قضايا وآراء

هل كان زعماء حركة النهضة التونسية ثوريين؟ (2-2)

بحري العرفاوي
1300x600
1300x600

"الأحداث" أولئك، في غمرة ارتفاع منسوب العواطف، يريدون خروج الجميع إلى "الانتحار" استعجالا لنهاية الصراع تماما؛ كما العاجزين الفاشلين المهزومين الهاربين من استحقاقات الحياة
الغنوشي بين حماسة الثوار ولطافة الأفكار

 

حتى دعاة "العنف الثوري" لا يمكنهم المزايدة على ثورية الأستاذ راشد الغنوشي في البُعد الغَضبي للثورة، وفي حماستها وشعاراتها الراديكالية بوجه الاستبداد السياسي والحيف الاجتماعي، وهو صاحب التصريحات النارية المحرضة على التمرد الشعبي، وعلى العصيان المدني لكسر عقدة الخوف وتجرئة الجماهير على المستبدين، سواء في العهد البورقيبي أو العهد النوفمبري. بل إن بعض خصومه يتخذون من تصريحاته تلك دليل إدانة وحجة على كونه ليس رجل حوار وانفتاح، وهم يتعمدون الخلط بين الحوار مع الشركاء السياسيين والحوار مع قبضة الاستبداد، ويتعمدون الخلط بين الدعوة إلى الاستعصاء بوجه الأجهزة القمعية والدعوة إلى التعصب والتشدد مع المختلفين المخالفين.

من يتابع مواقف الرجل في مختلف محطات علاقته بالاستبداد، يكتشف ثوريته ومبدئيته وتمسكه بضرورة التأسيس لدولة الحرية والمدنية، وبالقطع مع نظام يصفه دائما بـ"المافيوزي". للتذكير، فإن الذين يعيبون عليه تعبيره في بداية حالة 7 تشرين الثاني/ نوفمبر 1987 عن ثقته بالله وبابن علي؛ فإنما يعيبون عليه ذلك لا ثورية منهم، وإنما غضبا عليه لكونه أفلت من "الهلاك" الذي تمنوه له ولرفاقه.

الذين يعيبون عليه تعبيره في بداية حالة 7 تشرين الثاني/ نوفمبر 1987 عن ثقته بالله وبابن علي؛ فإنما يعيبون عليه ذلك لا ثورية منهم، وإنما غضبا عليه لكونه أفلت من "الهلاك" الذي تمنوه له ولرفاقه

بعد 14 كانون الثاني/ يناير 2011 ظل الغنوشي يردد مفردة الثورة، ويهتف مع الجماهير في حماسة الشباب بالوفاء لدماء الشهداء، ويعد بمحاسبة المجرمين والفاسدين، ويُبشر بسقوط بقية المستبدين في مختلف أنحاء البلاد العربية.

كنت أعرف بأن البيئة التونسية في أبعادها الثقافية والاجتماعية والقيمية والسياسية، لن تَسْتَخْصِب مفردات "الثورة" و"الحرية" و"العدالة". وقد كتبت عشرات النصوص في هذا المعنى، وهي مستجمعة في ثلاثة أجزاء من كتاب "الثورة/ المعاني والأوهام". لم تكن البيئة التونسية تلك مُحصنة ضد الاختراق المخابراتي وضد تسلل عساكر "دولة الاستبداد"، وكثير منهم عادوا من بلدان عدة وبصفات مختلفة وبأنشطة متنوعة. شبح الاستبداد الذي داسته جماهير الغضب ذات شتاء ممطر ودموي، استطاع أن يستجمع أشلاءه ويستعيد ملامحه وينبعث من جديد؛ يقاوم بشراسة من أجل ألا يُحاسَب وألا يُنفى من المشهد السياسي والاقتصادي، بل والأمني والإعلامي والثقافي.

حين كانت الجماهير الحافية تردد في حماسة، ومعها بعض الزعماء السياسيين، شعارات "الثورة" وتهتف بالمحاسبة وبالذهاب إلى فلسطين، كانت الماكينة تستصفي زيوت محركاتها وتستبدل بعض قطعها المعطبة، وتنتدب عَملة لا يستنكفون من أي مهمة، حتى وإن كانت قذرة طالما كانت مصدر كسب، ولا تساؤل عما إذا كان حراما وعما إذا كان متأتيا من تهريب الأسلحة والمخدرات، ومن تصنيع الإرهاب وتوريد اللحى الاصطناعية وذبح قرابين من رموز سياسية، حتى تكون دماؤهم وقودا للفتنة والخراب واستجلاب التدخل الأجنبي في الشأن الوطني. فأصبح السفراء يتداولون على مقرات الأحزاب ويُبدون "النصائح" ويُقربون بين وجهات نظر الخصوم السياسيين، كما لو أن الجميع فقدوا الرشد وأضاعوا البوصلة وخرجوا من زمن "الثورة"، وابتلعتهم شهوة السلطة.
لم يكن بمقدور أيّ من قادة النهضة تجريع القواعد الغاضبة في الحركة "خلطةً سياسية" مُبتكرة بعنوان "التوافق".. التوافق مع من؟ وعلى ماذا؟ وإلى أيّ حدّ؟ ومن أجل ماذا؟ ولم يكن متاحا لأيٍّ من زعماء النهضة الحديث عن تعطيل قانون تحصين الثورة وقانون العزل السياسي

لم يكن بمقدور أيّ من قادة النهضة تجريع القواعد الغاضبة في الحركة "خلطة سياسية" مُبتكرة بعنوان "التوافق".. التوافق مع من؟ وعلى ماذا؟ وإلى أيّ حدّ؟ ومن أجل ماذا؟ ولم يكن متاحا لأيّ من زعماء النهضة الحديث عن تعطيل قانون تحصين الثورة وقانون العزل السياسي. الغنوشي كان يُعلّم الجماهير وهي تردد خلفه: "تحصين الثورة واجب بالحرية"، "تحصين الثورة واجب بالعمل"، "تحصين الثورة واجب بالقيم"، "تحصين الثورة واجب بالعلم". وكان بخطابه ينفذ إلى عقول متابعيه وأرواحهم، بل وكثير من خصومه، حين يؤكد ضرورة دفن "وصية الثأر" وعدم توريث الأجيال الأحقاد المدمرة، دون تعطيل العدالة من أداء مهمتها في محاسبة المعتدين.

لم يكن "الخروج" من الحكومة مستساغا لدى كثير من قادة النهضة وقواعدها، ولم يكن إمضاء خارطة الطريق محل إجماع مجلس الشورى. سيتأكد الغاضبون أن الرجل قد أنقذ الجميع - نهضة ومعارضة ووطنا - من الهلاك الذي استُدرج إليه شركاء "الربيع" في كل من مصر وليبيا وسوريا، وستكون مقترحات "القائد" مستقبلا مستساغة، وسيُترَك له المقود يتجول من فرنسا إلى أمريكا إلى الجزائر، حتى الصين الشعبية، أو ربما صين ماوتسي تونغ وثورة الثقافة.

لقد تجاوز الرجل في أعين الكثيرين مكانة "الحكيم" إلى "الرُّؤيوي"، وهي حالة تتجاوز الحكمة والفلسفة والسياسة إلى مرحلة "التلقّف" و"التشوّف"؛ حين يستشرف "الرؤيوي" بلطافته الروحية حقائق مما تُخبئه "الحُجب" ومختبرات الكيد والمكر.

التنازل عن موقع الرئاسة ليس قرارا سهلا، والبحث عن شخصية توافقية يجد فيها الجميع أنفسهم عملية تستدعي قدرا من التواضع ومن الغَيْرِيّةِ ومن توسم الخير في الآخرين، وهو ما لا يتوفر عادة في السياسيين التقليديين الذين لا يرون في منافسيهم إلا خصوما أو حتى أعداء.

أعتقد أن تجربة الغنوشي في جانبها الفكري أو السياسي أو القِيمي ستمثل مادة استثنائية للباحثين والدارسين؛ ليس في العالم العربي فقط بل وخارجه أيضا. بقي التنبيه إلى ضرورة تحول هذا التمشي إلى منهج ورؤية تُصاغُ لكوادر النهضة وقواعدها، تتدارسها وتتفاعل معها تفاعلا واعيا، حتى تكون للحركة فلسفتها ومنهجها، وليس فقط زعيمها وحكيمها.

الغنوشي بدا في كامل مراحل الحوار منتجا للأفكار والحكمة، مؤسسا لقواعد الحكم وأخلاق الاختلاف وقيم التعايش. كان يؤكد أن حركته لا تحرص على الحكم، إنما تحرص على الاحتكام إلى القانون وإلى تحقيق الحرية والديمقراطية. ففي ظل الديمقراطية يختار الناس من يحكمهم وتتحقق سنة التداول على السلطة، وفي ظل الحرية يمارس الناس التعبير والتفكير والتنظّم والمعارضة، ولا يدخلون السجون كما دخلوها دائما.
لقد بدا الغنوشي فعلا على درجة عالية من الحِكمة، وهو ما أهّله وسيؤهله مستقبلا لـ"التحكم" في مسارات المشهد السياسي داخليا وفي تمدد العلاقات خارجيا، وهو يعلم ما تلاقيه التجربة التونسية من متابعة ومن اهتمام بالغ،

لقد بدا الغنوشي فعلا على درجة عالية من الحِكمة، وهو ما أهّله وسيؤهله مستقبلا لـ"التحكم" في مسارات المشهد السياسي داخليا وفي تمدد العلاقات خارجيا، وهو يعلم ما تلاقيه التجربة التونسية من متابعة ومن اهتمام بالغ، سواء من الكائدين يريدون إسقاطها أو من المُعجبين يريدون دعمها ومرافقتها.

يعتمد الغنوشي على نظرية ابن خلدون في كون "السياسة هي صناعة الخير العام"، وعلى نظرية ابن عقيل "السياسة ما كان فعلا يكون معه الناس أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد"، وعلى محصلة تعريفات الباحثين للسياسة كونها: فن المواءمة بين الممكن والمنشود، وبين ما نريده وما تفرضه الوقائع مما لا طاقة لرغباتنا عن دفعه كله.

إن السياسي الماهر هو الذي يجيد قراءة الواقع بتفاصيله وتعقيداته، ويقيم موازنة بين ما يطمح إليه وما تسمح به المعطيات والظروف. وهو الذي لا يخضع للعواطف، ولا يُكيف مواقفه وقراراته وفق ما تلهج به العامة من شعارات واشتهاءات. وهو أيضا من لا يتعلل بالمصاعب والتحديات للتنازل عن أهدافه ومبادئه الكبرى، أو للتراجع عن مسارات قطعها باتجاه المستقبل، خوفا وترددا.

وهو أشبه ما يكون بربّان سفينة تمخر عباب بحر يتناوب عليه المد والجزر، فيهدأ حينا ويهيج أحيانا؛ يُحاذر الربان أن تنقلب السفينة فيهلك المسافرون، ولا يجد حرجا في تجنب مناطق الموج وفي حذر العواصف، ولا تدفعه غريزة التهور لاقتحام المهالك حين يكون بالإمكان تفاديها، فلكَم أهلكت الشجاعةُ البلهاءُ بلهاءَ كثيرين لم يسجلوا في التاريخ انتصارا ولم يحققوا هدفا، وإنما ظلوا ضحايا وذبائح ومغدورين، يسخر منهم المؤرخون ويحملهم الكثيرون مسؤولية عذاباتهم وأحزانهم.

السياسي الفعال يعي أن له رسالة تاريخية، وأنه معني ببناء دولة وتقوية مجتمع، والمساهمة في إقامة حضارة وفي ممارسة الحياة؛ بما هي فعل دنيوي يقوم على التجريب والاجتهاد ومداراة الاختلاف وإدارة الصراع ومواجهة المخاطر بعقل وبصيرة ومسؤولية.

"العواصف" محطات لاختبار حكمة الإنسان وليس لامتحان شجاعته، وحدهم قصيرو النظر يسارعون إلى حسم المعارك بـ"الانتحار" استعجالا للخلاص الفردي وطلبا لـ"الشهادة"، وقد خُلقوا لكي يكونوا شهداء على الناس في بناء مجتمعات المعرفة والتقدم والرفاه والحرية والعدالة، وتلك أرقى درجات التعبد والنضال.

كثير من "الأحداث" صبيان السياسة ومنتجو شعارات "الثورة" يعجزون عن خوض معركة الأفكار والمعاني والقيم، ويعجزون عن تحمل مشاق النضال والكدح في معالجة الأعطاب النفسية والذهنية والقيَمية في شعبهم كمدخل حقيقي لممارسة الثورة، بما هي فعل في الإنسان وبالإنسان وفي الزمن وبالزمن داخل الأوطان وفي مسار التاريخ. "الأحداث" أولئك، في غمرة ارتفاع منسوب العواطف يريدون خروج الجميع إلى "الانتحار" استعجالا لنهاية الصراع تماما؛ كما العاجزين الفاشلين المهزومين الهاربين من استحقاقات الحياة واستتباعات استخلاف الله الإنسان في الأرض.

أمام هذه المعاني الكبرى يصبح الحديث عن مشاركة حركة النهضة في حكومة سياسية، مجرد عنوان فرعي في رؤية شاملة للفعل الإنساني وللمسؤولية الحضارية التي يتحملها المؤمنون أمام الله وأمام الشعب والتاريخ، مسؤولية خوض معركة الأفكار والمعاني والقيم ومسؤولية ممارسة حالة التدافع بين المتناقضات والمختلفات عملا بمبدأ "التعارف"، إخصابا للتجربة وتنمية للمهارات والقُدرات وبحثا عن التأثير والتأثر الإيجابي بين شركاء الوطن.

إن الاستبداد إنما يتأسس على حماقة ذهنية وعلى لوثة نفسية حين يزعم صاحبهما أنه الأعلم بالحق والحقيقة، وأنه الأرفع شأنا والأنقى سريرة فيتعامل مع الآخرين كما لو أنهم قاصرون له حق الوصاية عليهم، يتصرف فيهم وبهم كما لو أنهم "أشياء" بغير إرادة وغير وجهة نظر.

"الأحداث" أو صبيان السياسة، هم الأرفع صراخا اليوم والأكثر هرجا في موسم جني "الحكومة". يريدها البعض أداة للانتقام من "الخصوم" ومعولا لاستئصال نبات لا يرضاه، ويريدها آخرون عبئا ثقيلا على الفائزين بها يتحملونها وحدهم، فيفشلون عقابا لهم ونكاية فيمن انتخبهم من التونسيين. وهم بذلك لا يعبرون عن موقف من طرف سياسي "فائز" بمرتبة أولى أو ثانية أو ثالثة فحسب، وإنما يعبرون عن موقف سلبي من اختيار الناس بدل مراجعة النفس ونقد الذات استعدادا لمحطات الفرز القادمة.

"الأحداث" أولئك، لا تحركهم فكرة أو قيمة أو رؤية، إنما تحركهم عواطف وغرائز، وإذا ما - لا قدر الله - تكسرتْ الأواني وانسابتِ الأحقاد وماج بعضٌ في بعض، فسيكونون أول الهاربين بجلودهم بحثا عن مأمن، ولن يجدوا في أنفسهم استعدادا لـ"الشهادة" من أجل قضية لا يملكونها وليس لهم حولها تصور.

إن البحث في موضوع مشاركة حركة النهضة - رمزيا أو فعليا - في أي حكومة، لا يجب أن يُتناول ضمن نظرة ضيقة تقوم على الـ"مع" و"الضد"، إنما يجب أن يُتناول ضمن فهم عميق للمشاريع السياسية والأيديولوجيات المختلفة ولتعقيدات المشهد ولطبيعة الشخصية التونسية وللتأثيرات الخارجية.
المعركة القادمة في تونس هي معركة استنهاض الهمم واستعادة الوعي بمركزية الإنسان في كل مشروع سياسي أو ثقافي أو اجتماعي، حتى لا يكون شبابنا وقودا في محارق الحروب العمياء يخوضها المهووسون بالسلطة أو بالثروة أو بالأوهام

ثم قبل ذلك، نحتاج مساءلة النفس بهدوء عما نريده من ممارسة السياسة وعن الهدف من بناء حزب أو حركة: هل حركة النهضة هي مشروع سلطة، أم هي مشروع حضاري يهدف إلى بناء الإنسان ومعالجة القيم وتنقية العلاقات، وتغيير أساليب العمل في السياسة وفي المجتمع وفي كل مفاصل الدولة وتفاصيل الحياة، انطلاقا من تصور مختلف للعلاقات الإنسانية ولوظيفة الإنسان في الأرض وللهدف من الوجود؟

إن معارك السلطة والمواقع إنما هي معارك "الصغار" تحركهم الأحقاد والغرائز ونوازع الثأر، وهم أصغر من أن يبنوا دولة أو يحققوا ثورة أو ينتصروا للمظلومين أو يقيموا عدالة. إنهم عبيد "الأشياء" يلهثون وراء لعاب مالح ويتخفون بأعمدة الدخان.

المعركة القادمة في تونس هي معركة استنهاض الهمم واستعادة الوعي بمركزية الإنسان في كل مشروع سياسي أو ثقافي أو اجتماعي، حتى لا يكون شبابنا وقودا في محارق الحروب العمياء يخوضها المهووسون بالسلطة أو بالثروة أو بالأوهام، وحتى لا تكون السياسة ضربا من الحيل والمكر يمارسها المعقّدون والمُقعدون، بعيدا عن مصالح الناس وانتظاراتهم وكرامتهم وأشواقهم.

twitter.com/bahriarfaoui1

 

التعليقات (0)