أفكَار

هل يملك العرب دورا في النموذج الفكري القيمي الملهم للعالم؟

الحرب الروسية على أوكرانيا تعيد صياغة الخارطة الدولية.. أين موقع العرب والمسلمين فيها؟  (الأناضول)
الحرب الروسية على أوكرانيا تعيد صياغة الخارطة الدولية.. أين موقع العرب والمسلمين فيها؟ (الأناضول)
ليس ثمة شك أن الحرب الروسية على أوكرانيا أضحت تمثل صيغة من صيغ تدبير الصراع الحدي بين روسيا والغرب، فالطرفان معا، صارا مقتنعين أن الدخول في صراع مباشر يعني نهاية العالم، أو على الأقل، فتح سيناريو مجهول، لا يستطيع أحد أن يتحكم في مآلاته، ولذلك، أضحت الصيغة الأقل كلفة، لممارسة هذا الصراع، أن يتم على مساحة لا تنتمي إلى الحلف الأطلسي، وأن تكون فيه الحرب بالوكالة.

لكن، مع الوعي بهذه الحدود، أو هذه الخطوط والمعادلات الحرجة، فالصراع على المستوى الفكري والسياسي والقيمي، لا يبدو منضبطا لقواعد هذه اللعبة الاستراتيجية والعسكرية، فساحة الحرب بين روسيا والغرب على هذا المستوى مفتوحة، وليس من شرطها البحث عن وكالات لتجنب سيناريوهات مخيفة.

استقراء مفردات هذا الصراع الفكري والقيمي والسياسي، يعكس في الجوهر صراع نموذجين، أو بداية تشكل نموذج فكري وقيمي وسياسي مناهض للنموذج القائم المهيمن.

نهاية النموذج الغربي

بعض المثقفين خاصة من الشرق، بدؤوا يطرحون فرضية أن تنتج الثقافة الشرقية ـ بتعدد مشاربها ـ نموذجا بديلا عن النموذج الغربي، لكن في الجوهر، لحد الآن، لا زالت النماذج المعروضة، ترتكز على النقد أكثر مما تطرح نموذجا فكريا قيميا ثقافيا مقنعا، أي أنها تحاول اليوم أن ترتكز على نقطة قوة أساسية، تقوم على فكرة نقد النموذج الغربي، في مفرداته، وفلسفته، وسياساته، وتحيزاته.

على المستوى القيمي، يبقى اللافت في هذا النقد التركيز على الثقافة الفردانية التي انتهت إلى قتل المعنى الجماعي، واغتيال فكرة التضامن، بل وقتل فكرة العدالة نفسها. كما وقع التركيز على نقد فكرة الحرية الفردية، والتي انتهت بدورها إلى قتل الأسرة والعائلة وإنتاج أنماط علاقات جديدة، تنذر بنهاية المجتمع برمته. 

على المستوى الثقافي، تم تركيز النقد على فكرة التمركز حول الذات، واستعمال مفاهيم الانفتاح والتسامح، كأوراق لفرض نموذج واحد للثقافة، ومصادرة التعدد الثقافي. كما تم نقد أوجه الهيمنة الثقافية، وذلك في أشكالها اللغوية والثقافية والفنية، أذ أضحى نقد هذه النماذج الثقافية أشبه ما يكون بمواجهة الكوني، أو مواجهة العلم، أو مواجهة العقل، في حين هي في الواقع لا تشكل إلا منتج بشري نسبي قابل للنقد والمراجعة.

أما على المستوى السياسي، فقد تم توجيه النقد إلى فكرة اللاعدالة في العقل السياسي الغربي. تتأسس فكرة اللاعدالة أو فكرة التحيز في العقل السياسي الغربي على مركزية الغرب، أو الإقرار بأنه المهيمن، الذي ينبغي أن تكون له السيادة في الشرعية والسيادة في الحكم. ثم تتفرع هذه الفكرة في تمثلات هذا العقل، فيصير الخيار الوحيد المطروح أمام الآخرين، هو التحالف مع الغرب أو الدخول في منظومته، والقبول بقواعدها وأحكامها، حتى ولو كانت تمس مصالحهم الاستراتيجية، وأي أي خيار آخر، مختلف أو محايد، ينظر إليه غربيا على أساس أنه، مصدر تهديد محتمل، ينبغي بذل الاستراتيجيات والسياسات اللازمة من أجل احتوائه أو استهدافه.

في المحصلة، يتأسس نقد النموذج الغربي إذن على ثلاثة مفردات أساسية: فكرة العائلة والتضامن على المستوى القيمي، والقبول يتعدد المراكز الثقافية والحضارية على المستوى الثقافي، وفكرة العدالة ونقد الهيمنة والتحيز على المستوى السياسي.

هل تشكل المراكز العالم الشرقي نموذجا محتملا؟

قدمت التجربة الماركسية درسا مهما في التمييز بين نقد النماذج، وبين عرض النماذج الملهمة. وتقدم التجربة الواقعية لممارسة الماركسية، درسا آخر في التمييز بين النماذج المشرقة الموعودة، وبين النماذج كما تجري على أرض الواقع.

نظريا، يصعب أن نجد نقدا أكثر قوة وقسوة للنظام الرأسمالي من النقد الذي مارسه كارل ماركس في "الرسمال" أو في "نقد الاقتصاد السياسي"، وقد تأسس هذا النقد على معطيات علمية ودراسات اقتصادية وتاريخية دقيقة. وبفضل هذا النقد العلمي، نجح النموذج الماركسي في بلورة أطروحته والتبشير بها، بل يمكن القول بأن النقد العلمي الذي مارسه ماركس وإنجلز للنظام الرأسمالي أعفى النموذج الاشتراكي من كثير من الأسئلة التي تناقش واقعيته، وإمكان أن يحقق موعوده التاريخي.

لكن التجربة أكدت بعد ذلك، أن المشروع المتبلور، الذي نجح في نقد النظام الرأسمالي، أنتج نموذجا أقل جاذبية للمجتمع، الذي كان يجد مساحة أكبر للتعبير السياسي في ظل الأنظمة الرأسمالية، فأصبح الحد الأدنى من هذا التعبير، يشكل تهمة تنسبه بسهولة إلى "أعداء الثورة"، فيجد نفسه خصيما للدولة. 

النموذجان الروسي الصيني، يمتلكان اليوم مفردات نقدية قاسية للنموذج الغربي، يصعب على الغرب أن يتلافا أثرهما.

روسيا "بوتين"، تصالحت مع الدين، ومنحت للكنيسة الأرثودوكسية دورا مركزيا، فصارت بفضل القيم المسيحية، تناصر فكرة الأسرة والعائلة، وتناهض المثلية الجنسية، ومختلف الأنماط غير الطبيعية التي أنتجها النموذج الغربي للعلاقة بين الرجل والمرأة.

والصين، منذ الثورة الماوية، أضحت تمثل نموذجا للجماعية، وقيم التضامن، وقدمت معادلة مختلفة، لعلاقة ثقافة العمل والمبادرة بفكرة الجماعية، بعد أن أصر النموذج الغربي على الربط بين الفردية والمبادرة، من خلال إعمال ونظام الحوافز والزجر.

النموذجان معا، من خلال خبرتهما في المنتظم الدولي، ووقوفهما على تجربة الغرب في التعامل مع قضايا العالم، وتتبعهما لسياساته في أكثر من محور، باتا يتوفران على قاعدة ثقيلة لممارسة نقد علمي لتحيز الغرب، بل صارا يملكان ما يكفي من الدلائل لإثبات إفلاس النموذج الغربي وعدم صلاحيته، وحاجة العالم لنموذج جديد منصف.

لكن في المقابل، لحد الآن، لا يوفر هذان النموذجان (الروسي والصيني) نموذجين قابلان للجاذبية، فالداخل الروسي والصيني، لم يتخلصا بعد من فكرة إغراء النموذج الغربي، لأنهما لا يريان في النماذج الداخلية قدرة على تلبية حاجيات المجتمع.

ربما حصل قدر من الانفتاح في عالم الاقتصاد والأعمال، خفف من غلواء القسر في مجال الحريات، لكن في مجال السياسة، لا يزال النسق السياسي يحتاج لكثير من الانفتاح، حتى يشعر المجتمع أن مساحات المشاركة والمبادرة والمساهمة في تنمية المجتمع مفتوحة، وأنه باب يوفر إمكانية للتداول على الحكم، وأن البنيات الأمنية والعسكرية، ليست بيد أطراف معنية، تسيرها ضد المجتمع أو ضد بعض مكوناته لتبرير الاستفراد بالسلطة أو تأمين حكم الفرد أو حكم الحزب الواحد. 

وهكذا، فبقدر قوة النموذج النقدي الذي تبذله هذه النماذج المتشكلة، إلا أن واقعها الداخلي، يكشف عن المسافة البعيدة التي تفصل هذه النماذج عن قيادة العالم، أو تحقيق قدر من الجاذبية التي تدفع الآخرين للالتحاق بهذا النموذج.

النجاح الوحيد الذي من الممكن أن تحققه هذه النماذج، يمكن أن يتم في مستويين اثنين: الأول سياسي استراتيجي، بحيث يصير من الممكن تكوين تحالف قوي بين المجموعات المتشابهة، ممن يصنفها الغرب في خانة التهديد الجدي أو المحتمل، ويمكن أن تلحق بها حتى المجموعات التي لم تجد خيارا للتخفف من الضغط الغربي. والثاني، اقتصادي، بحيث يصير من الممكن، تصور قيام تكتلات اقتصادية، يفرضها واقع الندرة، أو واقع البحث عن خيارات لتدبير الأزمات الطاقية والغذائية.

لكن من الناحية القيمية والثقافية، وعلى الرغم من تمركز النموذج الروسي على قيم الأسرة والتضامن المجتمعي، إلا أنه يبقى غير قادر على التمدد، وذلك لسببين اثنين: أن ثمة مجتمعات شرقية أخرى تمتلك مفردات أقوى على مستوى تحقيق هذه القيم، والثاني، أن نموذج التدخل العسكري، في تدبير العلاقات الدولية، الذي تنتهجه روسيا (سوريا، ليبيا....)، يجعل قوة إغراء هذه المفردات جد محدودة، لأن من يؤسس لنماذج الحفاظ على المجتمع، لا يقبل منه أن يستبيح تبني خيارات عسكرية تفني مجتمعات أخرى، أو تعرض بعض مكوناته للإبادة.

روسيا، تعي بشكل جيد أن نموذجها يصعب أن يتمدد من غير تحالفات واسعة مع نماذج شرقية مختلفة، ولذلك، فهي لا تكتفي بفكرة العالم الأوراسي، لأنها تعرف محدوديته، بل تسعى إلى أن تنفتح على الصين والهند والعالم العربي وإفريقيا، حتى تفتح المجال لإمكان بناء نموذج متعدد، يكون هدفه الأول إعلان نهاية النموذج الغربي، ثم التفرغ بعد ذلك لبناء نموذج جديد.

هل يمكن للعالم العربي الإسلامي أن يقدم مساهمته في بلورة النموذج القيمي الدولي؟

تجربة تركيا في العقد الأخير من الزمن، تمثل درسا مهما ليس فقط في نقد النموذج الغربي، وإثبات إفلاسه القيمي والثقافي والسياسي، ولكن أيضا في بلورة مفاهيم جديدة، تقوم على الأسرة والتضامن والقبول بتعدد المراكز الحضارية والعدالة.

واقعها الداخلي، يسمح بتعميم النموذج، وإن كان يطرح أسئلة عن حدود تمايزه عن النموذج الغربي، لكنه في الواقع، يؤسس لفكرة تعدد الحداثات وتعدد الديمقراطيات، وأن أي تجربة ديمقراطية، لا يمكن أن تقوم على غير القاعدة الثقافية والقيمية للمجتمع.

النموذج الإيراني، هو أبعد النماذج الإسلامية لتجسيد فكرة البديل، وذلك لسببين اثنين: يتعلق الأول بانغلاق النسق الثقافي الداخلي، ويتعلق الثاني، بقواعد التمدد الإقليمي الإيراني، وقيامه على فكرة استعمال المجموعات الداخلية الحليفة لتهديد الأمن القومي وتبرير التدخل الخارجي.

العالم العربي، يمتلك أهم مقوم يمكن الاعتماد عليه، لبناء النموذج القيمي والثقافي. فالإسلام، الذي استوعب الشعوب المختلفة، واحتوى المذاهب الفكرية والعقدية والفقهية المختلفة، والذي امتد بشكل طوعي خارج حدوده، من غير حاجة للتدخل العسكري، يشكل اليوم الأداة القوية لبناء هذا النموذج، سواء على المستوى القيمي (قيم العائلة والأسرة والتضامن) أو على المستوى الثقافي (استيعاب التعدد الثقافي واللغوي) أو على المستوى السياسي (ارتكاز تصوره على قضيتي الشرعية والعدالة وعلى مفهوم الوفاء بالالتزامات والعقود المبرمة).

الداخل العربي، لا يوفر إمكانية للعب أي دور في هذا الاتجاه، فهو يعاني أسوأ تجارب الحكم الفردي، أو الحكم الاستبدادي، أو الحكم الديمقراطي الصوري، وتضيق فيه مساحات الحرية السياسية إلى ابعد الحدود، ولا يتوفر على أساس اقتصادي واجتماعي يضمن الاستقرار الداخلي. فكيف بمن لا يملك أساس انسجامه الداخلي أن يكون عامل جاذبية للآخرين؟

الواقع يؤكد بأن مهمة بلورة هذا النموذج ليست من مهام السلط والأنظمة الحاكمة، بل جزء مهم منها معلق بأدوار المثقفين والطلائع الحية في هذه المجتمعات، فقد أضحى من الضروري في هذه المرحلة، التركيز على بلورة المفاهيم التي تساهم في تشكل النموذج الفكري والقيمي البديل، وأن يتم التنبيه على مخاطر استنساخ النماذج الغربية، وأن تستحث النخب السياسية، لكي تدرك أهمية أن يتكيف الداخل مع المهام المنتظرة من العالم العربي، وأن يتجسد مفهوم جديد للعلاقة بين السلطة والمجتمع، قوامه الدفع باتجاه أن تعي السلطة دورها، وأن شرعيتها باتت اليوم ترتبط بأن تتحول من سلطة تعمل كل شيء لتحافظ على شرعيتها، إلى سلطة تجدد شرعيتها من خلال التركيز على مشروع قيادة المجتمع الدولة إلى الإقلاع الشامل، بحيث تحتل الحريات في هذا المشروع المساحة الضرورية، ويتم إجراء المصالحات التي تقنع نخب المجتمع بالانخراط في العمل والمساهمة في القرار، وتنمية المجتمع.

التعليقات (2)
نسيت إسمي
الخميس، 23-06-2022 05:31 م
'' الكتاب: أسرار الحياة '' رواية تصور الحياة وحقيقتها وفق الرؤية الإسلامية المؤلف: د. نور الدين أبو لحية وقد صغنا الأفكار المتعلقة بهذه المواضيع على شكل رواية حوارية تحاول أن تصل بتلك الحقائق إلى العقول بطريقة سلسة سهلة. وقد اختيرت فيها مشاهد متعددة تختلف بحسب الفصول، وغلب فيها ـ كالعادة في هذه السلسلة وغيرها ـ الجانب الرمزي، بحيث تدل كل قصة أو مشهد على معنى من المعاني الرمزية المرتبطة بالقضية المبحوث فيها ـ (البداية) في ذلك اليوم استيقظت على أصوات جميلة، لحنها عندليب خفيف الروح، حبسه ولدي في قفص في حديقة البيت.. حاولت أن أقرأ المعاني التي أراد أن يتحدث بها ذلك العندليب في غياهب الليل المظلم، فلم أستطع.. لكني شعرت أنه يريد أن يقول كلاما كثيرا.. ربما نحن أعجز من أن نفهم معانيه.. فلذلك رضينا بأن نتلذذ بنغماته عن أن نتدبر كلماته. شعرت بنشوة تسري في عروقي ممتلئة بالتفاؤل والجمال.. فذهبت إلى حديقة البيت.. وهناك أحسست بالحياة كلها.. بجميع معانيها.. وبجميع مسمياتها.. وبجميع أسمائها.. تتحدث بألسنة عذبة. نظرت إلى الأزهار ذات الألوان الجميلة، والأشكال البديعة، والعطور الفواحة، فشعرت، وكأنها تدعو عيني للتمتع بمرآها، وتدعو أنفي للتمتع بأريجها.. فاقتربت منها، وقلت: لقد فقهت عيني وأنفي وجميع حواسي ما أردت.. لكن عقلي لا يزال كليلا دون معرفة ما تريدين أن تقوليه بالضبط.. أنا أعلم أن هذه الثياب التي تلبسينها.. وهذه العطور التي تتعطرين بها مجرد شباك تريدين أن تصطاديني بها.. لكن ما الرسالة التي تحملينها.. وما المعاني التي تريدين من عقلي أن يستوعبها؟ لم تجبني الزهور إلا بعطورها.. فتركتها.. ونظرت إلى الندى، وهو يتربع كاللؤلؤ المكنون على عروش أوراق الأشجار.. فامتلأت نفسي بجماله.. وجمال العرش الذي يعتليه.. فسألته، لكنه لم يجبني بغير تلك المشاعر الرقيقة التي بثها في نفسي.. نظرت إلى السماء.. فرأيتها ممتلئة بالسرج المنيرة.. ونظرت إلى القمر.. وهو يتجول في أنحاء السماء.. وكأنه يدعو أبصارنا لتتبع آثار خطواته.. وهكذا بقيت أقلب طرفي في السماء والأرض لأنظر إلى تلك الثياب الجميلة الرائعة التي كسيت بها الكائنات.. لكني لم ألبث طويلا حتى زارتني بعوضة ثقيلة الظل.. راحت تنثر سمومها في جسدي.. فانصرفت عن كل ما كنت فيه.. ورحت أبحث عنها لأسألها عن سر شغبها.. وسر عشقها للإيذاء.. لكنها فرت عني.. ولم تقل لي شيئا.. أو لعلها قالت ما أرادت من خلال تلك الرسالة المؤلمة التي أرسلتها لي.. لكني لم أفطن لما أرادت أن تقوله بالضبط. عدت إلى غرفتي.. وأطفأت جميع الأضواء.. وأغلقت عيني.. وصممت أذني.. ورحت أستجمع جميع قواي لأفهم تلك الرسائل المتناقضة التي ترسلها لي الكائنات كل حين.. لكن جارا ثقيلا راح يرفع صوت مذياعه، ونحن في منتصف الليل بأغنية تردد أبياتا من رباعيات الخيام يقول فيها: لبست ثوب العمر لم أستشر... وحرت فيه بين شتى الفكر وسوف أنضو الثوب عني ولم أدرك... لماذا جئت.. أين المفر!؟ في بداية سماعي استجمعت جميع قواي المادية والمعنوية لأصبها على ذلك الجار الثقيل.. لكني.. وبعدما سمعت تلك الكلمات الجميلة.. المصبوبة في ألحان في منتهى العذوبة.. رحت أتأمل معانيها.. وأستغرق في التأمل. لقد قلت لنفسي، أو قالت لي نفسي: نعم.. أنت لم تفهم لغة الطير.. ولا لغة الزهر.. ولا لغة الندى.. ولا جميع لغات الكائنات.. لكنك يمكنك أن تفهم هذه الكلمات.. لعل العندليب عندما كان يشدو لم يكن ينطق إلا بهذه الكلمات التي قالها الخيام.. ولعل الأزهار.. وهي تتفتح لتعود بعدها إلى ذبولها الطويل لم تكن تردد إلا هذه الكلمات.. وهكذا القمر.. فهو يسير.. ولكنه يعلم أنه سيأتي اليوم الذي يتوقف فيه سيره.. ولذلك تراه يترنح في سيره جذلان طربا يغتنم كل لحظة.. 2 ـ (قال: فهل تعلم أسباب الحرب العالمية الأولى؟) قلت: أجل.. هم يذكرون أن السبب المباشر لنشوب الحرب العالمية الأولى حادثة اغتيال ولي عهد النمسا [فرانز فرديناند] مع زوجته من قبل طالب صربي يدعى [غافريلو برينسيب] أثناء زيارتهما لسراييفو.. وبعدها بفترة قصيرة أعلنت النمسا الحرب على صربيا.. ثم سرعان ما بدأت التحالفات الأوروبية تتفاعل، حيث ناصرت روسيا صربيا، وأعلنت الحرب على النمسا؛ فقامت ألمانيا بإعلان الحرب على روسيا.. ثم توسعت دائرة التحالفات مع اتساع دائرة الحرب ودخول العديد من الدول فيها إلى جانب أحد الفريقين. ويذكر المؤرخون أن الحرب دامت أكثر من أربع سنوات، تحولت خلالها من حرب أوروبية إلى حرب عالمية، بل كان من آثارها الحرب العالمية الثانية، ذلك أنه بعد هزيمة ألمانيا في الحرب العالمية الأولى، وقعت في انهيار اقتصادي، جعل الألمان يأتون بأدولف هتلر وحزبه القومي إلى الحكم، والذي استطاع بخطاباته النارية أن يحرق العالم بالحرب العالمية الثانية.. قال: والتي ولدت فيها وبسببها القنبلة الذرية، ثم تلتها الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي.. قلت: أجل.. فما الغرض من كل هذا؟ قال: هل تعرف أسباب الاستعمار الأوروبي للمستضعفين؟ قلت: هم يذكرون لذلك أسبابا كثيرة.. ولكن أهمها ما انتشر في ذلك الحين من أفكار ترتبط بما يطلق عليه [العنصرية العلمية]، أو [الدارونية الاجتماعية]، فقد كان [ربرت سبنسر] مثلا يذكر أن نظرية التطور ليست قاصرة على الصراع بين أنواع الحيوان والنبات للاستمرار في الوجود.. بل إنها تشمل أيضا الإنسان والمجتمعات، ولذلك أطلق على فلسفته لقب [الداروينية الاجتماعية]، وهي فلسفة تدعو إلى ممارسة كل الوسائل التي تزيل المستضعفين من الوجود حتى لا يبقى في العالم إلا الأقوياء.. فالبقاء لهم وحدهم.. ولذلك لهم أن ينتهبوا ثروات الفقراء المستضعفين.. ولهم أن يبيدوهم.. حتى لا يبقى في الأرض إلا الأصلح والأقوى.. وهو بالتأكيد ليس سوى (الإنسان الأبيض)، والأوروبي على وجه التحديد. قال: هل تعرف أسباب.. قاطعته قائلا: أظن أنك تريد أن تختبرني في التاريخ.. وأبشرك بأني أضعف الناس فيه.. ولولا أن ما طرحته علي من أسئلة مما يعرفه عوام الناس، ما استطعت أن أجيبك. قال: لا.. أنا لا أريد أن أختبرك.. بل أردت أن تكتشف بنفسك أسرار العداوة.. فلا يمكن لأحد أن يفهم سر الحياة ما لم يفهم سر العداوة. قلت: وعيت ما ذكرت.. ولكن ما الذي تقصده من تلك الأسئلة جميعا؟ قال: لقد ذكرت لي الكثير من العداوات التي حصلت بين البشر، والكثير من الدماء التي سالت بسببها.. وذكرت لي أن ذلك كله كان نتيجة خطب نارية حولت البشر إلى أعواد ثقاب يحرق بعضهم بعضا. قلت: أجل.. كلامك صحيح. قال: أتدري مصدر تلك الخطب والفلسفات التي أنشأتها؟ قلت: أنا أسألك عن ذلك. قال: إنها الأهواء.. فهي العدو الأكبر للإنسان.. ذلك أنها من يُلبس الباطل لباس الحق، ومن يحول من الأكاذيب والأراجيف قوانين للحياة.. والله لم يرتض للحياة من القوانين سوى الحق. قلت: صدقت.. فكل أولئك الذين أوقدوا تلك الحروب الظالمة كانوا يبررونها بما يحول منها حروبا مقدسة مشروعة.. قال: أتدري ما سبب ذلك؟ قلت: ما سببه؟ قال: عندما يقتنع الإنسان بعقله ونفسه وكونه مصدر الحقائق.. هنا تنبعث الأهواء، لتشكل قوانينها الخاصة في نفسه، والمجتمع الذي يستطيع أن يؤثر فيه. قلت: إن لم يستمع الإنسان لنفسه، فلمن يستمع؟ قال: لصوت الحق.. لقد أكرم الله البشر بأصوات كثيرة داعية إلى الحق، لكن البشر أعرضوا عنها، وعن سماعها، وعن سماع الحكماء الذين يدعون إليها، وراحوا يقفون خلف الشياطين الذين زينوا لهم تلك الأهواء. 3 ـ (ثلاثة أنواع النفوس التي ذكر القرآن الكريم) فمنها النفس الأمارة التي ذكرها الله تعالى في قوله: "وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ" (يوسف:53).. ومنها النفس اللوامة التي ذكرها الله في قوله: "وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ" (القيامة:2).. ومنها النفس المطمئنة التي ذكرها الله في قوله: "يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ" (الفجر:27) قال: هذه مجامع النفوس.. أما عددها؛ فلا يمكن لأحد من الخلق عدها، ذلك أنه تحدث مع كل نفس من الأنفاس نفس جديدة، إما ترتقي بصاحبها إلى المعالي، وإما تنزل به إلى السفل.
احمد
الخميس، 23-06-2022 04:49 م
شكرا لكم من اجمل التحليلات التي قرأت

خبر عاجل