كتاب عربي 21

موجة "جهادية" غير نمطية ضد الاحتلال في فلسطين

حسن أبو هنية
1300x600
1300x600

كان من المفترض أن تكون "قمة النقب" التي عقدتها المستعمرة الصهيونية في فلسطين بمشاركة الولايات المتحدة الأمريكية وأربعة من الدول العربية المطبعة مع الاحتلال، هي مصر والإمارات والمغرب والبحرين، لحظة تاريخية للاحتلال الكولونيالي العنصري بشرعنة وجوده والاعتراف بقيادته للمنطقة وتصفية القضية الفلسطينية، ولكن بعد وقت قصير من الاجتماع وأثناء وليمة العشاء الاحتفالية، وصلت التقارير عن العملية الجهادية في "الخضيرة"، والتي لم تمنع الحضور من تناول الوليمة، لكنها ألغت العرض الاحتفالي المعد، حيث تغيرت الخطط والبرامج بعد أن أطلع وزير خارجية الاحتلال مائير لابيد وزراء الخارجية العرب المطبعين المشاركين على تفاصيل العملية في الخضيرة، والذين بدورهم شجبوا وأدانوا العملية التي أفسدت عليهم العشاء والاحتفال.

لم تكن عملية "الخضيرة" حادثة منفصلة ومعزولة، فقد جاءت في سياق موجة "جهادية" غير نمطية، إذ كانت مفاجئة وصادمة، فلم تسبقها أية تحذيرات استخباراتية إسرائيلية تشير إلى احتمالية تنفيذ هجمات، كما أنها نفذت داخل العمق الإسرائيلي الذي يفترض أنه آمن ومحصن، فخلال أسبوع واحد فقط، قتل نحو 11 إسرائيلياً وأصيب نحو 14 آخرين، حيث بدأت موجة العمليات بهجوم دهس وإطلاق نار في مدينة بئر السبع في 23 مارس/ آذار، مروراً بعملية إطلاق نار في الخضيرة بمدينة حيفا في 27 مارس/ آذار، تلتها بعد يومين في 29 مارس/ آذار، عملية نوعية أخرى في نقاط مختلفة داخل تل أبيب، وقد نفذ العمليتان الأولى والثانية فلسطينيون من الداخل يحملون الجنسية الإسرائيلية، فيما نفذ الثالثة شاب من الضفة الغربية، نجح بالتسلل إلى تل أبيب بسلاحه الرشاش.

المفاجأة والصدمة الأكبر وقعت بعد تبني تنظيم "الدولة الإسلامية" العملية التي نفذها شابان فلسطينيان في مدينة الخضيرة بمنطقة حيفا، وأسفرت عن مقتل إسرائيليين اثنين وإصابة آخرين، حيث ذكرت وكالة "أعماق" التابعة للتنظيم، عبر بيان لها، أن عنصرين من "الشرطة اليهودية" على الأقل قُتلا، وأُصيب آخرون بجروح، بهجوم "انغماسي مزدوج" لمقاتلي "الدولة الإسلامية" شمالي فلسطين، ونقلت "أعماق" عن "مصادر أمنية"، أن إثنين من مقاتلي "الدولة الإسلامية"، نجحا في الوصول إلى شارع هربرت صموئيل، بمدينة الخضيرة، وشرعا بإطلاق النار على قوة من "الشرطة اليهودية"، ما أسفر عن مقتل عنصرين، وأوضحت أن "الانغماسيين" هما أيمن وخالد إغبارية، وأنهما واصلا الاشتباك مع "القوات اليهودية" في المكان، ما أسفر عن إصابة نحو عشرة عناصر آخرين بجروح متفاوتة، بينها حالات خطرة، قبل أن يُقتلا في موقع الهجوم، وذكر "التنظيم" أن العملية تأتي بعد أيام من عملية أخرى نفذها "الانغماسي" محمد أبو القيعان، قرب مركز تجاري وسط مدينة بئر السبع، جنوبي فلسطين، وخلّفت أربعة قتلى في "صفوف اليهود" بينهم حاخام، كما أرفقت "أعماق" ببيانها، صورة قالت إنها لمنفذَي العملية، خلال إعلانهما بيعتهما لأمير تنظيم "الدولة الإسلامية" الجديد أبو الحسن الهاشمي.

 

لم تكن عملية "الخضيرة" حادثة منفصلة ومعزولة، فقد جاءت في سياق موجة "جهادية" غير نمطية، إذ كانت مفاجئة وصادمة، فلم تسبقها أية تحذيرات استخباراتية إسرائيلية تشير إلى احتمالية تنفيذ هجمات، كما أنها نفذت داخل العمق الإسرائيلي الذي يفترض أنه آمن ومحصن،


كانت العملية الثالثة في تل أبيب التي لم يتبناها تنظيم "الدولة" هي الأقسى والأشد، رغم أنها تحاكي نمط وأسلوب تنظيم "الدولة" الإنغماسي، وحسب وصف الإعلام الإسرائيلي فقد كانت قاسية وصادمة، حيث نجح منفذ العملية الشاب ضياء حمارشة من الدخول بطريقة ما إلى وسط إسرائيل قادماً من مدينة جنين، وربما حظي بمساعدة أحد من الداخل، وبجعبته بندقية إم 16 وذخيرة، حيث نفذ عمليته على مراحل وتنقل بين 3 مواقع في تل أبيب، وهو ما يعتبر فشلاً أمنياً واستخباراتياً خطيراً بالنسبة المؤسسة الأمنية الإسرائيلية، بعد أن أوقعت 5 قتلى بينهم أفراد شرطة ومستوطنون ونحو 6 جرحى، كما أنها تعتبر الأولى من نوعها منذ 16 عاماً، وتعيد إلى الأذهان زمن عمليات المقاومة الفلسطينية إبان الانتفاضة الثانية داخل عمق إسرائيل.

في حقيقة الأمر لم تشكل الموجة الجديدة من العمليات الجهادية صدمة ومفاجأة للإسرائيلين فقط، بل صدمة ومفاجأة أكبر للتيارات اليسارية والقومية والإسلام السياسي، ففي الوقت الذي أقرت فيه إسرائيل بأن المتفذين لهم صلات إيديولوجية بتنظيم "الدولة الإسلامية"، فقد أنكرت التيارات أي صلة للتنظيم بهذه العمليات، التي اعتبرتها شرفاً لا يمكن أن يناله "داعش" وهي التسمية القدحية المفضلة لديهم، بل إن السردية الرئيسية لهذه التيارات تقوم على أن تنظيم "الدولة" صنيعة إمبريالية أمريكية عالمية وصهيونية إسرائيلية إقليمية ودكتاتورية عربية محلية، وفي حقيقة الأمر فإن منفذي العملية الأولى والثانية لهم ارتباطات إيديولوجية وتنظيمية بتنظيم "الدولة"، بينما منفذ العملية الثالثة له صلات إيديولوجية فقط.
  
إن ما تغفل عنه سرديات نظرية المؤامرة أن تنظيم "الدولة الإسلامية"، هو نتاج فشل دولي وإقليمي ومحلي، وهو يعبر عن فقدان الخيارات في مواجهة الإمبريالية والصهيونية والطائفية والدكتاتورية، وهو يقدم إجابات عند الشباب المحبط من فقدان الخيارات على حالة البؤس الذي بلغه العالم العربي والإسلامي، وانسداد أفاق التحرر والاستقلال وغياب الحرية والعدالة وفقدان الكرامة في المنطقة.
  
تبدو الحالة الفلسطينية مثالية لفهم أسباب جاذبية "داعش" لدى فئة الشباب في العالم العربي والإسلامي، وهي فئة توصم من طرف الإمبريالية والصهيونية والدكتاتورية بالمزيج الراديكالي المتفجر، فصورة الشباب في المنطقة تكافئ هوية الإرهابي، وترتبط بالتطرف والثورة وتعتبر مهددة للاستقرار، فجاذبية "داعش" انعكاس لأنظمة فاشلة انقلبت على كافة الخيارات السلمية الديمقراطية ومطالب "الخبز والحرية والعدالة والكرامة"، ومارست أشد عمليات القتل والقمع، حيث قتل الآلاف بطرائق شتى، ولا يزال يقبع في سجون ومعتقلات العالم العربي منذ الانقلاب على ثورات الربيع العربي أكثر من ربع مليون شاب، فضلاً عن الموت البطيء من الفقر والجوع والبطالة، والأنكى هي مسألة الكرامة، تلك المفردة التي باتت في قاموس الدكتاتوريات العربية مسألة اختلافية مرذولة، ولعل من أشد معاني وتحققات انتهاك وامتهان الكرامة هو الإصرار على التطبيع مع كيان استعماري عنصري قاتل، إذ باتت فلسطين تاريخاً خلافياً مظلماً أعاق التقدم والتنمية والسلام في المنطقة لدى الأنظمة العربية البائسة، وأصبحت المستعمرة اليهودية حقيقة حضارية ملهمة.

 

إن ما تغفل عنه سرديات نظرية المؤامرة أن تنظيم "الدولة الإسلامية"، هو نتاج فشل دولي وإقليمي ومحلي، وهو يعبر عن فقدان الخيارات في مواجهة الإمبريالية والصهيونية والطائفية والدكتاتورية، وهو يقدم إجابات عند الشباب المحبط من فقدان الخيارات على حالة البؤس الذي بلغه العالم العربي والإسلامي،

 


لا عجب أن تدين الأنظمة المطبعة التي تفتقر إلى الشرعية والمشروعية الموجة الجهادية في فلسطين، ولا غرابة أن تدين سلطة أوسلو وزعيمها غير المنتخب العمليات الانغماسية والاستشهادية، فقد استسلمت هذه الكيانات الرثة غير الشرعية لسردية الاحتلال الكولونيالي الصهيوني، ولم تعد مقولات التحرر والثورة والنضال والجهاد في قاموسها، بل إن الحديث عن قيام دولة فلسطينية ولو على جزء من الأراضي المحتلة بات من الماضي، فالسلام مع الاستعمار يعني الازدهار الاقتصادي في سردية صفقة القرن وعملية السلام الإبراهيمي، وهو ازدهار يقتصر على نخبة وكيلة للإمبريالية والاستعمار ومنفصلة عن تطلعات الشعوب بالتحرر والاستقلال والكرامة.

شكّلت الموجة الجهادية الجديدة صدمة في نمطها وأسلوبها وسرديتها، فهي تُعيد الأمور إلى نصابها، فهي تذكّر أن ثمة احتلال كولونيالي عنصري لفلسطين، كل فلسطين من النهر إلى البحر، فالصهيونية مشروع كولونيالي قام على القوة الوحشية بطرد وتشريد أكثر من 80% من الشعب الفلسطيني من منازلهم وأراضيهم وأماكنهم التاريخية والثقافية، ومنذ البداية، كان المشروع الاستعماري الصهيوني يهدف إلى محو الفلسطينيين الأصليين، واستبدالهم باليهود من جميع أنحاء العالم بالاتكاء على الفظائع الأوروبية ضد اليهود، فالصهيونية مشروع عنصري استعماري استيطاني، وقد أصدرت دولة الاحتلال نحو 65 قانوناً عنصرياً تميّز ضد المواطنين الفلسطينيين وفلسطينيي الأراضي المحتلّة، ومنذ ذلك الحين، تمّ اعتقال مئات الآلاف من الفلسطينيين لأسباب سياسية مناهضة للاحتلال.

في ظل الهلع والخوف والحيرة وفقدان الأمن الذي اجتاح قادة المستعمرة الصهيونية في فلسطين عقب الموجة الجهادية، عمدت سلطة الاستعمار الاحتلالي إلى تأكيد حضورها كبنية وليس حدث لكسر الموجة، من خلال عمليات القتل العشوائي وعمليات الاعتقال واستعراض القوة وتأكيد الحضور، ذلك أن الموجة الجهادية أعادت التأكيد على سردية الاستعمار والاحتلال، إذ  لا بدّ من التأكيد، حسب نهلة عبدو مرة أخرى، أنّ جميع الفلسطينيين في الكيان المحتل (48 و67) هم مستعمَرون، محتلّون ومضطهَدون. علاوة على ذلك، فإنّ عدم المساواة المبنية على التفضيل العرقي، هو سمة من سمات المجتمع الإسرائيلي حتى بين اليهود أنفسهم، ولا بدّ من التذكير بقرار الأمم المتحدة عام 1970، والذي أقرّ بأنّ الصهيونية هي شكل من أشكال العنصرية. فبالرغم من إشكالية هذا القرار، والذي أُلغي عام 1991 نتيجة الضغوط الأميركية والإسرائيلية والقبول الفلسطيني كشرط للانضمام إلى "معاهدة أوسلو"، إلّا أنّ الروح خلف وقوف معظم دول العالم مع عدالة القضية الفلسطينية، لن تمحوها السنون.

لقد غاب عن أنصار "السلام بلا عدالة" ومحترفي "نظرية المؤامرة" أن الجهادية العالمية برزت بعد أن استسلمت حركات وقوى ودول عربية لرواية السلام الكولونيالي الصهيوني التي عممت عالمياً سردية "الإرهاب"، فقد كان شرط استدخال منظمة التحرير الفلسطينية في المشروع الكولونيالي الصهيوني الاعتراف والندم والتوبة عن مقاومتها السابقة للاحتلال، والإقرار أن أي مقاومة مسلحة للاحتلال الكولونيالي هو "إرهاب"، ولا تزال السلطة التي شرعنها الاحتلال وفية لتوبتها بإدانة أي عمل عسكري يقاوم الاحتلال، وتلتزم بوصف المقاومة بـ"الإرهاب".

في سياق التطبيع مع الاحتلال وبروز زمن مقاولات السلام والاستسلام للسردية الاستعمارية، ولدت الجهادية العالمية، إذ تشير التشكلات الإيديولوجية والممارسات العملية للجهادية المعاصرة، الموصوفة بـ"الإرهاب"، بوضوح؛ إلى أنها ظاهرة تكونت بعد نهاية الحرب الباردة، تؤسس لبناء منظومة جهادية متحدة تسعى لرفع الهيمنة الغربية عن المنطقة العربية والإسلامية، من خلال بناء إيديولوجية خطابية مناهضة للعولمة، واعتماد استراتيجية قتالية تقوم على فلسفة جهاد النكاية ودفع صائل العولمة العسكرية الأمريكية؛ التي عملت على دعم المستعمرة الاستيطانية اليهودية من جهة، وإسناد الأنظمة الدكتاتورية في المنطقة من جهة أخرى، فقد تنامت سردية جهادية بأن "العدو القريب" الذي تمثله الأنظمة الديكتاتورية العربية والإسلامية لا يقوم بذاته، وإنما يستند إلى القوة الإمبريالية للولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها من الإسرائيليين. وبهذا، بدأت تتسرب سردية أولوية القتال ضد "العدو البعيد"، وعولمة الجهاد في سياق بروز ثلاثة ظروف استراتيجية؛ الأولى: محلية وطنية، وتتمثل بإنغلاق الأنموذج السياسي وفشل وعود التحول الديمقراطية ورسوخ الاستبداد، والثانية: إقليمية، وتتمثل بعدم التوصل إلى سلام عادل وحقيقي في فلسطين، والثالثة: عالمية وتتمثل بانهيار الاتحاد السوفييتي، وسيادة القطب الأمريكي الواحد وحلول العولمة.

 

لقد غاب عن أنصار "السلام بلا عدالة" ومحترفي "نظرية المؤامرة" أن الجهادية العالمية برزت بعد أن استسلمت حركات وقوى ودول عربية لرواية السلام الكولونيالي الصهيوني التي عممت عالمياً سردية "الإرهاب"، فقد كان شرط استدخال منظمة التحرير الفلسطينية في المشروع الكولونيالي الصهيوني الاعتراف والندم والتوبة عن مقاومتها السابقة للاحتلال،

 



على صعيد الخطاب والفعل، فقد استهدفت اتفاقيات "أوسلو" خلق انزياح في المعجم النضالي الفلسطيني العربي الإسلامي الذي يختزن طاقة متجددة من الحرية والتحرر والتحرير، وهو معجم منفتح على استعمالات تاريخية مخصوصة واستدخالات كونية عمومية، كالجهاد والمقاومة والنضال، والتحرير وتصفية الاستعمار ومناهضة العنصريّة، والتصدي للعنف الإرهابي الإسرائيليّ، وفضح ومواجهة سرقة الأراضي، ومطالب الاستقلال، وحقّ العودة، ومبادئ الحق والعدالة والقانون الدوليّ، والتي باتت في معجم أوسلو مرذولة ودلالاتها إرهابوية. وتم تدشين مصفوفة دلالية استبدالية، وحقول تحرث في مياه مصطلحات ومفاهيم تؤسس للاستقالة عن الاستقلال، كالبراغماتيّة السياسية؛ التي تتضمن سلسلة من المفاوضات والاتفاقيّات، والمساومات، والتنسيق الأمنيّ، والدخول في جنة الاعتدال ودهاليز الاعتراف، وتداوليات السلام، وهي ديانة إمبريالية تعني الخنوع والاستسلام للقوة، وتصف مناهضيها بالشذوذ والسادية والإرهاب والبربرية.

أحد أوجه الجاذبية الجهادية اليوم أنها تناهض المعجم البراغماتي للإمبريالية والكولونيالية، وهو معجم بات متبنى من قوى التطبيع، وحسب جوزيف مسعد، فإن لغة الصهيونيّة تقوم على أن الاستعمار هو السلام، ومقاومة الاستعمار هي الحرب، وإذا استعرنا مصطلحي "البراغماتية" و"التطرف"، فـ"البراغماتية" في اللغة الصهيونية تعني جوهرياً القبول بالمعاني التي تعطى للكلمات في اللغة الصهيونية، ما يعني أن البراغماتي هو الشخص الذي يقبل أن "الاستعمار هو السلام وهو الأمن"، ويقبل أيضاً أن "مقاومة الاستعمار هي الحرب هي الإرهاب"، بالإضافة إلى أن على البراغماتي أن يقبل بأن بانتوستنات الفصل العنصري تعني "السيادة"، وكلمة "التطرف"، تعني في اللغة الصهيونية أي موقف رافض للمعاني التي تضفيها اللغة الصهيونية على الكلمات، وأن من يؤمن بأن الاستعمار لا يعني السلام والأمن، وأن مقاومة الاستعمار لا تعني الحرب والإرهاب، لا شك بأنه متطرف أيضاً.

لا شك أن سلطة "أوسلو" كوكيل للاحتلال باتت منفصلة عن المعجم النضالي للمقاومة الفلسطينية، واستدخلت المعجم البراغماتي الأمريكي الإسرائيلي، وهي غير قادرة على الخروج من سجن الكلمات ومعتقل الدلالات، الأمر الذي أصبح محركا لممارساتها. فعلى مدى سنوات عملت السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية على تفكيك البنية التحتية للمقاومة المسلحة، سواء أكانت تتبع حركات جهادية كحركة حماس، أم تتبع كتائب ثورية كشهداء الأقصى، لكن سلطة أوسلو التي انشغلت في مراكمة الثروات وشراء الولاءات؛ أخفقت في بناء نموذج مقنع في الحكم. فقد تدهورت الظروف الاجتماعية والاقتصادية خلال الأعوام الماضية، كما أن مفاوضات السلام التي طرحت كخيار استراتيجي وحيد، في إطار حركة فتح، فشل في تعزيز شرعية السلطة الفلسطينية.

في سياق سيادة اللغة الأمريكية الإسرائيلية وتعميمها، أصرت الجهادية العالمية على التمسك بمعجمها الهوياتي. ففي الوقت الذي شهد تراجع الاهتمام بالقضية الفلسطينية عربيا باعتبارها قضية العرب المركزية الأولى، ثم تحولها إلى مسألة هامشية، وتقدم النزعة المحلية القُطرية، ودخول العرب في سياق السلام الإسرائيلي، كانت الجهادية العالمية تعيد تأسيس المسألة الفلسطينية، وتعمل على بناء سردية خطابية محورها فلسطين، وتؤكد على نهج القتال الجهادي، والتي غدت في صلب المشروع الجهادي العالمي منذ بداياته الأولى في أفغانستان. وفي مرحلته الثانية، احتلت فلسطين قلب النشأة فيه، عبر الإعلان عن تشكيل "الجبهة الإسلامية العالمية لقتال اليهود والصليبيين" 1998.

لقد تطورت السردية الجهادية العالمية الخاصة بفلسطين مع ولادة الجيل الثالث، عقب الاحتلال الأمريكي للعراق عام 2003، وولادة تنظيم "الدولة" الذي تطور خطابه تجاه فلسطين، ففي زمن "صفقة القرن" التي تهدف إلى تصفية القضية الفلسطينية- أعلن تنظيم "الدولة الإسلامية" في 27 يناير/كانون الثاني 2020، بدء "مرحلة جديدة" تستهدف المستعمرة اليهودية، وذلك في تسجيل صوتي صدر عن مؤسسته الإعلامية "الفرقان" بعنوان: "دَمَّرَ اللهُ عليهم وللكافرين أمثالُها"، ودعا فيه المتحدث السابق باسم التنظيم أبو حمزة القرشي إلى إفشال "الصفقة".

رغم ضعف القدرة العملياتية والتشغيلية العسكرية لتنظيم "الدولة" داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة، وفشله في تأسيس كيانات وشبكات وخلايا فاعلة هناك؛ فإن التحول الأيديولوجي والإستراتيجي في توجهات التنظيم من أولوية قتال "العدو القريب"، إلى دمج الأبعاد الجهادية والمباشرة بقتال "العدو البعيد"؛ كان يشير إلى بداية "مرحلة جديدة" ومرتكزات مختلفة في رؤية التنظيم. إذ يتماهى خطاب تنظيم "الدولة الإسلامية" ـ المعلن لبدء "مرحلة جديدة" عنوانها "فلسطين" ـ مع تنامي المعتقدات والمشاعر في العالمين العربي والإسلامي بوجود "مؤامرة" أميركية/صهيونية، تشارك فيها أطراف عربية لتصفية القضية الفلسطينية، ويسعى تنظيم الدولة إلى إعادة تقديم نفسه مرة أخرى للجماهير الغاضبة في المنطقة، ويقدم إيديولوجية جهادية صلبة تناهض المشروع الإمبريالي الصهيوني الدكتاتوري الذي يهدف إلى إعادة بناء الشرق الأوسط عبر مدخل "الإرهاب"، ويقوم على تصفية القضية الفلسطينية، وإدماج المستعمرة الاستيطانية اليهودية في نسيج المنطقة العربية الإسلامية، من خلال تأسيس تحالف أميركي عربي إسرائيلي (ناتو عربي) تحت ذريعة مواجهة خطر مشترك اختزل في المنظمات الإسلامية "الإرهابية" والجمهورية "الإيرانية".

لا جدال في أن المرحلة الجديدة التي أعلنها تنظيم "الدولة" شكلت تحولاً كبيراً على صعيد التفكير الإيديولوجي والإستراتيجي، وقد ظهرت آثارها المادية من خلال الموجة الجهادية الجديدة؛ ورغم أن التنظيم على الصعيد العملياتي لا يتمتع بقدرات تشغيلية كافية في فلسطين على المدى القريب، ولا يتوافر على قدرات كبيرة في سيناء وسوريا، وهما المنطقتان اللتان تتوافران على حدود مع "إسرائيل"، وللتنظيم فيهما ولايات، لكن نهجه يحرض على عمليات من "ذئاب منفردة" وخلايا فردية، وهو ما كشفت عنه موجة العمليات الأخيرة، وهي موجة تؤسس لانتقال تنظيم "الدولة" من الخطاب إلى الممارسة، وبداية تشكل نواة ولاية مستقبلية في ظل انتكاسة البدائل.

خلاصة القول إن الموجة الجهادية الجديدة في فلسطين غير نمطية من حيث المكان والزمان والأسلوب والهدف، فقد شكّلت صدمة ومفاجأة للكيان الاستعماري وللدول المطبعة وللسلطة، ولفصائل المقاومة التقليدية، والتي رغم ترحيبها بالعمليات رفضت نسبتها لتنظيم "الدولة"، ومع ذلك لم يدعي أي فصيل فلسطيني مقاوم قيامه بتنفيذ العمليات الثلاث، لكن المؤكد أن الهجمات تحمل نهج وتكتيك تنظيم "الدولة" الانغماسي، وأسلوب "الذئاب المنفردة" والخلايا الفردية، إذ لا يمكن فهم جاذبية خطاب "داعش" لدى الشباب دون نظرية "فقدان الخيارات"، فعندما تنهار خطابات وممارسات المقاومة والثورة والتحرير، وتتموضع داخل المعجم البراغماتي للإمبريالية والكولونيالية الصهيونية والدكتاتورية، يقوم الدين من خلال الجهاد لبناء سردية لها معجمها الخاص وأدائها المتفرد، ففلسطين من النهر إلى البحر محتلة والمستعمرة الصهيونية عدو وجودي، والجهاد طريق وحيد للتحرر والتحرير، تلك هي جاذبية الجهادية العالمية التي لا تحفل بتسميتها منظمات إرهابية. 


التعليقات (1)
شامل الزيدى
الإثنين، 04-04-2022 01:46 م
يبدو ان تنظيم الدولة قد أصبح مستقرا فى قلبك. لا يمكن انكار تاريخ تنظيم الدولة فهو الذى أجهز على الثورة السورية. وان فعل فعلا مقاوما أخيرا. فقد قتل من المسلمين السنة اكثر مما قتل من الشيعة واليهود.