كتاب عربي 21

الاتفاق النووي الإيراني وصراع الهيمنة في الشرق الأوسط

حسن أبو هنية
1300x600
1300x600
يمثل الاتفاق النووي الإيراني العنوان الأبرز للصراع والهيمنة على النفوذ في الشرق الأوسط. وتنحصر المنافسة الإقليمية على المنطقة بين تركيا وإيران وإسرائيل، بينما يشكل العالم العربي ساحة وفضاء جيوسياسيا منفعلا ومنقسما بين توجهات ومشاريع الدول الإقليمية.

ومنذ تدخل الغرب عموماً والولايات المتحدة خصوصاً في المنطقة؛ وهو يدعم وجود وتفوق إسرائيل كقوة إقليمية منفردة، إذ تسعى الدول الغربية إلى استمرارية مصالحها بالحفاظ على النظام العالمي الحالي الذي تأسس بعد الحرب العالمية الثانية، وهو نظام على الصعيد الإقليمي تحتل فيه المستعمرة الاستيطانية الإسرائيلية مكانة استثنائية متفوقة من خلال الدعم المادي والعسكري والسياسي، وعبر تطويع القانون الدولي على مقاس كيان الاحتلال في إطار تثبيت حالة دولة الاستثناء. فامتلاك إسرائيل ترسانة نووية هو حقيقة غير مطروحة للنقاش من طرف الدول الغربية والولايات المتحدة، والأغرب أنها غير مطروحة للنقاش من قبل الدول العربية.

مع دخول المحادثات الخاصة بإحياء الاتفاق النووي الإيراني الجولة الثامنة مع بداية العام الحالي، يواجه الحل السياسي والدبلوماسي للقضية النووية الإيرانية تحديات هائلة لديمومة الهيمنة الإسرائيلية في الشرق الأوسط. فقد برهنت سنوات ترامب العجاف على صعوبة فرض حلول خيالية لا تقوم على أسس واقعية، وهي رؤية رغم تطرفها عابرة للإدارات الأمريكية والأوروبية، ولا تخرج عن الأطر التاريخية الابستمولوجية للحداثة الأداتية ومنتجاتها الكولونيالية والاستشراقية والإمبريالية.
برهنت سنوات ترامب العجاف على صعوبة فرض حلول خيالية لا تقوم على أسس واقعية، وهي رؤية رغم تطرفها عابرة للإدارات الأمريكية والأوروبية، ولا تخرج عن الأطر التاريخية الابستمولوجية للحداثة الأداتية ومنتجاتها الكولونيالية والاستشراقية والإمبريالية

تقوم سياسة الولايات المتحدة الأمريكية منذ تدخلها في المنطقة على ضمان أمن إسرائيل وتفوقها ومد نفوذها في الشرق الأوسط. وقد دفع الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب هذه السياسة إلى مداها الأقصى من خلال خرافة "صفقة القرن" وأسطورة "اتفاقات أبراهام"، والتي تستند إلى أطروحة السلام بالقوة وفرض إسرائيل قوة إقليمية منفردة مهيمنة في الشرق الأوسط، وذلك عبر بناء سردية متخيلة بديلة عن الواقع؛ ترتكز إلى الادعاء بأن إسرائيل دولة طبيعية في المنطقة وصديقة ومسالمة، وليست كيانا عنصريا احتلاليا عدوانيا توسعيا، وأن أعداء العالم العربي هما إيران وتركيا.

فمتطلبات إعادة بناء الشرق الأوسط الذي اهتزت أركانه عقب ثورات الربيع العربي المناهض للإمبريالية والصهيونية والدكتاتورية؛ تقوم حسب الرؤية الأمريكية/ الإسرائيلية على تصفية القضية الفلسطينية، وطبعنة مركزية إسرائيل وترسيخ دورها القيادي الأمني الحراسي في المنطقة لرعاية وحماية الأنظمة الاستبدادية، وذلك بإدماج المستعمرة الاستيطانية الإسرائيلية في نسيج المنطقة العربية الإسلامية، تحت ذريعة مواجهة خطر مشترك اختزل بـ"الإرهاب"، الذي بات يكافئ "الإسلام السياسي" وحركاته المقاومة بنسختيه السنية والشيعية، وممثليه في المنطقة المنظمات السنية المنبثقة عن أيديولوجبة الإخوان المسلمين المسندة من تركيا، والحركات السياسية والمقاومة الشيعية المنبثقة عن أيديولوجية ولاية الفقيه المسندة من إيران.

تكشف مفاوضات الاتفاق النووي الإيراني عن طبيعة العلاقة بين إيران والولايات المتحدة وإسرائيل. فعلى مدى عقود أضعفت سياسة الولايات المتحدة وإسرائيل حلفاءها في العالم العربي وعززت من نفوذ إيران في الشرق الأوسط، على خلاف ادعاءاتها الحد من النفوذ الإيراني في المنطقة.

فحسب تريتا بارسي، وهو أستاذ في العلاقات الدولية في جامعة جون هوبكينز، فإن اللعبة السياسية التي تتّبعها هذه الأطراف الثلاثة تقوم على أسس أيديولوجية تستند إلى خطاب استهلاكي وشعبوي، بينما تستمر المحادثات والاتفاقات السريّة على أسس جيواستراتيجية، لكن المحرّك الأساسي للأحداث يكمن في العامل "الجيواستراتيجي" وليس المجال "الأيديولوجي" الذي يعتبر مجرّد أداة، فالعلاقة بين المثلث الإسرائيلي- الإيراني – الأمريكي تقوم على المصالح والتنافس الإقليمي والجيواستراتيجي، وليس على الأيديولوجيا والخطابات والشعارات التعبوية الحماسية.
تكشف مفاوضات الاتفاق النووي الإيراني عن طبيعة العلاقة بين إيران والولايات المتحدة وإسرائيل. فعلى مدى عقود أضعفت سياسة الولايات المتحدة وإسرائيل حلفاءها في العالم العربي وعززت من نفوذ إيران في الشرق الأوسط

على مدى عقود ادعت الولايات المتحدة الأمريكية أن إيران تشكّل تحدياً شاملاً لمصالحها وتهديداً واسعاً لحلفائها وشركائها العرب في الشرق الأوسط، ولم تخل أي وثيقة للأمن القومي الأمريكي منذ سقوط نظام الشاه وصعود دولة "ولاية الفقيه" من الحديث عن الخطر الإيراني. وفي خضم الادعاءات الأمريكية بالتصدي للنفوذ الإيراني في الشرق الأوسط، تمكنت إيران خلال العقود الأربعة الماضية من التمدد والانتشار وتمكين سيطرتها وزيادة نفوذها، وخلق فضاء جيوسياسي من طهران إلى بغداد مرورا بدمشق وصولاً إلى بيروت، فضلاً عن نفوذها في البحرين واليمن، وفي كل مرة ادعت فيها أمريكا التصدي للنفوذ الإيراني كانت إيران تخرج بنفوذ أكبر وتوسع أعظم.

تبرز المواقف الإسرائيلية المتناقضة الهوة الكبيرة بين الأيديولوجي والجيوسياسي، ففي الوقت الذي تتعالى فيه الخطابات الإسرائيلية العلنية بالتهديد بعمل عسكري ضد إيران، كشف موقع "والا" الإخباري الإسرائيلي عن وزيرين حضرا جلسة المجلس الأمني المصغر (الكابينيت) قولهما إن إلون حليوة أيّد العودة إلى الاتفاق النووي، لكونه سيزيد اليقين بشأن القيود القائمة على البرنامج النووي الإيراني، وهذا لن يكون موجودا في حال عدم وجود اتفاق.

في سياق اللعبة الأيديولوجية/ الجيوسياسية بدأت إيران والقوى العالمية المحادثات في فيينا، وتقدم الخطابات الدعائية المفاوضات باعتبارها محاولة أخيرة لاستعادة "خطة العمل الشاملة المشتركة" لعام 2015 والمعروفة باسم "الاتفاق النووي الإيراني"، الذي جرى إبان حكم الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما وتم الإعلان عنه في 14 تموز/ يوليو 2015؛ بعد خلافات حادة استمرت أكثر من عشر سنوات بين إيران والدول الكبرى متمثلة بالدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن إضافة إلى ألمانيا والمعروفة بمجموعة 5+1. ويشمل الاتفاق تقليص النشاطات النووية الإيرانية مقابل رفع العقوبات الاقتصادية المفروضة على طهران بشكل تدريجي.

كانت إسرائيل حاضرة دوماً بطرائق معروفة في صياغة الاتفاقات بين أمريكا والدول الأخرى وإيران، وفي سياق الحصول على صفقة جيدة لإسرائيل سافر رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إلى واشنطن في آذار/ مارس 2015، في محاولة لحشد الدعم ضد اتفاق نووي مع إيران عندما كان يتفاوض عليه الرئيس آنذاك باراك أوباما. وفي خطاب نتنياهو الشهير أمام جلسة مشتركة للكونغرس، حذر بشدة من تكرار المحرقة النازية (الهولوكوست) التي سهلتها هذه "الصفقة السيئة للغاية" والتي "لن تمنع إيران من تطوير أسلحة نووية.. لكنها ستضمن حصول إيران على تلك الأسلحة". ورغم فشل نتنياهو في منع توقيع الصفقة آنذاك، لكن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب انسحب من الاتفاق في أيار/ مايو 2018، واستبدلها بقيادة حملة ضغوط دبلوماسية واقتصادية وعسكرية على طهران، عُرِفت بـ"الضغوط القصوى".

أفضت مناورة ترامب إلى نقيض أهدافها، فهي لم تفشل فحسب، بل زادت من تعقيد الوضع، حتى أن وزير الخارجية الأمريكية أنتوني بلينكن وصفها بأنها "واحدة من أسوأ القرارات التي اُتخذت في السياسة الخارجية الأمريكية في العقد الماضي". فقد دفعت العقوبات الجديدة إيران إلى البدء في إحياء برنامجها النووي في عام 2019، وأصبحت قادرة على تخصيب كميات صغيرة من اليورانيوم بنسبة نقاء تصل إلى 60 في المائة. وخلال السنوات الثلاث التي انقضت منذ الانسحاب، من الواضح أن استراتيجية ترامب، وفقاً لشروطها الخاصة، باءت بالفشل، إذ لم تجبر العقوبات المتجددة والمتصاعدة على إيران طهران على الاستسلام والتفاوض على صفقة أفضل، ولم يؤدِ الضرر الاقتصادي إلى الإطاحة بها ، والأهم أن ترامب لم ينفذ تهديداته الاستعراضية المتكررة بضرب إيران مباشرةً، بالرغم من زعم انتهاكاتها النووية المتزايدة وهجماتها المتعددة ضد حلفاء واشنطن الإقليميين.

بخلاف الرأي الرسمي الإسرائيلي المعلن، اعترف بعض المسؤولين الأمنيين الإسرائيليين، بأن هذه السياسة كانت فاشلة حسب نيري زيلبر، حيث قال رئيس قسم الأبحاث في الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية المنتهية ولايته لصحيفة يديعوت أحرونوت في تشرين الأول/ أكتوبر 2020: "إيران بعيدة كل البعد عن الاستسلام؛ فهي لم ترضخ. لم يتم إثبات أن الانسحاب من الاتفاق النووي قد خدم إسرائيل".
بدأت الدول العربية المطبعة مع إسرائيل تراجع سياساتها، فقد تكشفت صفقة القرن ومخرجاتها عن التناقض الحاد بين المتخيل والواقع، وأن إسرائيل ليست قادرة على حماية نفسها فضلاً عن حماية غيرها، وأن صداقتها لا تفضي المزيد من عدم الاستقرار والتكاليف الباهظة، وأن معاداة إيران وتركيا وتقليص نفوذهما في المنطقة محض أوهام

وفي آذار/ مارس الماضي، قال نائب رئيس جهاز الاستخبارات الإسرائيلي الموساد المنتهية ولايته للصحيفة ذاتها، بعبارات لا لبس فيها، أن الوضع في العام 2021 كان أسوأ مما كان عليه في العام 2015، وأن "المطالب الاثني عشر" المتشعبة التي طالب بها وزير الخارجية الأمريكي السابق مايك بومبيو من إيران - بما في ذلك وقف برنامجها النووي وتطوير الصواريخ ودعم الوكلاء الإقليميين - كانت بمثابة حلم لم يتحقق، فإيران "لم توقف انتشارها في المنطقة للحظة. الإيرانيون يطورون الصواريخ.. والصفقة التي أبرمناها في العام 2018، الضغط من أجل انسحاب الولايات المتحدة من خطة العمل الشاملة المشتركة لم تكن جيدة؛ فقد عدنا إلى نفس المكان".

في أواخر تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي، انتقد العديد من المسؤولين الأمنيين الإسرائيليين السابقين الذين خدموا في عهد نتنياهو؛ سياسة رئيس الوزراء السابق تجاه إيران، وقال وزير الدفاع الإسرائيلي السابق موشيه يعلون: "بالنظر إلى السياسة المتعلقة بإيران في العقد الماضي، كان الخطأ الرئيسي انسحاب الإدارة الأمريكية من خطة العمل الشاملة المشتركة، وهو خطأ تاريخي".. "فخطة العمل الشاملة المشتركة، كان ينبغي أن تكون اتفاقاً مختلفاً تماماً، لكنها كانت أفضل ربما من عدم وجود اتفاق، إذ قدم الانسحاب للإيرانيين ذريعة للمضي قدماً في المشروع، وباتوا الآن في أقرب مرحلة على الإطلاق ليصبحوا دولة عتبة نووية"، وهو تقييم يتفق معه رئيس أركان الجيش الإسرائيلي السابق غادي آيزنكوت، ومدير الموساد السابق تامير باردو.

في هذا السياق، بدأت الدول العربية المطبعة مع إسرائيل تراجع سياساتها، فقد تكشفت صفقة القرن ومخرجاتها عن التناقض الحاد بين المتخيل والواقع، وأن إسرائيل ليست قادرة على حماية نفسها فضلاً عن حماية غيرها، وأن صداقتها لا تفضي المزيد من عدم الاستقرار والتكاليف الباهظة، وأن معاداة إيران وتركيا وتقليص نفوذهما في المنطقة محض أوهام. وقد عزز هذه الرؤية انسحاب الولايات المتحدة الأمريكية من أفغانستان، وعدم رغبة إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن في الانخراط في المنطقة، وانشغال واشنطن بآسيا المحيط الهادي للتصدي للصعود الصيني.
بات في حكم المؤكد أن سياسة ترامب كانت كارثية على إسرائيل، فقد صنفت الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية فرص شمل أي صفقة جديدة للنشاط الإقليمي لإيران على أنها معدومة، وفرص شملها لتطوير الصواريخ الإيرانية على أنه غير مرجحة على الإطلاق، وبالتالي فإن النفوذ الإيراني بات مسألة محسومة، وتفرد إسرائيل بالشرق الأوسط تكشّف عن وهم

أدت التطورات السريعة إلى تغيير في رؤية الدول الخليجية تجاه إيران وتركيا، فقد أدركت هذه الدول أن الفراغ الذي نشأ بعد تبدل الأولويات الاستراتيجية الأمريكية لا يمكن أن تملأه إسرائيل، ولا بد من التفاهم بين دول المنطقة لتجنب الصدام. وقد برزت التغيرات بصورة جلية بعد جولات المحادثات السعودية- الإيرانية في بغداد، والتقارب الإماراتي- الإيراني، حيث شهدت العلاقات التركية الإماراتية تحسناً كبيراً في الأشهر الأخيرة بعد قطيعة استمرت أكثر من ثماني سنوات، توجت بزيارة ولي عهد أبو ظبي والحاكم الفعلي للإمارات إلى تركيا في 24 تشرين الثاني/ نوفمبر 2021، وبقرار الإمارات "فتح صفحة" جديدة في علاقاتها مع إيران.

خلاصة القول أن الخطابات الأيديولوجية الأمريكية/ الإسرائيلية حول إيران تحجب الاتفاقات الجيواستراتيجية، ولا تعدو جولات المفاوضات في فيينا لإحياء الاتفاق النووي الإيراني عن كونها محاولة للحصول على صفقة أفضل. وقد بات في حكم المؤكد أن سياسة ترامب كانت كارثية على إسرائيل، فقد صنفت الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية فرص شمل أي صفقة جديدة للنشاط الإقليمي لإيران على أنها معدومة، وفرص شملها لتطوير الصواريخ الإيرانية على أنه غير مرجحة على الإطلاق، وبالتالي فإن النفوذ الإيراني بات مسألة محسومة، وتفرد إسرائيل بالشرق الأوسط تكشّف عن وهم، ولا تعدو تهديداتها بشن ضربات عسكرية على إيران عن كونها دعاية بائسة، لم تقدم عليها أمريكا في أوج غطرستها. والمفارقة أن العالم العربي بات خارج المنافسة الإقليمية في الشرق الأوسط، بسبب سياسات الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل.

twitter.com/hasanabuhanya
التعليقات (0)