أفكَار

النخب السياسية ومداخل التأثير.. دروس التجربة المغربية

النخب العربية وخيارات الإصلاح.. قراءة في التجربة المغربية- (الأناضول)
النخب العربية وخيارات الإصلاح.. قراءة في التجربة المغربية- (الأناضول)

منذ أزيد من ستة عقود ومشاريع الإصلاح بقيت مرهونة بالنخب. ولم تكن الجماهير ـ حتى لدى القوى السياسية التي كانت تشترطها وتضعها في عمق النضال الديمقراطي ـ أكثر من أداة وضرورة من ضرورات إدارة الصراع مع السلطة السياسية.

والمفارقة، أنه حتى في اللحظة الثورية، أو لحظة الحراك الديمقراطي في العالم العربي، والتي ظهرت فيها الهبة الاجتماعية، وبدأ الحديث عن تجاوز النخب، وحلول الجماهير الثائرة بعفوية محلها، استحالت بعد التخلص من رأس النظام في كل من مصر وتونس، إلى مركزية النخب في التماس الطريق نحو الانتقال الديمقراطي، أو ترتيب وضع ما بعد الثورة، كما استحال في الحراكات الأخرى إلى صراع النخب لحسم الصراع حول السلطة، بتكيف أو ممانعة للإرادات الدولية والإقليمية.

النخب وخيارات التجذر والإصلاح

ثمة مقدمات لا بد من استحضارها في عملية تحليل وضع النخب في المعادلة السياسية العربية، والخيارات التي تبنتها للتجذر في المجتمع وممارسة مهام الإصلاح:

ـ أول هذه المقدمات، أن البنية السلطوية أو شبه السلطوية، لا تراهن على هذه النخب إلا بشكل محدود، مما طرح مشكلة الجدوى من المشاركة لدى العديد من النخب الإصلاحية، بل إن الأمر دفع بعض علماء السياسة والمتخصصين في دراسة النخب السياسية العربية لملاحظة غريبة، تتعلق بمشاركة بعض النخب السياسية في العملية السياسية بمنطق الخسارة.

ـ ثاني هذه المقدمات، أن الإرادات الدولية، وتقديراتها الاستراتيجية للعلاقة بين الاستقرار والإصلاح، أو للعلاقة بين دعم الأنظمة الشمولية وتحصين مصالحها الاستراتيجية، أو للعلاقة بين دعم التحولات الديمقراطية وبين الاستقرار ومواجهة التطرف، تقلص فيها إلى مدى بعيد الرهان على النخب، إلا ما كان من النخب الحليفة التي تشتكي بعض القوى الغربية من عزلتها وهامشيتها ومحدوديتها في التأثير مثل النخب العلمانية في الوطن العربي.

ـ ثالث هذه المقدمات، يرتبط بحدوث تحولات حتى في الرهانات الدولية، التي كانت ترتكز على فكرة مركزية التحول الديمقراطي ودورها في الاستقرار السياسي وتحصين المصالح الغربية. فأمام واقع تجذر البنية السلطوية، وصعوبة تفكيكها في المعادلة العربية، بدأ الحديث عن نخب أخرى بديلة، غير النخب السياسية، وبرز مدخل الرهان على المجتمع المدني الذي ستبين التقييمات اللاحقة محدوديته.

ـ أما المقدمة الرابعة، فتتعلق بواقع الهشاشة والفقر، وتراجع مؤشرات التنمية، وما ترتب عنه من عدم توفير أرضية صلبة لتمدد النخب وتوسعها.

هذه المقدمات تسمح بمباشرة تحليل وضع النخب العربية، وطبيعة العلاقة التي حكمتها بالسلطة من جهة، والمجتمع من جهة أخرى وببعضها مع بعض من جهة ثالثة:

فعلى مستوى علاقتها بالسلطة، أنتجت النخب العربية، ثلاثة خيارات متباينة، أولها خيار الإطاحة بالسلطة، بنزع الشرعية عنها إيديولوجيا (الإسلاميون استعملوا الشرعية الدينية في هذا الصراع الإيديولوجي، واليسار استعمل الشرعية الطبقية) ومحاصرتها بالجماهير سياسيا لترتيب لحظة الحسم التاريخي معها.

التقييم العام لهذا الخط، يفيد بحصول تحولات كبيرة، جعلت النخب تتراجع عنه بشكل كلي، إلا في حدود جد ضيقة كما هو الحال بالنسبة لبعض النخب الإسلامية أو اليسارية الراديكالية التي انتهى بها الأمر إلى العنف بعد انسداد النسق السياسي أمامها. وثانيها، هو خيار التوافق التكتيكي مع السلطة لإنجاز بعض المهمات الاستراتيجية. فبعض النخب اليسارية، على المستوى الإيديولوجي، أنتجت مقولة التحالف مع السلطة، للتخلص من القوى الظلامية، وأن مواجهة الرجعية الظلامية مقدمة على مواجهة الرجعية السلطوية، في حين، تبنى الليبراليون، مقولة العروي (اللبرلة من فوق) التي سمحت بالتحالف مع السلطة من أجل تحديث ثقافي مهمته الأساسية القضاء على الإيديولوجية الدينية التي يتمترس خلفها الإسلاميون.

أما على المستوى السياسي، فأنتجت مقولات أخرى لتبرير هذا التحالف المؤقت مع السلطة لتحقيق مهام استراتيجية، مثل مقولة:" شرطية إضعاف قوى النكوص في المجتمع، في توفير فرص نجاح خيار النضال الديمقراطي.

تقييم هذا الخط، أنه أفضى إلى حدوث اختراقات للنخب من قبل البنية السلطوية، وبروز نخب سلطوية تتقاسم النخب التي تتبنى النضال الديمقراطي نفس المرجعيات، لكن برهانات سلطوية. وثالثها، هو خيار تفكيك البنية السلطوية، بخيار المشاركة من داخلها. لكن هذا الخيار انتهى في الأخير إلى طرح إشكال تمنيع الذات، وتقوية الموقع في موازين القوى عبر التحالفات، وإدراك تناقضات مراكز السلطوية، ومتطلبات الإسناد المجتمعي. 

ثم إن التجربة العربية في عمومها، أثبتت حدوث نكوص ديمقراطي، وحالة إحباط عامة لدى النخب الإصلاحية، بلغت حد الشك في جدوى المشاركة، وذلك بسبب عدم القدرة على تمنيع الذات، أو عدم القدرة على إدارة الصراع، أو عدم إنتاج خطاب سياسي أو خط سياسي يعرف إدارة الجدل بين الاستراتيجي والتكتيكي في أولويات الصراع.

ـ أما على مستوى العلاقة مع المجتمع، فيمكن أن نميز بين ثلاثة خيارات أيضا. أولها، خيار القطيعة، من خلال تبني مواقف حدية من التقليد الذي تمثله مرجعية الجماهير وقيمه والتراث الذي تنتظم فيه، مع خلق إشباعات تعويضية تمتلك قدرة تعبوية هائلة. فاليسار مثلا، ارتكز على مقولة البعد المادي في الصراع الطبقي، ومحورية القضية الفلسطينية في الصراع الاستراتيجي (قضية وطنية)، وجعل الجماهير، أو بالأحرى الطبقات الكادحة، في قلب معركة النضال الثوري ضد النظام السياسي وضد الامبريالية العالمية، في حين ركز على الحرية في مضمونها الاقتصادي دون السياسي، وجعل مطلب العدالة إيديولوجيته المركزية. وثانيها، هو خيار القطيعة والرهان على بناء منظومة معيارية جديدة، تستلهم كل عناصرها من النموذج الغربي، جاعلا من مقولة تقدم الغرب وضرورة التحديث للالتحاق به، سلاحه لتعويض الإشباعات الجماهيرية وتحقيق الإمكان التعبوي. وقد كان هذا سلاح النخب الليبرالية، التي ركزت على محورية الحرية في مضمونها السياسي، مع تهميش مطلب العدالة. وثالثها، هو خيار الانتظام في الهوية المرجعية ومنظومة القيم والرهان، والتدرج في بناء مفهوم الحرية والعدالة في ارتباط بالبعد الهوياتي. ويمكن أن ندرج الإسلاميين نموذجا لهذا الجواب. 

التقييم العام لمسار هذه الخيارات الثلاثة، أن القوى اليسارية تراجعت بفعل تهميشها أو بالأحرى إحداثها القطيعة مع الهوية والمنظومة المعيارية للأمة وإغفالها للمضمون السياسي للحرية، كما تراجعت التيارات الليبرالية بسبب تحول رهانها على الحرية إلى مجرد رهان على الحريات الفردية، في حين تقدمت الحركات الإسلامية، لأنها استطاعت أن تقيم معادلات واقعية للعلاقة بين الهوية والحرية والعدالة. وهذا ما يفسر استمرار امتداد قاعدتها ومحوريتها في أي عملية سياسية.

ـ أما على مستوى علاقة النخب بعضها ببعض، فيمكن أن نفرز ثلاثة خيارات مؤطرة، أولها، خيار التحالف في القضايا الاستراتيجية، مثل إسناد قضية فلسطين ومواجهة الهيمينة الامبرالية (الإسلاميين واليسار). وقد نشط هذا التحالف في فترات معينة، لكنه اضطر للتراجع بسبب الاختلاف في تقدير الموقف من البنية السلطوية وخيارات تفكيكها، وثانيها، خيار التحالف لإضعاف قوى النكوص في المجتمع (نموذج تحالف الليبراليين مع اليسار). وقد تراجع هذا الخيار بسبب اختلاف تقدير القوى لموقعها داخل السلطة، وبسبب الثورات العربية. والثالث، هو خيار التحالف للتقدم في الإصلاح وتحقيق الانتقال الديمقراطي (الكتلة التاريخية). وقد تشكلت محاولات جنينية لإنتاج هذه الصيغة للإصلاح من منظور السياسات العمومية، لكنها لم تستمر، بفعل تحولات الديناميات السياسية، وتدخل البنية السلطوية في تفكيكها.

النخب السياسية العربية وآليات التأثير وخطوطه:

يفيد الاستقراء العام للآليات التي اعتمدتها النخب السياسية العربية لتحقق التأثير السياسي، بحصر ثلاث خطوط أساسية، اعتمد الأول خط الرهان على الجماهير للضغط السياسي (مركزية الإيديولوجية في إدارة الصراع)، واعتمد الثاني، خط التموقع داخل بنية السلطة بوهم الإصلاح من فوق، في حين اعتمد الخيار الثالث، خط الإصلاح الديمقراطي بالرهان المشاركة السياسية.

 

تجربة الأستاذ عبد الإله بنكيران كانت مهمة غداة الحراك الديمقراطي، إذ حاول إحياء الخط الثالث، أي صيغة الإصلاح في إطار الاستقرار (الإصلاح في ظل النسق السياسي القائم)، فقد أنتجت هذه التجربة تجاوبا ملكيا، تعدلت بموجبه موازين القوى جزئيا، وتم تقديم مدخل دستوري للجواب عن الأزمة (خطاب 9 مارس 2011)،

 



التقييم العام لهذه الخطوط، على الأقل في التجربة المغربية، يفيد بأن خط الرهان على الجماهير انتهى عمليا بتفكيك اليسار، والقضاء على تركة الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، في حين، لم يكتب النجاح لخط المشاركة في بنية السلطة لإحداث التغيير من فوق، بسبب محدودية المواقع التي احتلتها النخب السياسية. أما الخط الثالث ـ خط النضال الديمقراطي ـ فقد انتهى، سواء مع تجربة عبد الله إبراهيم أو مع عبد الرحمان اليوسفي أو حتى مع عبد الإله بن كيران إلى تسجيل محدودية هذا الخيار، بسبب التحكم في العملية الانتخابية من جهة، وعدم القدرة على تحويل موازين القوى السياسية انتخابيا، وأيضا بسبب لاعقلانية السلوك الانتخابي في المغرب. فثمة حكومات إصلاحية مرت في تاريخ المغرب، حاولت أن تثبت إمكانية الإصلاح من داخل النسق، لكن تجاربها المحدودة، انتهت بالتشكيك في جدوى هذا الخيار. فقد ألقى عبد الرحمان اليوسفي محاضرة في بروكسيل وضح فيها عوائق تجربة الانتقال الديمقراطي، ثم انسحب من السياسة. في حين خرج عبد الله إبراهيم من التجربة، يحمل شعار أولوية الإصلاح الدستوري وهي الخلاصة نفسها التي خلصت إليها تجربة ابن كيران، حين دعا إلى إصلاح دستوري يوضح العلاقة بدقة بين المؤسسات، حتى يعرف من المسؤول ومن المحاسب.

وهكذا، وفي جميع الخطوط، فشلت النخب السياسية، وفشلت معها الحركة الديمقراطية، في أن تعدل موازين القوى، وتحقق تراكما سياسيا إصلاحيا يقنع بدوى الاستمرار في الرهان على هذا الخط.

تجربة الأستاذ عبد الإله بنكيران كانت مهمة غداة الحراك الديمقراطي، إذ حاول إحياء الخط الثالث، أي صيغة الإصلاح في إطار الاستقرار (الإصلاح في ظل النسق السياسي القائم)، فقد أنتجت هذه التجربة تجاوبا ملكيا، تعدلت بموجبه موازين القوى جزئيا، وتم تقديم مدخل دستوري للجواب عن الأزمة (خطاب 9 مارس 2011)، لكن، رغم الصلاحيات الجديدة التي أناطها الدستور الجديد لرئيس الحكومة، إلا أنها لم تكن تشكل في الواقع قاعدة لتغيير جوهري في موازين القوى لجهة أن يصبح القرار السياسي صدى للإرادة الشعبية. 

 

 

حاولت النخب أن تبحث عن آليات جديدة للتأثير من مدخل صيغة الإصلاح الديمقراطي، مثل استغلال التحديات الداخلية والخارجية التي تواجهها الدولة من أجل الضغط عليها لتقرير إصلاحات ديمقراطية، لكن هذا الجواب نفسه، لم يساعدها كثيرا على تحقيق التأثير الذي كانت تتطلع إليه.

 


هذا نظريا، أما عمليا، فقد كانت رؤية ابن كيران للعلاقة بين السلط في الدستور أكثر ارتباطا بالدينامية السياسية، منها بالوضع الدستوري نفسه، فابن كيران كان يرى أن الحكومة تعمل تحت رئاسة الدولة، وأنه يساعد الملك، فقد كان يتعامل مع الدستور بمنظار ديني، يستحضر مفهوم الطاعة، وعدم التنازع مع ولي الأمر، ومنظار سياسي يستحضر الديناميات السياسية وموازين القوى السائدة.

لقد حاولت النخب أن تبحث عن آليات جديدة للتأثير من مدخل صيغة الإصلاح الديمقراطي، مثل استغلال التحديات الداخلية والخارجية التي تواجهها الدولة من أجل الضغط عليها لتقرير إصلاحات ديمقراطية، لكن هذا الجواب نفسه، لم يساعدها كثيرا على تحقيق التأثير الذي كانت تتطلع إليه. فتجربة 20 فبراير وضعت النخب السياسية أمام مفترق طرق، إما مسايرة بعض التجارب العربية التي انتهت إلى تفكيك الدولة وإحلال الفوضى محل الاستقرار، أو الدخول في مواجهة مع السلطة، لا يدري على وجه التحديد إلى أي مآل ستنتهي، أم القبول بسقف وسط للإصلاح، يتم فيه الضغط على الدولة لتحقيقه، دون بلوغ السقف الذي رفعته الانتظارات المجتمعية.

تقييم هذا الجواب اليوم، يبين محدوديته، فلم تنجح الحركات الديمقراطية المشاركة في الحكم في تثبيت هذه المكتسبات، ولا في التقدم في موازين القوى، بل العكس هو الذي حصل، إذ وقع النكوص، واستعيدت المساحات التي تناولت عنها السلطة في سياق الأزمة الداخلية والإسناد الديمقراطي الدولي والإقليمي.

الخلاصة، تعيش النخب السياسية العربية اليوم أزمة عقل نظري، يطرح على الطاولة كل الكسب الذي حققته، وكل التجارب التي انخرطت فيها، والخطوط التي أنتجتها، ويحاول التفكير في صيغة جديدة يبرر الجدوى من وجود هذه النخب السياسية، ومدى قدرتها على استئناف دورها، وإصلاح العطب الذاتي (عطب الأداة الحزبية والسياسية) والتنبيه على مخاطر اختراقها من الداخل من قبل البنيات السلطوية، ومدى القدرة على إدارة التفاوض والتدبير الذكي لجدل الاستراتيجي والتكتيكي، فضلا عن الوضوح السياسي، وإمكانية بناء الموقف المتوازن الذي يرعى مصالح الدولة والمجتمع في آن واحد، وممارسة فن البوح السياسي الذي لا يكتفي بتنوير الجماهير وكشف جملة حقائق في العلاقة بين السلط، ولكنه يذهب إلى حد وضع الجماهير في صلب معركة الإصلاح، والوضوح الاستراتيجي في خوض المعارك السياسية والانتخابية.


التعليقات (0)