كتاب عربي 21

ما بين ضاحية سكوكي الأمريكية والقدس الشرقية

جوزيف مسعد
1300x600
1300x600
لقد سمحت الحكومة الإسرائيلية، التي يعتبرها القانون الدولي المحتل غير الشرعي لمدينة القدس الشرقية، لحشود من اليهود الإسرائيليين العنصريين المتطرفين بالطوف في الأحياء الفلسطينية المحتلة في المدينة يوم 29 أيار/ مايو، ملوحين بأعلامهم الاستعمارية التي تتوسطها نجمة داوود، وسط هتافات إبادية ومرددين: "الموت للعرب" و"فلتحترق قريتكم". كما وجهوا الشتائم إلى الصحفية الفلسطينية الأمريكية الشهيدة شيرين أبو عاقلة، التي اغتالها قناص إسرائيلي الشهر الماضي، مرددين "شيرين عاهرة".

ويطلق المتظاهرون اليهود، الذين بلغ عددهم 70 ألفا هذا العام، على مسيرتهم السنوية التي يروّعون خلالها الفلسطينيين ويعتدون عليهم، والتي ينظمونها في "يوم القدس"، اسم "مسيرة الأعلام". وقد كان المحتلون الإسرائيليون قد أسسوا "يوم القدس" في عام 1968، في الذكرى الأولى لاحتلالهم للمدينة الفلسطينية، احتفالا بغزوهم. وخلال المسيرة، اقتحم أكثر من 2600 من المشاركين العنصريين الإباديين ساحات المسجد الأقصى تحت حماية الشرطة الإسرائيلية.

إذا كانت نجمة داوود السداسية، التي غدت رمزا يهوديا حصريا في القرن التاسع عشر في أوروبا، قد أصبحت رمزا لقهر اليهود واضطهادهم في ألمانيا النازية، فقد أصبحت نجمة داوود، التي استحوذ عليها الصهاينة ووضعوها على العلم الإسرائيلي، رمزا لقهر وإذلال الفلسطينيين في فلسطين على أيدي الصهاينة واليهود الإسرائيليين. والواقع هو أن العلم الإسرائيلي هو الرمز الرئيس للغزو الصهيوني الاستعماري لأرض الفلسطينيين. وفي حين قام الاحتلال الإسرائيلي بالاعتداء بوحشية مؤخرا على موكب جنازة شيرين أبو عاقله، بحجة أن بعض المشيعين الفلسطينيين قد حملوا الأعلام الفلسطينية في مدينتهم الفلسطينية، يصر نظام الاحتلال الإسرائيلي على أن العلم الوحيد المسموح برفعه في القدس الشرقية المحتلة هو علم الغزاة الإسرائيليين.
في حين قام الاحتلال الإسرائيلي بالاعتداء بوحشية مؤخرا على موكب جنازة شيرين أبو عاقله، بحجة أن بعض المشيعين الفلسطينيين قد حملوا الأعلام الفلسطينية في مدينتهم الفلسطينية، يصر نظام الاحتلال الإسرائيلي على أن العلم الوحيد المسموح برفعه في القدس الشرقية المحتلة هو علم الغزاة الإسرائيليين

ولم يقتصر الدعم الضخم للعنصريين اليهود المطالبين بالإبادة الجماعية للفلسطينيين على إسرائيل فحسب، بل إن "اللجنة اليهودية الأمريكية"، وهي من أقدم المنظمات اليهودية الأمريكية في الولايات المتحدة، قد غردت بأن أعضاءها "يحتفلون بتوحيد القدس، العاصمة الأبدية لإسرائيل والشعب اليهودي". وأضافت في التغريدة أن "70 ألف شخص تظاهروا للاحتفال بيوم القدس بمناسبة توحيد عاصمة الشعب اليهودي. لكن عنف المشاغبين الفلسطينيين، وهتافات الكراهية من قبل متطرفين هامشيين من اليهود الإسرائيليين، والاشتباكات بين الطرفين، ليس ما يجب أن يكون عليه هذا اليوم. فنحن نقف مع إسرائيل".

وقد اختار الفرع الإسرائيلي لـ"رابطة مكافحة التشهير" وهي منظمة يهودية أمريكية عريقة، إدانة الهتافات العنصرية اليهودية التي جعلت "أجزاء" من المسيرة فقط "متطرفة" بحسبها، لكن الرابطة لم تذكر الاعتداءات العنصرية على عشرات من الفلسطينيين الذين أصيبوا بجروح أو الذين اعتقلتهم إسرائيل. لكن قبل ذلك بأسابيع قليلة فقط، قام المقر الرئيس لـ"رابطة مكافحة التشهير" في الولايات المتحدة، والذي أعاد بدوره تغريد إدانة فرعه الإسرائيلي للإباديين اليهود، بإدانة "جزء كبير" من نشاطات إحياء ذكرى "يوم النكبة" الفلسطينية في المدن الأمريكية ووصفها بأنها "معادية للسامية".

وفي حين لم تدرج أسماء اليهود العنصريين الذين دعوا إلى الإبادة الجماعية للفلسطينيين في تغريدة "رابطة مكافحة التشهير"، فقد رأت الرابطة أنه من المناسب إدراج أسماء نشطاء "يوم النكبة" الذين أدانوا إسرائيل. وعلى الرغم من مزاعم الرابطة، فإن التقرير الذي نشرته، وهو على غرار التقارير الاستخباراتية (والسجل التاريخي لـ"رابطة مكافحة التشهير" بالتجسس غير القانوني على الأمريكيين من أصول عربية وعلى مجموعات أخرى حافل وطويل)، لم يستشهد بتصريح واحد معاد للسامية في أي من النشاطات التي رصدها.
يجدر التوضيح بهدف المقارنة بأن نشاطات "يوم النكبة" في الولايات المتحدة لم تُقَم في أحياء يهودية، ناهيك عن أنها لم تُقَم في أحياء يهودية غزاها الفلسطينيون واحتلوها، عدا عن أن المشاركين في تلك النشاطات تضمنوا يهودا وجماعة "الصوت اليهودي من أجل السلام" المناهضة للصهيونية، وفلسطينيين، وأمريكيين آخرين أدانوا إسرائيل وليس اليهود

وهنا يجدر التوضيح بهدف المقارنة بأن نشاطات "يوم النكبة" في الولايات المتحدة لم تُقَم في أحياء يهودية، ناهيك عن أنها لم تُقَم في أحياء يهودية غزاها الفلسطينيون واحتلوها، عدا عن أن المشاركين في تلك النشاطات تضمنوا يهودا وجماعة "الصوت اليهودي من أجل السلام" المناهضة للصهيونية، وفلسطينيين، وأمريكيين آخرين أدانوا إسرائيل وليس اليهود.

وفي الواقع، كانت جماعة "الصوت اليهودي من أجل السلام" قد غردت بتغريدة واضحة لا لبس فيها بعد "مسيرة الأعلام"، منددة بإسرائيل: "هذه هي الصهيونية. تجسد مسيرة الأعلام جذور سلطة دولة إسرائيل. فقد تعرض الفلسطينيون للعنف الجسدي والاعتقال والتحرش أثناء إجبارهم على مشاهدة المستوطنين الإسرائيليين وهم يهتفون مطالبين بإبادتهم".

أما بالنسبة إلى منظمة اللوبي الأمريكية الأكبر المؤيدة لإسرائيل، أي لجنة الشؤون العامة الأمريكية الإسرائيلية "إيباك"، فقد احتفلت بالحدث بتغريدة تمنّت فيها لـ"الشعب اليهودي" الذي يُزعم أن لديه "ارتباطا عمره 3000 عام" بالمدينة؛ "يوم قدس سعيد".

وردا على إيباك، غرد مات دَص، مستشار السياسة الخارجية للسيناتور اليهودي اليساري بيرني ساندرز، بأن "إيباك تحتفل اليوم بالمسيرة الفاشية". وأضاف دص في تغريدة أخرى: "تخيلوا رد الولايات المتحدة إذا قامت أي حكومة في العالم بمسيرة فاشية سنوية عبر حي يهودي. هذا ما يضطر فلسطينيو القدس لتحمله، بينما رد حكومتنا هو: التزامنا بإسرائيل صارم". لربما يمكن لحادثة ضاحية سكوكي التي جرت أحداثها في عامي 1977-1978 أن تلقي الضوء على افتراض دص الخيالي.

 ففي عام 1977، سعى الحزب النازي الأمريكي إلى تنظيم مسيرة في ضاحية سكوكي، وهي من ضواحي مدينة شيكاغو في ولاية إيلينوي، وتقطنها أغلبية يهودية، وحيث كان يعيش عدة آلاف من الناجين من المحرقة. وعندما أصدر مجلس بلدية قرية سكوكي لوائح قانونية لمنع المسيرة، رفع الزعيم النازي الأمريكي فرانك كولين دعوى على المجلس. تبع ذلك معركة قانونية شاركت فيها المحكمة العليا الأمريكية و"الاتحاد الأمريكي للحريات المدنية" (والأخير أهم منظمة حقوقية ليبرالية أمريكية تدافع عن الحق في حرية التعبير)، تركزت على انتهاك حق حرية التعبير. كان حكم المحكمة النهائي لصالح "حرية التعبير" للحزب النازي، وبالتالي لصالح المسيرة وحق المتظاهرين في التلويح بالصليب المعقوف، رمز النازيين.

أصرت قرية سكوكي على أن الصليب المعقوف يعادل المفهوم القانوني لـ"الكلمات القتالية"، وهو مفهوم يعتبر الكلام والهتاف الذي يحرض على العنف كلاما لا يحميه القانون ولا حق حرية التعبير، لكن المحاكم رفضت تصنيف الرمز النازي كذلك.

علاوة على ذلك، أعلن النازيون الأمريكيون أن الشعارات الوحيدة التي كانوا يعتزمون رفعها أثناء المسيرة هي "حرية التعبير للبيض" و"حرية التعبير للرجل الأبيض" و"حرية التعبير لأمريكا البيضاء"، ولم تتضمن أي تهجم صريح على اليهود، كما لو أن المطالبة بامتيازات فوقية عرقية للمسيحيين البيض في حي يهودي ليست في حد ذاتها معادية لليهود.

تبع حكم المحكمة احتجاج شعبي كبير على السماح للنازيين بالقيام بالمسيرة. ومنذ صدور الحكم ولغاية اليوم يتم انتقاد "الاتحاد الأمريكي للحريات المدنية" الليبرالي ووصمه باعتباره مدافعا عن النازيين. وقد ألغى حوالي 30 ألف عضو من أعضاء "الاتحاد" اشتراكهم احتجاجا، وقد خسر الاتحاد كذلك نصف مليون دولار من المساهمات المالية، وهو مبلغ لا يستهان به في أواخر السبعينيات من القرن الماضي.

وفي صيف عام 1978، حصل النازيون الأمريكيون أخيرا على إذن بالمسيرة، وقد وافقوا على تنظيمها في وسط مدينة شيكاغو بدلا من ضاحية سكوكي، وقد سار 25 منهم مرتدين الزي الرسمي النازي مع الصليب المعقوف في الساحة الفدرالية وسط شيكاغو. وقد واجه النازيون مئات المتظاهرين المناهضين للنازية الذين كانوا في انتظارهم، أما سكان سكوكي اليهود بمن فيهم الناجون من المحرقة، الذين شرعوا في إنشاء متحف المحرقة في الضاحية لتثقيف الأمريكيين المسيحيين حول أهوال النازية، فجُنِّبوا التعرض للإذلال والشعور بالألم من رؤية النازيين يسيرون بينهم وفي حيهم.
الفارق الصارخ بين حادثة ضاحية سكوكي ومسيرة القدس الشرقية، هو مدى صغر حجم المسيرة المتوقعة لـ25 أمريكيا نازيا في ضاحية سكوكي ومحدودية تهديدها الرمزي للسكان اليهود، مقارنة بإرهاب المسيرة الفعلية والهتافات المنادية بالإبادة الجماعية للفلسطينيين التي قام بها العنصريون اليهود

إن الفارق الصارخ بين حادثة ضاحية سكوكي ومسيرة القدس الشرقية، هو مدى صغر حجم المسيرة المتوقعة لـ25 أمريكيا نازيا في ضاحية سكوكي ومحدودية تهديدها الرمزي للسكان اليهود، مقارنة بإرهاب المسيرة الفعلية والهتافات المنادية بالإبادة الجماعية للفلسطينيين التي قام بها العنصريون اليهود في أحياء مدينة القدس الشرقية.

وقد قام 70 ألف متظاهر (مقارنة بـ25 فقط في مسيرة سكوكي التي لم تحدث)، بدعم من الأجهزة الأمنية والسياسية في الدولة العبرية وحمايتها الكاملة، بما في ذلك 2000 شرطي إسرائيلي، بغزو الأحياء الفلسطينية، والاعتداء على السكان الأصليين، وهتف الآلاف منهم علانية بدعوات الإبادة الجماعية ضد جميع العرب، ورفعوا العلم الإسرائيلي الذي يعني للفلسطينيين أكثر بكثير من مجرد "كلمات قتالية".

لكن وبخلاف ما حصل مع "الاتحاد الأمريكي للحريات المدنية" الذي دافع عن حق النازيين الأمريكيين في المسيرة على أساس دعمه لحرية التعبير، فإن دعم منظمة "إيباك" واللجنة اليهودية-الأمريكية لـ"يوم القدس" هو جزء من دعمهم للاحتلال والاستيطان غير القانونيين للمدينة، والتي تشير إليها "إيباك" أيضا بـ"عاصمة دولة إسرائيل". لكن، رغم ذلك، فمنذ الاحتفال بـ"يوم القدس"، لم يلغِ أي من أعضاء "إيباك" الذين يزيد عددهم عن 100 ألف عضو اشتراكهم في المنظمة بحسب علمي، ومن يدري، ربما تكون "إيباك" قد حصلت على تبرعات مالية أكثر، وليس أقل، بسبب دعمها لغزو القدس.
التعليقات (0)