أفكَار

في نقد التحديث العربي.. قراءة في النموذج الملهم "ماكس فيبر"

نقاش هادئ لأطروحات الفيلسوف الألماني ماكس فيبر في الحداثة  (عربي21)
نقاش هادئ لأطروحات الفيلسوف الألماني ماكس فيبر في الحداثة (عربي21)

ثمة حاجة اليوم إلى إجراء تقييم واسع للخطاب النهضوي المعاصر، لا سيما منه الذي جعل من التحديث رهانه المركزي، وجعل من التقليد والبنيات التقليدية العائق الأساسي ضد أي نهوض عربي.

غير أن هذه المحاولة التي تتطلب تتبع نماذج من الفكر التحديثي العربي، وبحث تبايناتها في القراءة (التشخيص) وفي خارطة الطريق المقترحة (المشروع) تتطلب بدءا التعرف على النموذج الحداثي الملهم، الذي حدد مفهوم التحديث ومفهوم التقليد، وفكك البنيات التقليدية ودورها في إعاقة مشروع التحديث، واقترح النموذج العقلاني للحداثة بمواصفاتها وخصائصها وشروط الانتقال إليها.

والحقيقة، أن النموذج الأكثر تماسكا ومنطقية، هو ما قدمته كتابات فيلسوف الحداثة الألماني ماكس فيبر، الذي أصبح مرجعية في نقد التقليد وفي استشراف الحداثة وتلمس معالم النموذج العقلاني التحديثي.

يحاول هذا الجهد البحثي، أن يعرض لمفاصل هذا النموذج بالانطلاق من بعض كتابات ماكس فيبر على أن يأتي في ورقة لاحقة دراسة معالم المشروع التحديثي العربي مع رصد تبايناته واختلافاته، وتقييم تعثراته وإخفاقاته.

النموذج التحديثي في منظور ماكس فيبر.. في البدء كان نقد التقليد

يصعب تناول مفهوم ماكس فيبر للبنيات التقليدية والبنيات الحديثة من خلال كتاباته، وذلك لاعتبارات متعددة:
 
ـ منها ما يتعلق أولا بالإشكال المترتب عن استقراء كل أعماله بما فيها التي قد تبدو غير ذات ارتباط بالموضوع. فكتابه مثلا عن "الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية" قد يبدو مرتبطا بتحليل العلاقة بين البروتستانتية والرأسمالية الحديثة، والوظيفة التي قامت بها البروتستانتية في توفير الأخلاق الضرورية التي ساهمت في تحقيق القدرة التنظيمية المضبوطة والتنظيم الرشيد والإدارة وفقا للمبادئ العلمية، والإنتاج من أجل السوق، والإنتاج للجماهير ومن خلال الجماهير، والتي تشكل في نهاية المطاف الخصائص الأساسية للرأسمالية، يبدو هذا الكتاب في ظاهره غير مرتبط بالموضوع، لكنه يظل في صلبه باعتبار النظرة التي يحملها فيبر عن الرأسمالية الحديثة باعتبارها إيذانا بانهيار البنيات التقليدية، إذ كان السؤال الأساسي الذي انشغل به ماكس فيبر هو محاولة تفسير أسباب ظهور الحداثة العلمية والتكنولوجية في أوربا الغربية وأمريكا الشمالية؟ ودور البيروقراطية الإدارية في التحديث ومن ثمة التقدم الصناعي؟ والعوائق المؤسسية التي تعوق تحول مجتمعات العالم الثالث إلى الحداثة ودور البنيات التقليدية في عرقلة هذا التحول.

ـ ومنها ما يتعلق بعلاقة إنتاجه النظري بسياقه الاجتماعي ومدى الصعوبة التي تطرحها نقل هذه المفاهيم من السياق الغربي إلى السياق العالم ثالثي. ولئن كان فيبر أفرد مجتمعات العالم الثالث بالعديد من الدراسات، ووسع مجال بحثه حتى تناول بالدراسة "الأخلاقيات الاقتصادية للدين" والتي شملت ستة أديان من ضمنها الإسلام، إلا أن ذلك لم يخرج عن إطار مناقشة الوظيفة الاقتصادية للمبادئ الدينية، دون البحث في الجوانب الأخرى المختلفة للدين والفروق المحتملة بينها.
 
ـ ومنها ما يرجع إلى التعقيدات التي تسم كتاباته والتي يصعب على الباحث أحيانا أن يتلمس مقصوده منها لا سيما ما يتعلق بالمفاهيم مما جعل هذه الكتابات تتميز من جهة بالثراء والغنى من حيث عمقها، وأحيانا أخرى بالتعقيد والغموض مما يجعل كتاباته عرضة لقراءات مختلفة.

بيد أن هذه الصعوبات التي قد تبرز بشكل مقلق عند تناول بعض المفاهيم النظرية التي استند إليها فيبر، لا تثار بنفس الحدة عند تناول مفاهيم أخرى ربما اكتسبت وضوحا أكبر في كتابات ماكس فيبر. ومنها ما يتعلق بالحداثة والتقليد، ومعايير الحداثة، وخصائص التقليد، وأشكال التحول من البنيات التقليدية إلى المؤسسات العقلانية، إذ يوفر كتابه: "الاقتصاد والمجتمع" الإمكانية لدراسة هذه المفاهيم بنوع من الوضوح في الصياغة، والتراتبية في البناء، فضلا عن وضوح الرؤية بخصوص خصائص كل البنيات والمؤسسات، وشروط تحولها، بل وحتى تطور مسار البنيات العقلانية نفسها.

العقلانية والتقليد في الفعل الاجتماعي:

تقوم نظرية ماكس فيبر على اعتبار علم الاجتماع علما تفسيريا يدرس الفعل الاجتماعي، ويعلله ويقدم تفسيرا له، ولذلك، اهتمت نظريته في علم الاجتماع كثيرا بالفعل الاجتماعي تحديدا، وضبطا، وتمييزا بين المستويات، وتركيزا على الفعل الاجتماعي العقلاني.

لا يهم في هذا السياق كثيرا الحديث عن مفهومه للفعل الاجتماعي، والعمق النظري الذي تناول به فيبر هذا المفهوم، بقدر ما يهمنا ما يرتبط بالموضوع، من تمييزه بين أنماط الفعل الاجتماعي، ومستوياته الثلاثة، تركيزه بشكل خاص على الفعل الاجتماعي العقلاني. فحسب فيبر، هناك ثلاثة مستويات من الفعل الاجتماعي، الفعل الاجتماعي العاطفي الذي يتحدد بالحالة العاطفية للفاعل، والفعل الاجتماعي التقليدي الذي يتحدد بأساليب سلوك الفاعل المعتادة، وهناك الفعل الاجتماعي العقلاني الذي يحدد فيه الفاعل أهدافه وغاياته من خلال نسق القيم المؤطر ويختار الوسائل التي تضمن له تحقيق هذه الأهداف في صيغ محسوبة مع قدرة كبيرة على التوقع.

يكتسب هذا التمييز عند فيبر أهمية خاصة، لكن ما هو أكثر أهمية في رؤية ماكس فيبر هو عدم إعطائه أهمية كبرى لنمطين من الفعل الاجتماعي (العاطفي والتقليدي) واهتمامه في المقابل خاصة بالفعل العقلاني، من حيث القيم المؤطرة لغاياته، ومن حيث سلوك الفاعلين في اختيار الوسائل التي تؤدي إلى تحقيق هذه الغايات. ولعل المسلك الذي اعتمده في إهمال النمطين الأخريين، اعترافه بكون علم الاجتماع ـ باعتباره علما يقوم على التعليل والبحث عن السببية في الفعل الاجتماعي ثم التفسير ـ يوفر الإمكانية لدراسة الفعل العقلاني، أكثر مما يوفرها مع الفعل العاطفي أو الفعل الاجتماعي التقليدي.

بنية السلطة بين الأشكال التقليدية والنسق العقلاني الحديث

تناول ماكس فيبر بنية السلطة من خلال بحث قضية الهيمنة في علاقة بالشرعية، وذلك حين اعتبر أن الهيمنة ـ يقصد بها هنا السلطة التي تأمر وتطاع من قبل مجموعة معينة من الناس سواء كانت الطاعة جزئية أو كلية ـ ترتكز على أكثر من أساس شرعيا أكان أم غير شرعي. غير أنه ميز السلطة بما إذا كان الأساس الذي تقوم عليه شرعيا. وهو ما يهمنا في هذا السياق لا سيما عند حديثه عن الصيغ أو القواعد الثلاث للشرعية: العقلانية، والتقليدية، والكاريزمية.

فالسلطة التي تقوم شرعيتها على الأسس العقلانية تتأسس على الاعتقاد في شرعية القوانين المنفذة وحق الحاكمين الذين وصلوا إلى السلطة عن طريق تلك القوانين في إصدار الأوامر.

أما السلطة التي تقوم شرعيتها على الأسس التقليدية فترتكز على الاعتقاد المؤسس في قدسية تقليد سحيق وشرعية الحاكمين الذين يمارسون السلطة على أساسه.

أما السلطة التي تقوم شرعيتها على أساس الكاريزما فترتكز على ولاء التابعين للصفات الكاريزمية الاستثنائية والبطولة والشخصية النموذجية للقادة والنظام المعياري الذي فرضوه.

البيروقراطية الخاصية المميزة للسلطة العقلانية

لعل ما ميز كتابات فيبر هو تركيزه الكبير على مفهوم البيروقراطية والكم الهائل من التنظير العميق الذي سيج به هذا المفهوم، ففي نظر فيبر، فإن ما يميز السلطة العقلانية هو البيروقراطية حيث اعتبرها في كتابه "الاقتصاد والمجتمع" أنقى أنماط ممارسة السلطة القانونية. ولعل ما لفت انتباه فيبر أكثر في البيرقراطية هو خصائصها ووظائفها (تحقيق أعلى درجات الفعالية، فحسب ماكس فيبر فالبيروقراطية هي أكثر الوسائل المعروفة عقلانية في ممارسة السلطة على البشر، ولا شيء يماثلها أو يشبهها من حيث الفعالية والدقة، والاطراد، والصرامة والمصداقية والمردودية لا سيما في الإدارة. ومع وعي فيبر بالتحديات التي تطرحها البيروقراطية ومخاطر تحولها إلى تهديد حقيقي لحرية الفرد، إلا أنه لم يجد أي سبيل للقطع معها فهي عنده بمثابة الشر الذي لا بد منه بالنظر إلى النتائج التي تحققها وللميزات العقلانية التي تتضمنها.

وبعد تحليله للبنيات التنظيمية التي تقوم عليها البيروقراطية، وتمييزه بين البنيات البيروقراطية (المؤسسات والوظائف التنظيمية التي تقوم بها) والمواقع البيروقراطية (الأشخاص البيروقراطيون الذين يشغلون مواقع ومهام داخل هذه البنيات) يخلص فيبر إلى أن البيروقراطية هي واحدة من أهم البنيات التقليدية في المجتمع الحديث. ومما يزيد من عمق فيبر أنه لم يجعل البيروقراطية خاصية مرتبطة بالنظام الرأسمالي، وإنما ناقشها حتى داخل النظام الاشتراكي منيطا المردودية والفعالية في الإنتاج بالبيروقراطية وكفاءة الأشخاص البيروقراطيين.

التمحور حول القائد الخاصية المميزة للبنيات التقليدية

وعلى عكس البنيات العقلانية الحداثية، فإن بنيات السلطة التقليدية تتميز بالتبعية للقادة، إذ لا تنبثق شرعية السلطة التقليدية كما رأينا من الاعتقاد عبر سلطة القوانين، وإنما بواسطة الاعتقاد المؤسس في قدسية تقليد سحيق وشرعية الحاكمين الذين يمارسون السلطة على أساسه. بناء على هذا التحديد، يرى فيبر أن ما يميز البنيات التقليدية هو ارتباطها بقوانين وقوى قديمة يلعب فيها القائد دورا حاسما، إذ القائد ضمن البنيات التقليدية ليس رئيسا داخل النظام ولكنه سيد مطاع، وكل الكوادر الإدارية تعتبر خدما يخدمون القائد وليسوا موظفين. ونمط العلاقة التي تربطهم بالقائد تقوم على الولاء الشخصي أكثر مما تقوم على العلاقات القانونية. 

 

ناقش ماكس فيبر من خلال المنهج المثالي، بنيات السلطة التقليدية في علاقة مع النموذج المثالي (النسق العقلاني) وفصل في خصائص هذه البنيات وميزاتها بالنظر إلى المواصفات المثالية المفترضة في النسق العقلاني، وانتهى في ملاحظاته ونتائجه إلى أن البنيات التقليدية تعوق عملية التحول نحو النسق العقلاني،

 



كما يتميز الكادر البيروقراطي بولائه للقوانين السائدة وللقائد الذي يتصرف باسمهم. فحسب ماكس فيبر، فإن الكادر البيروقراطي في السلطة التقليدية يطيع لأن القائد يحمل ثقل التقليد ولا يخضع في ممارسته للسلطة لأي حدود أو مبادئ رسمية كما هو النسق القانوني العقلاني، لذلك، لا يتصور في النسق العقلاني أن يخرج الحاكم عن هذه القواعد والحدود الرسمية، بينما يمكن للقائد في ظل النسق التقليدي أن يذهب بعيدا إلى الدرجة التي يتجاوز فيها حتى القوانين التي وضعها دون أن يجد أي مقاومة من قبل بقية الفاعلين. 

وقد لاحظ فيبر في سياق مقارن وجود مفارقات عديدة على مستوى خصائص الكادر الذي يشتغل في ظل النسق العقلاني والكادر الذي يشتغل داخل البنيات التقليدية، فهذا الأخير يفتقد المكاتب ذات مجالات العمل المحددة والخاضعة لقوانين غير شخصية. ولا يحكم عمله أي تراتبية عقلانية تنظم العلاقة بين الرئيس والمرؤوس، ولا وجود لأي نظام ثابت للتعيين والترقي على أساس العقود الحرة، والتدريب الفني غير معتبر في المواقع والمناصب.... 

وإلى جانب تحليل مواصفات البنيات التقليدية، قام فيبر بتحليل الأشكال المختلفة للسلطة التقليدية، إذ ميز بين شكلين قديمين من السلطة التقليدية:

1 ـ  سلطة حكم الشيوخ التي تتضمن حكم كبار السن.
2 ـ السلطة الأبوية والتي يحصل بها قادة على مواقعهم عن طريق الوراثة.

وينتقد فيبر هذين الشكلين ويعتبر أن كليهما يفتقد الكادر الإداري وبالتالي يفتقدان معا إلى البيروقراطية، لكن وفي سياق التمييز بين الشكلين التقليدين، يعتبر ماكس فيبر أن الشكل الأكثر حداثة هو السلطة الوراثية والتي تتمثل في هيمنة تقليدية لها إدارة وقوة عسكرية تابعة للقائد السيد للسيد.

البنيات التقليدية كعائق أمام التحول إلى الحداثة

وفي تقييمه لهذه الأشكال، انتهى فيبر إلى أن بنيات السلطة التقليدية بمختف أشكالها تعوق تطور العقلانية وتعرقل التحول نحو النسق العقلاني الحداثي، بل إنها حسب فيبر تمثل عائقا لنشوء بنية اقتصادية عقلانية ـ خاصة الرأسمالية ـ إضافة للمكونات المختلفة الأخرى لمجتمع عقلاني. 

كما ينتهي فيبر إلى أن السلطة الوراثية التي اعتبرها ـ كما سبقت الإشارة ـ الشكل الأكثر حداثة للتقليدية تسمح بتطور شكل معين من الرأسمالية (البدائية)، لكنها في نظره لا تتيح الفرصة لقيام النسق العقلاني الحديث مع لازمته الأساسية وهي الرأسمالية الحديثة.

خصائص النسق العقلاني الحداثي عند ماكس فيبر

يركز ماكس فيبر في ملاحظاته الدقيقة عن العقلانية التي تطبع  الرأسمالية الحديثة على أربع مميزات أساسية: 

1 ـ الفاعلية.
2 ـ  القابلية الحسابية.
3 ـ  الوضوح وإزالة الغموض.
4 ـ اللاإنسانية.

فبعد تأكيده على استقرار السلطة القانونية العقلانية في الغرب، والقطع مع السلطة التقليدية والكارزمية في هذه التجربة، وتفصيله للمميزات التي تطبع السلطة العقلانية، انشغل كثيرا بمناقشة الميزة الرابعة (السلبية) والتي تخص اللاأنسنة في هذا النسق العقلاني والتي تتمثل في اختزال البيروقراطيين إلى أشخاص صغار عديمي الأهمية في ماكينة بيروقراطية ضخمة وغير شخصية. كما فضل في فصول في كتابه الاقتصاد والمجتمع أهمية القانون ضمن النسق العقلاني وخصائص هذا القانون.

وبالجملة، لقد ناقش ماكس فيبر من خلال المنهج المثالي، بنيات السلطة التقليدية في علاقة مع النموذج المثالي (النسق العقلاني) وفصل في خصائص هذه البنيات وميزاتها بالنظر إلى المواصفات المثالية المفترضة في النسق العقلاني، وانتهى في ملاحظاته ونتائجه إلى أن البنيات التقليدية تعوق عملية التحول نحو النسق العقلاني، وأن الشكل الأكثر حداثة ضمن بنيات السلطة التقليدية لا يمكن أن يثمر في أحسن أحواله سوى رأسمالية بدائية لا تسعف في بناء نسق عقلاني حديث.


التعليقات (1)
ساهر كامل
السبت، 28-08-2021 07:25 ص
رحماك ربي, دلنا على السبيل. فإلى متى سنبقى راكضين لاهثين خلف خزعبلات وتخاريف كهنة الغرب