كتاب عربي 21

الحبّار: لعبة الملوك والرؤساء المفضلة

أحمد عمر
1300x600
1300x600
يصف دليل "لعبة الحبّار" التعريفي المسلسل بأنه دراما الكينونة، وهو من إنتاج كوريا الجنوبية، كتبه وأخرجه هوانغ دونغ هيوك. أصبح المسلسل دراما كوريّة تصدرت قائمة أفضل عشرة عروض تلفزيونية أسبوعية على نتفليكس، وأكثرها مشاهدة على مستوى العالم.

بلغ المسلسل المرتبة الأولى في تسعين دولة، بما في ذلك الولايات المتحدة والمملكة المتحدة.

تقول ترجمة المسلسل: يتبارى مئات اللاعبين الذين يعانون من ضوائق مالية ويرزحون تحت ثقل الديون؛ في مسابقة ألعاب أطفال، الإقصاء فيها يجري بقتل الخاسر، سعياً وراء جائزة مغرية، وسيفوز في نهاية اللعبة لاعب وحيد. أما جائزة حكم اللعبة وسيّدها الذي خصص لها أموالاً طائلة، وأحاطها بالسريّة خوفاً من القانون وأخضعها لقانونه، وجعل لها نفقاً تحت الأرض، فهي متعة القتل دفعاً للسأم والضجر. إنه يريد جائزة من جسم المتسابق أو روحه مقابل جائزته المالية، إنه قيصر روماني معاصر صنع حلبة سريّة تحت الأرض، يتصارع فيها المتسابقون بإرادتهم، لكنها إرادة مسلوبة بالديون أو منهوبة بالطمع، فلولا ديونهم وأطماعهم ما انخرطوا في اللعبة.

يقول الراوي في مقدمة المسلسل: إنَّ أصل اللعبة عائد إلى أيام الطفولة، وهي لعبة تشبه "الحجلة" في بلادنا. اللاعب يمشي على قدمين داخل الشكل الهندسي الذي يشبه الحبار المرسوم بالطباشير على الأرض، وهو خارجها مجبر على السير على ساق واحدة، فإن استطاع الوصول إلى رأس الحبّار فاز، وإن منع وحجز عنه، خاب وخسر. ويلعبها فريقان من الأطفال عادة.

بعضكم لبعض عدو:

نحن نحاول تأويل اللعبة بين المتسابقين الأفراد، أو بين الرؤساء والأمم، نستذكر قول الله تعالى في كتابه المبين: "اهبطوا بعضكم لبعض عدو". فصانع اللعبة وحاكمها المقنّع الغامض مجهول وكلّيّ القدرة، إنه شيطان عادل، وهو يستعيد اللعبة الأولى، بل إنَّ الحلقة الأخيرة تتذكر الإنجيل. والدراما تختزل الصراع عامة وتنفي ساعات الملل، ويمكن أن نستطرد فنتذكر رواية "الأخ الأكبر"، لكنها هنا مكتسية بجلباب الديمقراطية السابغ، وأن نستطرد أيضاً فنتذكر أسماء الحبار؛ الصبيدج والنواتي والأخطبوط والخذاق. والخذاق هو ذرق الحبار، يضلل به أعداءه.

يعتبر العلماء الحبّار من أذكى اللا فقاريات، هو حرباء البحر، فهو قادر على التلوّن والتشكّل بأشكال لا تقدر عليها حرباء البرِّ. وهو قصير العمر، فعمره لا يجاوز السنتين، ويستحيل إدراجه في نظرية التطور الداروينية التي أكل عليها الدهر وشرب، حتى أنَّ العلماء يفترضون أنه كائن من كوكب آخر. وما دمنا قد ذكرنا داروين فسنتذكر نظرية "الصراع من أجل البقاء"، وقد استحال لعبة نلعبها بشراً ودولاً، والحَكم يتسلى بدمائنا ويبادر إلى القتل عند الضرورة.

قرأت خبراً يقول: إنَّه في الربع الثاني من العام الجاري تمت أكثر من 300 ألف عملية مصادرة للمنازل من أصحابها في إسبانيا، بسبب عجزهم عن سداد ديون الرهن العقاري. أما في سوريا، فنزح نصف الشعب السوري هرباً من لعبة الحبار.

ولا بد أن ثمة من يتسلى بمشاهدة الرئيس وهو يقتل شعبه، الأمر كذلك في مصر وتونس، وهناك دول رازحة تحت الديون ومستعدة للمقامرة بمصائرها. والدخول في لعبة حبّار قاتلة، فقد باع آلاف مؤلفة من البشر بيوتهم بل وأعضاءهم ثمناً لتذكرة عبور البحر، سعياً إلى دخول لعبة أكثر إنصافاً، فرؤساء العالم العربي يخرقون قواعد اللعبة خرقاً سافراً.

الرؤساء العرب يلعبون الحبار:

أول من لعب لعبة الحبار هو قابيل الذي قتل هابيل، والجائزة كانت رضى الله وقد سعى إلى الرضى بالقتل، وفي المسلسل يباغت المحقق بأن أخاه المفقود هو الذي يدير لعبة الحبّار ويقتله.

وكان صدام حسين يثيب من يدل على أهله من خونة الحزب والوطن، وقد أكرم امرأة دلّت على ابنها الخائن حسب إعلام صدام حسين، فأحسن جائزتها، وكان يكلف الأخ بقتل أخيه الخائن، ويغرّم أهل المقتول بثمن الرصاص.

مسلسل الحبّار يلخّص عنوان فيلم أمريكي قديم: إذا أردت أن تعيش فاقتل. وقد اقتبس حافظ الأسد لعبة الحبّار، وجعلها سباقاً بين فروعه الأمنية المتسابقة إلى الكيد لبعضها من غير قتل، بل وأشاعها بين الشعب للفوز بجائزة رضى الأسد، والضحية هي الشعب السوري.

أما الغرب، فقد نصّب لعبة الحبار بين الدول العربية وغير العربية لتتصارع من أجل الفوز بجائزة الشرعية الغربية، وقد عقل الغرب بعد مآسي حربين عالمتين، وهما حربان أوربيتان وليستا عالميتين، وكفَّ عن التحارب مع أشقائه البيض إلى حين، وانصرفوا جميعاً إلى الاستمتاع بالحروب بين البلاد الإسلامية.

غزا عبد الناصر اليمن، وغزا الأسد لبنان، وغزا صدام الكويت، وغزت السعودية اليمن مع الإمارات، وذلك بإيعاز من الغرب أو إغراءً منه بها، وكادت أن تغزو السعودية قطر لولا أن تداركت قطر نفسها فتحالفت مع تركيا. وحذّرت الدولة الأمريكية العميقة ترامب من عواقب لعبة حبار لا يمكن التحكم بها. وفي كل لعبة حبار لعبة دولية تديرها القوى العظمى من وراء الستار، وهناك لعبة حبار وطنية يديرها الرئيس المفدى بين أبناء الشعب.

وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولا:

جادل مرة أحدُ السائلين العلاّمةَ ذاكر نايك الذي كان يقول للسائل: إن الإنسان ابتُليَ فرضيَ بالابتلاء، واستشهد بقوله تعالى: "إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولا"، وهي آية تنفع المؤمنين.

فقال السائل غير المؤمن: ولكن لم يعرض عليَّ أحدٌ أي أمانة! فكان جواب ذاكر أن الإنسان امتُحن ورضي بالامتحان، لكن ذاكرته مُحيت. وكان جوابه جواباً أدبياً وفلسفياً، لكن هناك أجوبة أكثر إفحاماً، فالإنسان المغامر يخوض كل يوم امتحاناً جديداً مع أنه يعرف السؤال والجواب غير مبال بالعقوبة، أو طمعاً في الجائزة.

أصول قصة الحبّار:

رأينا أفلاماً كثيرة تتخذ ألعاباً شبيهة بلعبة الحبار حبكة سينمائية، مثل فيلم "ستانفورد"، لكن هذا المسلسل الذي وجد قبولاً لدى متابعيه غلب الجميع، فهو محبوك بعناية، ولا يخلو من قيم الإيثار والتضحية، لكنها لا تبلغ مروءة العرب في الجاهلية، ولا قصة الأطفال الأفارقة الذين تسابقوا في سباق نظمه أوروبيٌ غازٍ مقابل جائزة، فنالها أحدهم واقتسم الجائزة مع الجميع.

يمكن أن تُذكّر بقصة شكسبير الشهيرة "تاجر البندقية" الذي أراد أن يقتطع رطلاً من اللحم من بدن انطونيو مقابل دَيْن لم يفِ به، فأصحاب اللعبة أثرياء يريدون أرواح المديونين مقابل جائزة مالية كبيرة. وهي تذكّر أيضاً برواية السأم لألبرتو مورافيا، والسأم هو الوجه الثاني لحبِّ المغامرة. سبقت هذا العمل الفني حبكات درامية سينمائية مثل "المنشار" (SAW)، وفي حكايته الواقعة في خمسة أجزاء والمقتبسة من قصة مجرم مكسيكي، يستيقظ مذنبان فيجدان نفسيهما مع جثة، مقيدين بالسلاسل في مكان مستور، وعليهما أن يتقاتلا حتى الموت، بينما تحاول الشرطة القبض على الشخصين والبحث عن القاتل الذي قام بجرائم مشابهة. وكذلك فيلم "لعبة الجياع" (hunger games)، وفيه ترسل كل دولة من الدول المتحاربة ممثلاً لها للصراع حتى الموت، والفائز وحيد.

تقول قصة من المرويات العربية إن كلثوم بن الأغر استحق القتل بدسيسة دسّها عليه الحجاج، فشفعت له أمه لدى الخليفة عبد الملك، فرقَّ لها وأكرمها بأن منح ابنها فرصة للنجاة، فأمر الحجاج أن يكتب له في ورقتين؛ الأولى يُعدم وفي الورقة الثانية لا يُعدم، فإن كان مظلوما نجاه الله. وامتثل الحجاج فأمر بكتابه كلمة "يعدم" في الورقتين، ولما جاء كلثوم في ساحة القصاص، اختار ورقة وقال: ِاخترت هذه، ثم قام ببلعها دون أن يقرأها!

قال كلثوم: يا مولاي، اخترت ورقة وأكلتها دون أن أعلم ما بها ولكي نعلم ما بها، انظر للورقة الأخرى فهي عكسها، فنجا بذكائه من لعبة الحبّار التي حرص الحكم على أن تكون عادلة.

حكاية المسلسل مسبوكة سبكاً متقناً، وفي الختام يجتمع صناع اللعبة للفرجة على مشهد الصراع الأخير بين صديقيّ الطفولة، وهم يضعون أقنعة حيوانات وحشية، ويتحدثون بالإنجليزية وليس بالكورية، فالسادة البيض هم أرباب هذه اللعبة. وتنتهي اللعبة بانتحار أحد الصديقين مجنبا صديقه جريمة قتله، فالمال إن لم يكن عبداً صار رباً. ولمّح صناع الفيلم في المشهد الأخير إلى يقظة ضمير الناجي الأخير وقراره تدمير اللعبة، والمنتج يعد لجزء ثان.

في كل بيت:

أغرق الأثرياء وصناع الألعاب القاتلة حياتنا بالألعاب الإلكترونية، فدمرت أخلاق أولادنا، فهم يقتلون أهلهم، فالمجرمون في الألعاب يرتدون أزياء عربية وإسلامية.

وسائل التواصل الحبارية سمّ بطيء، وهي غير ديمقراطية، فهي مراقبة جداً، حتى إن ترامب، رئيس أمريكا القوي عجز عن التغريد، فوسائل التواصل أدوات تجسس محكومة بعقائد صناع اللعبة. لقد سطّحت العقل، وجعلتنا أشكالاً هندسية، دوائر ومثلثات ومربعات، ودفعتنا للاكتفاء بغثاء المعلومات والثرثرة والاستعراض والصراع عراة بالحظر والتحزب القومي والفكري والديني.

twitter.com/OmarImaromar
التعليقات (0)