مقالات مختارة

الوهم البريطاني الكبير

مالك التريكي
1300x600
1300x600

شهدت هذا الأسبوع الندوة التي عقدت في تشاتهام هاوس مع السياسي الفرنسي ميشال بارنيي بمناسبة صدور النسخة الإنكليزية لكتابه عن مفاوضات البركسيت. وقد صدر الكتاب في الأصل الفرنسي بعنوان «الوهم الكبير: يوميات البركسيت السرية» أما في النسخة الإنكليزية فهو بعنوان «يومياتي السرية عن البركسيت: ذلك الوهم الباهر». وقد فهم الجمهور البريطاني أن في العنوان إحالة إلى كتاب «الوهم الكبير» الذي برهن فيه الصحافي البريطاني نورمان آنجيل، عام 1910، أنه لو وقعت الحرب بين القوة الصاعدة (ألمانيا) والقوة السائدة (بريطانيا) فإنها ستكون حربا لا معنى لها ولا مكسب منها، وأن المصالح بين دول أوروبا قد صارت متشابكة تشابكا يوجب تغليب العقل وحفظ السلم. هكذا اشتهر «الوهم الكبير» لدى المهتمين بالعلاقات الدولية في بلدان اللغة الإنكليزية باعتباره نصا كلاسيكيا في البرهنة على تفاهة الحروب (بمعنى لاجدواها الاقتصادية)؛ ومن الطريف أن الكتاب صدر في نسخة أولى عام 1909 بعنوان «الخطأ البصري» (أو الانخداع البصري).


أما ما أراد ميشال بارنيي الإحالة إليه أوّلا، لمكانته في الذاكرة الفرنسية المعاصرة، فهو فيلم جان رنوار «الوهم الكبير» (1937) الذي يعدّ من أعظم أفلام القرن العشرين، حتى أن أورسون وللز قال عنه إنه أحد الفيلمين اللذين سيحملهما معه في الفلك لو عمّ الطوفان! إلا أن بارنيي لم يغفل عن التذكير بأن عنوان الفيلم مستوحى من كتاب آنجيل، حيث أن الفيلم يصور قصة مجموعة ضباط فرنسيين يخططون للفرار من الأسر في المعتقلات الألمانية أثناء الحرب العالمية الأولى وما ينشأ بينهم من علاقات وينشب من خلافات أساسها تناقض الانتماءات. والقاسم بين الفيلم والكتاب ليس العنوان فحسب، بل والمناداة بوجوب التحرر من النزاعات والحروب واتخاذ القرار الجماعي الحر بالسعي لتحقيق المصالح المشتركة وتعميق الإنسانية المشتركة.

 

وهذا هو جوهر موقف بارنيي قبل الدخول في مفاوضات البركسيت وبعد الخروج منها. بل إن إيمانه بفضائل التشاور والتعاون والتكامل بين دول أوروبا قد زاد رسوخا، حيث خاطب جمع الأكاديميين والصحافيين البريطانيين قائلا: أصارحكم بأني لا أزال إلى اليوم، رغم أربع سنوات من التفاوض الصعب المعقد، لا أفهم لماذا فضّل البريطانيون العزلة على الجماعة، وأوهام البركسيت على حقائق التعاون. ذلك أن البركسيت في رأي بارنيي طلاق، وليس في الطلاق كاسب أو فائز، بل إن كلا الطرفين خاسران منهزمان. وأضاف مازحا: لا أقول ذلك من منطلق التجربة الشخصية، فزوجتي إيزابيل معي هنا — تحياتي يا إيزابيل! — وإنما أعرف ذلك مما أشهده من محن المنفصلين وعذاباتهم.


وعندما فتح مجال الحوار كان ضمن الأسئلة الكثيرة سؤال من باحثة عن مدى جاهزية دول الاتحاد الأوروبي لمواجهة خطر الهجمات السيبرانية وأعمال التخريب الأخرى التي تشنها الاستخبارات الروسية، وختمت الباحثة سؤالها بالقول: وأتمنى لك موسيو بارنيي حظا سعيدا في انتخابات الرئاسة الفرنسية العام القادم! فأجاب: أريد أولا أن أقول إن الخاتمة جيدة جدا. هكذا تكون الخواتيم، لك جزيل الشكر. أما عن الخطر الروسي، فنحن فطنون ولسنا بالسذج ولا المغفلين.


كما أكد على تنديده المطلق بطروحات اليمين المتطرف في فرنسا، وقال إني دخلت سباق الرئاسة ضمن المتنافسين في تمهيديات حزب الجمهوريين حتى أساهم في طرح الحلول التي تقطع الطريق على اليمين المتطرف. أنا ديغولي (معتز بوطنيتي الفرنسية) وأوروبي (متمسك بمبادئ التعاون والتآزر). وعندما سئل عما إذا كان الاتحاد الأوروبي سيستقبل اسكتلندا بالأحضان، أجاب بأنه ظل على مدى سنوات يقابل جميع الأطراف، بمن فيهم نيكولا ستورجن زعيمة الحزب الوطني الاسكتلندي، لكن دون أن يدس أنفه في شؤون الدول. ومعروف أن اسكتلندا صوتت في استفتاء البركسيت عام 2016 بالبقاء في الاتحاد الأوروبي، كما أنها ما تنفك تطالب بعقد استفتاء حول الاستقلال عن المملكة المتحدة وتؤكد أنه سيعقبه، في حال النجاح، طلب فوري بالانضمام إلى الاتحاد الأوروبي. ومما رواه بارنيي أنه استقبل زعيم الانعزاليين البريطانيين نايجل فراج يوما في مكتبه ببروكسل بحفاوة ثم قال له عند الوداع: سيد فراج، هل لك أن تخبرني كيف ستكون العلاقة بين الاتحاد الأوروبي وبريطانيا بعد البركسيت؟ فأجاب فراج: حالما يبدأ البركسيت، لن يكون ثمة اتحاد أوروبي. سيصير في خبر كان..!
وختم بارنيي: إذن فغاية زعماء البركسيت الحقيقية ليست استعادة السيادة البريطانية، كما يزعمون، وإنما هي تفجير البناء التكاملي الأوروبي. إنهم لواهمون كبير الوهم، فليهنأ القوم بما وهموا! 

 

(عن صحيفة القدس العربي)

0
التعليقات (0)