أخبار ثقافية

أيام قرطاج.. حين تتكلم صورة لتصرخ بصداعها عبر القارات

مئات الأفلام العربية والأفريقية شاركت في المهرجان- الأناضول
مئات الأفلام العربية والأفريقية شاركت في المهرجان- الأناضول

الكتابة عن مهرجان فني سينمائي زمن الوباء، عملية مضنية، بالضبط كفرضية الحياة حين نصاب بالكوفيد 19. إننا أمام الخوف المستبد من المجهول: هل نحن فعلا نحيا؟ أو هل سنحيا؟ إذن لنحلم أننا نحيا و"نخلع" أبوابا أخرى نحو الحياة بالسينما. انطلقت أيام قرطاج السينمائية من "الحلم" شعارها وانتهت بنا من خلال تعرية "لواقع" المخفي داخلنا إلى "التخبط" بين الأفكار والأسئلة بحثا عن مسارب جديدة للضوء.

ماذا يعني أن يفقد إنسان حواسه إلى أن يتحول إلى كرسي؟ وأي علاقة بين حفار القبور والموت؟ وماذا عن اللاجئين داخل المخيمات وفي كل بقاع الأرض؟ وكيف تكون المرأة مستقلة وسط بيئات وثقافات تهدد دائما بإعادتها إلى القفص؟ وهل يموت الراقص برصاصة؟ ثم كيف نستعيد الوطن وكيف نتفكر وجودنا تأسيسا لمنشودنا وأسئلة كثيرة تضمنتها الأفلام المشاركة في أيام قرطاج السينمائية بتونس في دورتها الثانية والثلاثون.

لن نكتب عن السجاد الأحمر ولا عن تكريم الممثلة المصرية نيللي كريم بمرافقة زوجها الشاب والضجة التي أثارتها بتجاهلها للإعلام التونسي. ولن نكتب عن دموع هند صبري والكلمة المؤثرة التي ألقتها في حفل الافتتاح وهي تكرم روح فقيدة السينما مفيدة التلاتلي واستحضار تجربتها معها بفيلم صمت القصور. ولا عن مشاهير تونس المهاجرين كفريال يوسف وظافر العابدين ودرة زروق التي خيرت أن تكون في جولة سياحية في تونس على أن تكون في حفل اختتام المهرجان. ولا عن تكريم المنتج والموزع صادق أنور الصباح ولن نكتب للمتعطشين للجوائز والذين ينتهي السينما عندهم بانتهاء المهرجان. بل نحن نكتب للمتعطشين للسينما بعيدا عن اللغط حول أحقية هذا أو ذاك في الحصول على "التانيت الذهبي" وإن كانت اللجنة قد أصابت في منحه للفيلم المصري "ريش" أو إن كانت قد ظلمت "فرططو ذهب" الفيلم التونسي. بعيدا عن هذا اللغط لنتوقف عند الركائز الأساسية للمهرجان وأولها الأفلام المقدمة ومدى نجاح عملية الانتقاء في تقديم فيلم يعكس صورة متطورة عن السينما العربية والإفريقية.

أكثر من 750 فيلما عربيا وأفريقيا، قصيرا وطويلا، ومسجلا في المسابقة الرسمية و200 فيلم عربي طويل روائي ووثائقي و550 فيلما عربيا وإفريقيا قصيرا روائيا ووثائقيا لتكون عدد الدول المشاركة 45 موزعة بين 28 دولة أفريقية و17 دولة عربية التقت كلها حول قضايا إنسانية ووجودية.

السيناريو يستعيد مكانته

في العادة وفي دورات سابقة يغادر الجمهور القاعات بعد عرض أي فيلم وهم منبهرون بالتقنية المعتمدة وبالإبهارات (ضوء وصوت وإكسسوار وديكور) ولكن هذه المرة تأخذ التيمة المطروح في الفيلم مكانتها الحقيقية وتلفت انتباه المتلقي من خلال سيناريوهات تحمل جماليتها في عمقها. وليس اعتباطا أن يقول المخرج البريطاني ألفريد هتشكوك، ذات مرة: "تحتاج ثلاثة أشياء لصناعة الفيلم إنه السيناريو والسيناريو والسيناريو".

لنستعرض بعض مضامين الأفلام. يطرح فيلم "ريش" للمخرج عمر الزهيري الفائز بالجائزة الأولى رحلة الزوجة في البحث عن زوج حوله ساحر إلى دجاجة وينقل مسار كفاحها وكيف أصبحت تدريجيا امرأة مستقلة وقوية. وتحصل الفيلم على أربع جوائز في أيام قرطاج السينمائية (جائزة التانيت الذهبي للعمل الأول وجائزة أفضل سيناريو وجائزة أفضل ممثلة لدميانة نصار بالإضافة إلى الجائزة الأولى في الأعمال الروائية).

ويتناول الفيلم المصري "أميرة" قصة فتاة فلسطينية تكتشف أن الرجل الذي نشأت معه ليس والدها الحقيقي فتنقلب حياتها رأسا على عقب. أما "زوجة حفار القبور" من الصومال فيطرح قصة زوجان محبان يعيشان في المناطق الفقيرة في جيبوتي مع ابنهما مهاد ومع ذلك فان توازن أسرتهما مهدد. فتعاني نصرا من مرض حاد في الكلى وتحتاج إلى جراحة طارئة كيف تجمع الأموال لإنقاذ نصرا والحفاظ على الأسرة والفيلم للمخرج خضر ايدوروس أحمد.

وفي حديث خص به "عربي21"، قال المخرج الصومالي خضر ايدوروس أحمد: "هذه القصة واقعية وقد عشت داخل عائلتي قصة مماثلة." وأكد في ذات السياق: "أن صورة حفار القبور التي طرحتها، بناء تخييلي لتمثلات ذهنية عنه ولم ألتقي أي حفار حتى أنسج الصورة النهائية، وإنما انطلقت من داخلي والألم المتراكم جراء ما أصاب عائلتي، وقد وجدت نفسي في هذه القصة أعود إلى التساؤل حول مفهوم الموت حين يزور بيت حفار القبور وما تحمله الصورة من رمزية. فكيف تكون ردة فعل هاته الشخصية التي اعتادت الموت والموتى حين تجد نفسها تعايش ذات الواقع."

أما فيلم "عصيان" للجيلاني السعدي فيروي قصة ليلة انتفاضة في تونس استحوذ الجنون على العاصمة تونس وضواحيها لا شيء يعمل، وأصبحت الشوارع ساحة للمواجهة بين الشرطة والمتظاهرين وقد تحصل هذا الفيلم على البرونز.

أما فيلم "فرططو ذهب" لعبد الحميد بوشناق فيروي قصة معز الشرطي في الثلاثين من عمره يلتقي بصبي صغير وينطلق معه في رحلة رائعة.

ويتناول فيلم "الرقصة مع الرصاصة " للمخرج العراقي ضياء جودة، قصة أنمار الراقص الذي أطلقت عليه رصاصة ولم يمت، ويطرح الفيلم فكرة التمسك بالوطن ويتصارع مع وضع الهجرة المكثفة للعراقيين بحثا عن مكان آمن.

وفي حديث خص به "عربي21" قال المخرج العراقي: "رغم السفر والهجرة تظل العودة إلى الوطن هاجسا." وأن "الفيلم الذي بقيت لعشر سنوات أجهز له، وثماني سنوات حتى يكتمل تصويره أتعبني وأرهقني بين الإصرار على إنجازه والخوف من أن تسبقه لي الرصاصة وقد وصل بي الأمر حد كتابة وصية لإنجازه من بعدي".

أما فيلم "آخر لاجئ" من مالي لسماساكو عصمان وقصة المهاجرين المقموعون في طريق عودتهم. ويطرح فيلم "كما أريد" لسماهر القاضي من فلسطين، قوة المرأة في النضال الثوري رغم كل الصعاب. أما الفيلم المتوج بالجائزة الأولى في قسم الأفلام الروائية القصيرة، فيلم "فلسطين الصغرى" لعبد الله الخطيب ومحاصرة اللاجئين في اليرموك. والفيلم الأردني القصير "عرنوس" لسامر البطيخي ويروي قصة مراهق ساذج يستعين بصديقه لمساعدته في سرقة هدية أصلية لها.

ويتناول فيلم نكولا فتوح "كيف تحولت جدتي إلى كرسي" قصة الجدة التي تحولت إلى كرسي بعد أن فقدت حواسها الخمسة الواحدة تلو الأخرى، خلال هذا التحول أدركت أن مدبرة منزلها لم تعد وحشا شائكا مخيفا بل هي العائلة الوحيدة التي طالما انتظرتها.

ومن الأردن إلى لبنان وتحديدا بيروت في الرابع من شهر آب/ أغسطس 2020 حين هز انفجار مزدوج بيروت واختفت كل جوانب حياة الانسان فتحل امرأة المدينة. هكذا طرح المخرج اللبناني نيكولا الخوري قضية وطنه. عايش الحالة ونقلها رمزيا متسائلا حول مستقبل الوطن، وقد نقل إلينا عمق ألمه في حديث مع "عربي21" مؤكدا أنه مهما حاول أن يثور الصورة ويصنع منها إيقاع الحقيقة فيظل الوجع مدفونا بالداخل وقد يتطلب ذلك أكثر من انجاز سينمائي وهو الذي جعل وطنه قضيته الأساسية.

ومن اليمن كان الفيلم الوثائقي "لا ترتاح كثيرا" لشيماء التميمي، وهي رسالة استنباطية إلى جدي الراحل حيث تتساءل عن نمط الحركة المستمر بين اليمنيين في الشتات. يدمج الفيلم بين الصور الأرشيفية والرسوم المتحركة المنظر ومقاطع الفيديو المجردة لإنشاء مجموعة من الأعمال السمعية البصرية التي تلتفت الانتباه إلى الشعور الجماعي.

لم تكن الأفلام التي ذكرتها إلا عينة صغيرة من الأفلام المقدمة في المهرجان حاولت من خلالها إبراز أهمية الثيمات المطروحة والتي تعبر عن الواقع بين الحقيقة والرمز. بين جماليات الصورة وعمق المضمون. فـ"اهتمامك يجب أن يكون بمتعة صناعة الفيلم، وأن تجتاز المشكلات والعيوب. وحين تنتهي وتنظر للمنتج النهائي تقول لنفسك: يا إلهي، عندما كتبت النص بدا عظيمًا لكنه الآن سيء، كيف حدث ذلك؟ ثم تهدأ لتقول: حسنًا، الفيلم المقبل سيكون أفضل، وتتناسى ما مضى وتبدأ في الجديد. لكنك لو كنت تنتظر أن يعجب النقاد أو أن يكسر الجمهور أبواب السينامات ويحطم أرقامًا قياسية في الإيرادات، فأنت بذلك ترهن متعتك الشخصية بذوق آخرين. أريد إيجاد صلة مباشرة بيني وبين الناس لأخبرهم بأشياء عن أنفسهم وعني أيضا." هكذا يقول وودي الن.

كشفت الأفلام الواقع فأحرجتنا وساءلتنا إلى أن صار فعل الفرجة في حد ذاته فعل ذهني فلسفي حيث دفعتنا الأعمال المقدمة إلى التفكير بل أعادتنا إلى جيل دولوز ومؤلفيه: "الصورة-الحركة" و"الصورة-الزمن" "فلا يفكّر الفن بأقلّ من الفلسفة، بيد أنّه يفكّر بالمؤثّرات الانفعالية والمؤثّرات الإدراكية. لكن ذلك لا يمنع من كون كلّ من الفلسفة والفنّ إنّما يعبر الواحد منهما من خلال الآخر، في سياق صيرورة تحتويهما معا، وبشدّة تحدّدهما مشتركين معا، فالشكل المسرحي والموسيقى لدون جوان يغدو شخصيّة مفهومية عند كيركيغارد، وقد كانت شخصية زرادشت من قبل شكلا موسيقيا ومسرحيا عظيما."

لهذا نحن علينا ألا نحلم كما يروج لذلك شعار الدورة بل نحن نفكر فنغير فنحيا بالفن. إننا على قيد الحياة بالسينما.. فلا يعبأ الجمهور بما قاله أفلاطون عن الصورة الخطاءة أو قاله رولان بارت عن لا وجود لحقيقة وإنما الواقع صناعة تمثلاتنا للأشياء وأننا لا يمكننا السيطرة على الواقع من منطلق أن الصورة دائما غامضة.

من الفلسفة المكتوبة إلى الفلسفة المصورة...

تسبق الفلسفة السينما، والسينما التي تنجح فنيا هي السينما التي تصوغ صورتها المرئية على هذا الموروث الفكري الفلسفي. فالصورة التي لا تكون مبنية على فكرة أو تيمة دقيقة وواضحة لا يمكنها أن تكون حاملة لمعان.

إن السينما في نهاية الأمر هي بحث بالصورة عن ماهية الإنسان، عن وجوده، هي شك وتشكيك في الواقع من أجل بناء الصورة النهائية المنشودة، هي تساؤل حول مفاهيم الحرية والسعادة، هي طلب لحسن ضمان بقاء الإنسان. فلا يكفي أن يبقى الإنسان بل كيف يبقى هذا الانسان في عالم يضمن له حقوقه.

يمكن للتفكير أن ينبثق من الصورة. السينما تصدمنا فتدفعنا للتفكير . ويعيدنا هذا الى دولوز الذي يرى المفاهيم كـ"لوحات ذهنية (...). وبالرغم من أنّنا نصنعها عادة بطرق فلسفية، فإنّنا نستطيع أيضا إنتاجها جماليا." فالسينما تحرض الفلسفة على الجماليات. والفلسفة تحرض السينما على الفكر.

تأخذنا هذه الزاوية إلى جانب آخر في المهرجان لا تقل أهمية عن العروض السينمائية وهو ما يردد دائما عن تحويل المهرجان إلى سوق للتوزيع والترويج وأيضا وظائفه في مناقشة مواضيع مهمة تتعلق بالسينما، وهو ما حصل فعلا في أيام قرطاج السينمائية ولكنها لم تتعد حدود المنابر التقليدية التي لا يحضرها إلا القلة والتي لا تحظى بأي أهمية إعلامية وذلك لمنهج تنظيمها الخالي من كل تجديد وتحديث ومن أهداف واضحة.

العزلة الرقمية

مازال المهرجان الذي ينتظم اليوم في دورته الاثني والثلاثون وفي القرن الواحد والعشرون وزمن الثورة الرقمية في عزلة عن الرقمنة على جميع الأصعدة والاكتفاء بالصيغ التقليدية في تنظيم أيام سينمائية. فغاب الاجتهاد وحضر التقليد.

لننتهي عند تصريح للمدير العام للمهرجان والسينمائي رضا الباهي في تعليق على شعار الدورة "نحلم...لنحيا": "هذا ليس فقط شعار الدورة 32 لأيام قرطاج السينمائية ولكنه عقيدتنا (...) أن هذا المهرجان متجذر في محيطه العربي الأفريقي لكنه منفتح في الوقت نفسه على العالم منشغل بالحقائق المتعددة للواقع، مهتم بالقضايا العادلة. مهرجان يحترم تاريخه لكنه لا يتقوقع في الماضي بل يطور نفسه ويفتح آفاقا جديدة بالكثير من الأمل في مستقبل أفضل." فهل يكون ختام الدورة الحالية بداية جادة للتفكير في مشروع دورة جديدة قادمة قادرة على أن تكون سوق حقيقية للإنتاجات السينمائية والترويج لها ليس مجرد قاعات عرض مفتوحة ولقاءات لا يعلم عنها الا أصحابها؟

 

3
التعليقات (3)
عبد الحكيم البصري
الجمعة، 19-11-2021 03:05 م
موضوع شيق وفيه من المعلومات الكثير ..شكرا لثراء ثقافتنا الفنية
نسيت إسمي
الجمعة، 12-11-2021 11:34 ص
كلنا .. لا أحد الحياة لا معنى لها إن كنا نعرف ما سيحدث (مواقع التواصل الاجتماعي) فتح عينيه أخيرًا بعد أن فشلت كل محاولاته للعودة إلى النوم. أخذ علبة السجائر التي كانت بجانب رأسه، "التدخين يحرق أعضاء الجسد ويسبب السرطان والأمراض القلبية". كان يكره طعمها ورائحتها ولم يجد سببا حقيقيا وراء تدخينه هذا العفن، وفي كل مرة يُسكِتُ نفسه بذاتِ الجواب: الإنسان سيفعل أي شيء من أجل أن يشعرَ بشيءٍ ما. نفث الدخان، تسارعت دقات قلبه وشعر بالدوار. ضرب رأسه بيده يطالبه بالسكوت مع أن الألم كان في صدره، لكن شيئًا ما أخبره أن رأسه هو السبب. تذكر أنه قد يجد حبوب زكامٍ في أحد الأدراج فالحبوب المنومة لم تعد تأثر فيه، بحثَ بلا جدوى، مدّ ذراعه تحت السرير في محاولةٍ يائسة، لا شيء. جلس مُحتارًا في ما سيفعله، هكذا قرأ مرة: افعل أي شيء لتبق مشغولًا. لم تكن الوحدة ما يخافُه، فقد كان وحيدًا طوال حياته تقريبًا "على حد ما يذكر" لكنه يهلع لفكرة أن يبقى وحيدًا مع أفكاره، لا شيء يمكنه إيذاؤه كما تفعل. يعرف أن باستطاعته فعل كلّ شيء في المدينة الكبيرة التي يعيش فيها، لكنه يعرف أيضًا أنّ لا شيء سيغير ما يشعر به. ذلك الخواء الداخلي لا ينفكّ يبارحه. أحس أنّه في سجن كبير ذي جدران ضخمة لا يراها غيره. وحتى لو امتلك كل العالم، فما الفائدة؟ سيكبُر سجنه فقط. "عندما لا يوقظك أحد في الصباح، وعندما لا ينتظرك أحد في الليل، وعندما يمكنك فعل ما تريد.. ماذا تسمي هذا؟ حرية أم وحدة؟" شعر بأنّه قريبٌ إلى بوكوفسكي الذي يفهمه الآن. كان يعرف كيف سيؤول إليه يومُه قبل أن يبدأ حتى. ينهض، يستحم وينظف أسنانه، يرى وجهه في المرآة متفقّدًا ابتسامته، وإن بدت له غير زائفة يتمتم: سيصدقونها. يشيح وجهه ليتفادى رؤية المزيد. يتوضأ ويصلي، يفعل شتّى الأمور بغية البقاء مشغولًا، ينام ويعيد نفس اليوم مرة أخرى. هل لو قُدِّر للإنسان معرفة مستقبله لقتل نفسه في أول فرصة؟ لا أحد يمكنه تحمل ذلك.. الحياة لا معنى لها إن كنا نعرف ما سيحدث. قرر أخيرًا أن يزور أصدقاءه ويبقى هناك إلى أن يشعر بالنعاس. ركب في آخر مقعد من الحافلة بجانب النافذة. لا يريد لأحد أن يزعجه، وضع السماعات في أذنيه لكنه لم يستمع لأي شيء. لم يعد يستمتع بالموسيقى، لا يذكر متى صارت مجرد ضوضاء في أذنيه، حتى أنه يفضل أصوات السيارات وفوضى الشوارع. كان ينسى الوقت متخيّلًا حياةَ كلّ أولئك الذين يمرّون عليه ويمرّ عليهم، أشعره هذا بنوع من الاطمئنان والهدوء، كأنّ العالم كلّه صاخب بينما هو ساكنٌ لا يتحرّك. تخطى السائق محطته لكنه لم يخبره، لم يرد لما يفعله أن ينتهي، أكمل حتى آخر محطة، أخبر السائق أنه سيعود معه وتعذّر بنسيانه لشيء ما.. لم يرد لذلك السائق الذي لن يراه بعد اليوم أن يعتقد أنه غريب أطوار.. تساءل لماذا؟ ظل ينظر إلى المارة ويتخيل شكلَ مشاكلهم ولون سعادتهم، كان يراهم أدمغةً مهدرة لا تستعمل إلا لطلب لقمة العيش وكيفية تحصيلها، أهم سعداء وراضون أم أنهم تعودوا على هذه الحياة واقتنعوا أنه لا يوجد أبعد من هذا؟.. لم يبقَ لهم سوى انتظار الموت. إن سأل أحدهم إن كان راضيًا لردّ عليه أنّه يجب أن ترضى بما أعطاك الله، لكن ألم يخبرنا الله أيضًا أن نسعى؟ كان يبغضهم لا لسببٍ معيّن إلا لأنهم يشبهونه في كل شيء، يستيقظون ويفعلون نفس الأشياء ويعيدون تكرارها في اليوم الموالي، مثله تمامًا عالقون في هذه الحلقة اللا نهائية التي تُسمّى حياةً.. أراد أن يحررهم، ربما لأن ذلك يعني تحرير نفسه. أيخاف الإنسان الموت لأنه ذاهبٌ إلى المجهول أم أن كل ما في الأمر أنّه متمسكٌ بأمل أن شيئًا ما سيتغير، يومًا ما ستتحسن الحياة ولا يريد أن يفوته ذلك.. ترى ألذلك نسجت خرافات عن مخلصين سينقذون العالم.. ألهذه الدرجة كرهنا الحياة حتى صاروا يوددونها إلينا غصبا، ابتسم "سبحان من خلق فينا غريزة البقاء". من قبل، لم يرد أن يموت حتى يجد ذلك الهدف الأسمى المقدر له، حتى ينتزعه بيديه من هذه الحياة، أما الآن فأصبح يشك إن كان له غرض أصلًا. فتح هاتفه ودخل أحد التطبيقات، قابله منشور أحدهم يسب فيه شخصًا خالفه في رأيٍ فقهي، دخل التعليقات ليجد آلاف الناس يشتمون ويوزعون بطاقات جهنم.. أناس يعتقدون أنهم أفضل وأسمى لأنهم يعتنقون ديانة أو حتى مذهبًا معين، عن أي تكاتف وتلاحم يتحدث هؤلاء؟ ما هذا الدين الذي أصبح مجرد سب وقذف وتكفير؟ لماذا صوروا للناس أن الله ذلك الإله الغاضب الذي يذيق أقصى أنواع العذاب لأتفه الأسباب؟ لماذا أقنعوهم أنهم يجب أن ينتظروا غضبه لا عدله.. عذابه لا رحمته. أخبار عن استشهاد فلسطينيين على يد الاحتلال، أخرى عن عائلات أعياها الجوع والمرض في وطنه وسياسيون نهبوا ثروات البلد.. أقفل هاتفه غاضبًا وأعاد نظره إلى الشارع، تساءل إن كان العالم هكذا حقًّا أم أنّ خوارزمية ذلك التطبيق اللعين لا تُريه إلا ما يستفزّه. انتبهَ لفتياتٍ كُنَّ ينظرن إليه وتذكر أنّ حتى هذه الكائنات العجيبة التي يلهث وراءها نوعُه لم تعد تثير اهتمامه. وصل إلى أصدقائه أخيرًا وأمضى اليوم يُحاكي أحاديثهم ويضحك على أمور لم يفهمها وأخرى لم يسمعها حتى، أراد أن يشعر أنّه طبيعيٌّ ولو للحظة. عاد إلى شقته، أطفأ الأنوار وجلس في الشرفة يراقب ويدخن سيجارة تلو الأخرى. تذكّر تلك الليلة التي شعر فيها فجأةً بسلامٍ داخلي وكان يستمتع بالأغنية التي يسمعها، تذكّر أنه أراد أن يخبر شعوره لكلّ من يمرُّ عليه ويسأله إن كان يشعر بنفس الشيء، فكَّر أن ذلك الشعور لا بد أن يكون ما يطلقون عليه السعادة. كان يعرف أنّ الله في كل مكان بعلمه لكنّه نظرَ إلى السماء تحديدًا لأنه أحبَّ ذلك '' ربّاه تعرف ما بي.. عبدُكَ لم يعد يحتمل فالطُف به '' تذكر ذلك الحديث القدسي "إنّ رحمتي سبقت غضبي" اقشعرّ بدنه وابتسم. أخذ حقيبةَ ظهرٍ وضعَ فيها بعض الملابسِ وخرج.. جلسَ في متنزهٍ يقع بجانب شقته وأخذَ يراقب الناس. لفت انتباهه طفلٌ صغير يحاول كتابة شيءٍ ما على التراب، بدا له أنّ الوغد الصغير يحاول كتابة اسمه، أمرٌ اعتادَ رؤيته ولم يفهم لماذا. لماذا نحاول نحتَ أسمائنا في كل مكان؟ تذكّر مشهدًا من فيلم كوكو "الأموات لا يموتون حتّى ينساهم الأحياء" هل نحنُ خائفون من أن نُنسى لهذا الحد؟ راقبَ الطائرات الورقية، أيريدُ الإنسان أن يحلّق عاليًا مثل الطائرات الورقية؟ أيريدُ أن يكون حرًّا؟ إن لم يكن لذلك فما الهدف من جعل ورقةٍ تطير؟ ظلَّ يراقبها حتى غلبه النعاس. استيقظ وحيدًا في المتنزه، أخذ هاتفه واتصل بأمه: "آلو ماما سأسافر أرجو ألّا تقلقي عليّ". لماذا وإلى أين يا بني؟ لا أعرف لكنني لم أعد أشعر بشيء.. أنا أتحلل.. أموت ببطءٍ وأتحلّل يا أمي.. أريد أن أشعر بشيء.. أيّ شيء. وافقت على غير عادتها ولأول مرةٍ في حياته شعر أنّ أمّه أحسّت به. إلى اللقاء سأتصل بكِ لاحقًا. شعر أن تلك الفجوة في صدرهِ قد ملأها شيءٌ ما، لم يشعر بمثل هذا الشعور منذ زمن بعيد. قبل اليوم كان يأخذ حقيبته ويُمضي وقته في المتنزه دون أن يقطع شوطًا أكبر من ذلك، لم يصل إلى هذا الحد من قبل. ذهبَ إلى أقرب سفارةٍ إليه لماذا تريد زيارة بلدنا؟ صمت قليلًا: لا أدري.. ماذا تعني؟ لا أدري إن كنت أهرب من نفسي أم أبحث عنها أم أنّ هناك شيئًا آخر.. أنا ضائعٌ كما ترى. مهما يكن ما أبحثُ عنه، ربّما أجِدُه في بلدكم أو في مكانٍ آخر.. لا أعرف. ابتسم الموظف وأخبره أنّه يعرف شعوره تمامًا ووافق على طلبه للفيزا. اتجه إلى المطار، عامَله جميعُ الموظفين بلطف، الكل كان يبتسم، شعر بأنّهم سعداء من أجله. جلس في مقعده على متن الطائرة، وضع سماعات الأذن وغطّ في نومٍ عميق. أستاذ هل تسمعني؟ هل وصلنا؟ فتح عينيه بصعوبة ووضع يده فوق وجهه لتقيه ضوء الشمس الساطع، شخصٌ ما كان واقفًا فوقه يحاول إيقاظه. جلس ونظر حوله ليجد نفسه وحيدًا في المتنزه. أعاد عليه السؤال: أستاذ هل أنت بخير؟ أحسّ بسائلٍ غريبٍ على وجهه، مسح بيده على وجنتهِ اليُمنى ونظرَ إليها، تأكّدَ أنّها دموعه. لم يبكِ منذ زمنٍ طويل، ليس لأنّه لم يُرِد بل لأنّه لم يستطع. أجاب عاملَ النظافة أخيرًا: نعم أنا بخير. وضع حقيبته على ظهره وغادر. (تظاهَرْ لتعيش، كن زائفًا لتبقى على قيد الحياة،هذا ما كان يعرفه عندما استيقظ). كاتب موريتاني : سيد محمد حبيب / الجزيرة نت.
نسيت إسمي
الأربعاء، 10-11-2021 11:23 ص
'' من قلب هوليوود إلى قلب تونس '' رمزي الملوكي يكشف سبب اختيار قناة الجنوبية لتقديم برنامج "في قلب هوليود". وفي إجابته على سؤال لماذا اختار قناة الجنوبية لتقديم برنامجه "في قلب هوليود" أكد الملوكي، أنها تذكره في تجربته مع قناة "RTL " ـ قبل مايفوت الفوت.. فيلم تونسي الفرحة هيا فيلم تونسي جديد إن شاء الله يكون باهي برك مثل : “فرططو الذهب”.. تستأنف السينما التونسية في السنوات الأخيرة تألقها وعودة النشاط للتجاوز المحلي بمشاركات دولية وعالمية، في مهرجانات وملتقيات وجوائز عدة، وآخرها أن أعلن المركز الوطني للسينما والصورة في تونس ترشيح فيلم “فرططو الذهب” للمخرج “عبد الحميد بوشناق” للمنافسة في فئة أوسكار أفضل فيلم أجنبي، بالدورة 94 للجائزة.يتقاسم بطولة الفيلم فتحي الهداوي ومحمد السويسي وهو ثاني الأفلام الروائية الطويلة في مشوار المخرج الشاب أبوشناق، الذي أوضح أن كلمة “فرططو” تعني في بعض دول شمال أفريقيا “الفراشة”، من هنا فالمعنى الأقرب لعنوان الفيلم: “فراشة الذهب”، وأضاف بوشناق على حسابه في فيسبوك: “تمثيل تونس بفيلم فرططو الذهب في سباق الأوسكار! ما زلت لا أستطيع أن أدرك، أنا فخور وسعيد، هذا عمل فريق آمن بي”.يشار إلى أن تونس رشّحت في العام الماضي فيلم “الرجل الذي باع ظهره”، للمخرجة كوثر بن هنية الذي استطاع الوصول إلى القائمة النهائية للجائزة، قبل أن يفوز بها فيلم دنماركي.ويُنتظر إعلان الأفلام المقبولة بهذه الفئة في ديسمبر، بينما ستعلن القائمة المختصرة في فبراير 2022، ويقام حفل توزيع جوائز الأوسكار في 27 مارس في مدينة لوس أنجلوس بالولايات المتحدة الأميركية.