قضايا وآراء

في العلاقة بين العدالة المجالية والدولة الاجتماعية

امحمد مالكي
1300x600
1300x600
حظي موضوع "العدلة المجالية" (Justice spaciale) باهتمام متزايد في الأدبيات الغربية، وقد أصبح منذ سنوات مفهوما إرشاديا (paradigme) لتحليل السياسات العمومية، وتفسير الظواهر المرتبطة بها، والناجمة عن تطبيقها. وإذا كانت "العدالة المجالية" لم تحظ بالإجماع حول دقة تعريفها، وحدود معناها، ودائرة مجالاتها، فقد تم التوافق حول العناصر المؤسسة لها، والمتطلبات الواجب توافرها لإثبات شرعية وجودها، لعل أبرزها أن يقع التعامل مع المجال بوصفه رقعة جغرافية، وموطنا اجتماعيا، ومصدرا للثروة والخير العام، بقدر معقول وعقلاني من التوزيع المتوازن، المتكافئ، والمنصف للجميع. من هنا، تبدو العلاقة تلازمية بين "العدالة المجالية" وبناء الدولة الاجتماعية، التي ليست شيئا آخر سوى دولة الرعاية الاجتماعية، أو "دولة الرفاه" (welfare state) بتعبير "روبيرت ماكيفر".

يستلزم تحقيق الدولة الاجتماعية توافر مصفوفة من المتطلبات، أهمها وجود قدر عال من التماسك الاجتماعي أفقيا وعموديا، أي بين مكونات النسيج الاجتماعي العام، وبين هذه الأخيرة والتراتبية العمودية لمؤسسات الدولة وأبنية السلطة وصنع القرار فيها. فكلما كانت الفجوات الاجتماعية ضعيفة أو شبه منعدمة، تحققت للمجتمع مكنة التماسك، وفرصة الانصهار العضوي بين أبنائه، وتقوّى الولاء الجماعي، وشاعت ثقافة التضامن والتكافل، وتوطنت في السلوك الجماعي للأفراد والجماات، ولعكس صحيح، حيث تُفضي الإختلالات الاجتماعية بالضرورة إلى انفراط حبل الولاء، وضمور قيمة الولاء الجماعي، وشيوع الانقسامات بمختلف أنواعها وأشكالها، وهو ما نلاحظه، مع الأسف، في الكثير من بلدان المعمور، لا سيما في منطقتنا العربية.
كلما كانت الفجوات الاجتماعية ضعيفة أو شبه منعدمة، تحققت للمجتمع مكنة التماسك، وفرصة الانصهار العضوي بين أبنائه، وتقوّى الولاء الجماعي، وشاعت ثقافة التضامن والتكافل، وتوطنت في السلوك الجماعي للأفراد والجماات، ولعكس صحيح، حيث تُفضي الإختلالات الاجتماعية بالضرورة إلى انفراط حبل الولاء، وضمور قيمة الولاء الجماعي، وشيوع الانقسامات بمختلف أنواعها وأشكالها

فمن أجل تأكيد وجود علاقة طردية بين العدالة المجالية والدولة الاجتماعية، نُشير إلى أن من الشعارات المركزية التي رفعتها قوى الحراك العربي في مستهل العام 2011، ضعف العدالة المجالية في المجال الجغرافي والسياسي العربي، وتوسع دائرة الاختلالات والفجوات في المجتمعات لعربية، وعجز النظم العربية عن صناعة سياسات فعالة وناجعة لردم هذه الفجوات وتجاوزها إيجابيا. لنتذكر أن الشرارة الأولى للثورة التونسية انطلقت في17 كانون الأول/ ديسمبر 2010 من ولاية سيدي بوزيد، وهي من الولايات المنسية في خريطة التقسيم الترابي التونسي، حين أقدم محمد البوعزيزي على إضرام النار في جسده احتجاجا على واقع اجتماعي ظالم وغير منصف.

ليست المطالبة بالعدالة المجالية من قبيل الترف الفكري، أو التداول غير المجدي للألفاظ والكلمات، إنها -بالعكس- دعوة من أجل الإنصاف، إذا فهمنا "العدالة" (justice) بوصفها إنصافا (Equité)، بتعبير "جون رولز" (John Rawls/ 1921-2002). فالمجال باعتباره إطارا للعيش المشترك، والديمومة في الزمن، يُفترض بالضرورة أن يكون حاضنا للجميع، ليس بالانتساب إليه قانونيا فحسب، بل أيضا بالاستفادة المتكافئة من ثرواته، وخيراته، والفرص المتاحة في ربوعه، وإلا لا تكفي العلاقة القانونية التي تربط الإنسان بأرضه، أي بمجاله الجغرافي، أن تكون كافية لجعله مندمجا بشكل حقيقي وفعال، وواعيا ما يفرض الاندماج من حقوق ويرتب من واجبات ومسؤوليات. لذلك، يجب أن تتجسد العدالة المجالية في حقوق، تكرسها الدساتير، وتصوغها القوانين في سياسات عمومية، وتضمن حسن تنفيذها، وترعى توزيع نتائجها الإيجابية في كافة الميادين بتكافؤ وإنصاف وعدالة.

فحين يلمس المواطن خيرات بلده في معيشه اليومي، ويقتنع بأن له نصيبا منها بحسب جهده وعطائه، وأن سياسات التنمية المعتمدة وطنيا ومحليا تُمتّعه بنتائج ملموسة في المجالات المرتبطة بعماد حياته واستمرار وجوده.
المطالبة بالعدالة المجالية لتحقيق الدولة الاجتماعية، حيث يتعايش الجميع باستقرار وسكينة، ستزداد حدة، وستتوسع دائرة المناصرين لها والداعين إليها، بل إن دولا عريقة في مجال الديمقراطية، ما انفكت تنتقد مجتمعاتها نظمها السياسية وخياراتها الأساسية، وتدعو إلى ردم الفجوات

نُقدّر أن المطالبة بالعدالة المجالية لتحقيق الدولة الاجتماعية، حيث يتعايش الجميع باستقرار وسكينة، ستزداد حدة، وستتوسع دائرة المناصرين لها والداعين إليها، بل إن دولا عريقة في مجال الديمقراطية، ما انفكت تنتقد مجتمعاتها نظمها السياسية وخياراتها الأساسية، وتدعو إلى ردم الفجوات، ومعالجة الاختلالات الاجتماعية بفعالية ونجاعة.

فبحسب الكثير من استطلاعات الرأي في فرنسا، نسبة مرتفعة من الفرنسيين غير راضين على أداء دولتهم وسياساتها العمومية، لا سيما في القطاعات الأكثر التصاقا بحياة الناس في مجالات الأجور، والمعاشات، والنظام الجبائي، والقدرة الشرائية للشرائح متواضعة أو محدودة الدخل. كما أن عددا من أفراد النخبة السياسية والفكرية يشكون في أرادة الدولة وعزمها الدفاع عن قيمة العدالة في شقيها المجالي والإجتماعي. لذلك شكلت حركة "السترات الصفراء (gilets jaunes) ظاهرة اجتماعية، ميزت العهدة الأولى من حكم الرئيس "ماكرون" (2017-2022)، بل كادت بفعل قوتها أن توقف الحياة العامة في فرنسا، لولا الوصول المفاجئ لجائحة كورونا، وما استلزم الوباء من إجراءات وطنية لمقاومته.
بالنسبة للدول الأقل نموا والأكثر خصصا في كل المجالات، بما فيها المجال الديمقراطي، فإن العدالة المجالية أكثر من حاجة وضرورة، بل تُعد مدخلا مفصليا لردم الفجوات والاختلالات، وسبيلا لتحقيق التنمية المستدامة

أما بالنسبة للدول الأقل نموا والأكثر خصصا في كل المجالات، بما فيها المجال الديمقراطي، فإن العدالة المجالية أكثر من حاجة وضرورة، بل تُعد مدخلا مفصليا لردم الفجوات والاختلالات، وسبيلا لتحقيق التنمية المستدامة، التي تعد الدولة الاجتماعية الإطار الدستوري والمؤسساتي لها بامتياز.

ففي المغرب، على سبيل المثال، شكل "تقرير الخمسينية" (2006)، وأنموذج التنموي الجديد (2021)، أبرز الوثائق المفسرة لظاهرة الاختلال المجالي، والمحللة لآليات وأدوات تجاوزه إيجابيا. فبقدر ما اعترف تقرير الخمسينية بفشل النموذج التنموي المعتمد منذ الاستقلال (1955-1956)، بسبب عجزه عن معالجة الاختلالات المجالية وضعف الدولة الاجتماعية، بالقدر نفسه سعى "النموذج التنموي الجديد" إلى رسم طرق المعالجة وتصورات بناء الدولة الاجتماعية عبر تحقيق العدالة المجالية.
التعليقات (0)