة موحدون؟

يحدث هذا لأن الناس يفقدون صلتهم الروحية بالإيمان بينما يحتفظون بصورة المبدأ، ولو تأملنا سير المجتمعات والأمم الإنسانية لرأينا أن هذا قانون دائب لا ينقطع، فأصحاب الرسالات سواء كانوا رسلاً أو دعاة إصلاح؛ يتصفون بالإخلاص والتفاني في دعواتهم فيتبعهم المؤمنون الصادقون، وحين تنتشر دعوتهم بين الناس وتنقضي عدة أجيال بعدهم يقدسهم الناس، لكنهم لا يحتفظون بذات الروح التي كانوا يحملونها، إذ إن تمثُّل الروح يقتضي تجرداً دائماً ومجاهدةً متجددةً لابتلاءات الحياة، وهو ما لا يقدر عليه أكثر الناس، لكن من اليسير على أي أحد ادعاء وصل بليلى، فتلحق الأمم أنفسها بأسماء الدعاة المجددين وتتعصب لهم، لكنهم لا يظلون أوفياء لمبادئهم.

وبذلك يتحول أتباع الرسل إلى أعداء الرسل في الحقيقة وهم لا يشعرون، لأنهم يتخذون من اسم الرسول جُنةً للتعصب وتعزيز المشاعر القومية وتبني مشاريع استعلائية عدوانية ضد غيرهم من الأمم. حدثَ هذا مع موسى وعيسى ومحمد عليهم السلام، وحدث مع بوذا ومع الحسين، وحدث مع الدعاة المجددين وقادة حركات التحرر وصُنَّاع النهضة الذين حوَّلهم أتباعهم بعد أجيال إلى أصنام يشيدون لهم الأنصاب والتماثيل، لكن دون تمثل روح رسالاتهم.

"فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَٰذَا الأَدْنَىٰ وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِن يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِّثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِم مِّيثَاقُ الكِتَابِ أَن لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ".

رسالة أصحاب الرسالات في كل زمان أن يجددوا الروح، ويحطموا الأصنام، والأصنام هي حالة ضمور روحي وعطالة عقلية قبل أن تكون منحوتات حجريةً. إن مجرد تقديس أسماء الرسل والمصلحين لا يكفي لتجديد الإيمان ولإخراج الناس من الظلمات إلى النور، ولو كان مجرد الانتساب القومي إلى الرسل والمصلحين كافياً لنجا كل أهل الأرض، لكن أدعياء الانتساب إلى الرسل والمصلحين هم أنفسهم من يقترفون أبشع الجرائم والخطايا ويقولون سيغفر لنا، لذلك فإن مهمة الرسول هي مهمة تذكيرية: "إنما أنت مذكِّر"؛ أن يذكِّر الناس بحقيقة الرسل الأولى وأن يبث فيهم الروح من جديد، حتى يعلم الناس أن الإيمان ليس مجرد دعوى بل هو التزام أخلاقي ومجاهدة دائمة.

twitter.com/aburtema
التعليقات (0)