قضايا وآراء

"الغرفة الحمراء".. دراما تركية تقاتل الانقلابات وسنينها!

محمد ثابت
1300x600
1300x600
لم يبق في ذاكرة المصريين من نحو 30 مسلسلاً متنوعاً تم إنتاجها خصيصاً لرمضان 2022م؛ أثر إيجابي مكتمل لمسلسل واحد، رغم إنفاق أكثر من مليار جنيه عليها (أكثر من 54 مليون دولار)، ووجود "الاختيار 3" كعمل درامي عابر للسنوات بإشراف من الدولة. ولم يكن من المتوقع أن تترك دراما رمضان لأي عام -وليس الماضي فحسب- علامة أو أثراً واضحاً في نفوس المصريين؛ لأن بسيطهم قبل مثقفهم يعرف أنها أعمال ذات بعد مخابراتي في أكثرها؛ على النقيض تماماً من المسلسل التركي "الغرفة الحمراء" للمخرج "غيم كارغي" الذي أذيعتْ حلقته الأخيرة منذ أشهر قليلة بعيداً عن الدراما الرمضانية. ورغم تواضع الإنفاق عليه مقارنة بالمسلسلات العربية فقد حفر لنفسه مكانة مميزة، حتى قالت عنه مؤلفته المعالجة النفسية "غولسيران بودايغي أوغلو" في دخول خاص بها في حلقته الأخيرة: "إن المسلسل حاول تصوير الدولة التركية بأفراحها وأحزانها وسيبقى في ذاكرة مواطنيها".

امتاز "الغرفة الحمراء" بانفتاحه على الآلام الحقيقية للأتراك، فعلى مدار موسمين متتاليين وعبر 61 حلقة تعمق مشاهدوه في منظومة بشرية متكاملة غير مألوفة في الدراما التلفزيونية خاصة العربية، وحتى في المعهود الغالب على التركية. أرانا المسلسل أعماق أشخاصٍ محوريين يعانون المرض النفسي، وإن كانوا قليلين نسبياً مقارنة بما يقف خلفهم من آخرين بلا عدد يعانون معهم (بالتبعية) من أفراد عائلاتهم حتى جدودهم المباشرين أحياناً؛ فضلاً عن بعض الجيران وزملاء الدراسة، مع تجسيد للطرقات والشوارع التركية في إسطنبول والقرى النائية منذ عشرات السنوات.

فمئات الشخصيات إذن يساندون عدداً من مواطنيهم الذين أصابت أرواحهم أمراض نفسية نتيجة عوامل أهمها انعكاس للسياسي في صباهم وبواكير شبابهم، فيما ضج الأخيرون وازدادت آلامهم مع مرور السنوات الطويلة، فلجأوا أخيراً إلى المُعالجة النفسية وغرفتها الحمراء الضيقة، وجميل استخدام المخرج للكاميرات المخصصة لإبراز اتساع الأماكن الضيقة، مع صورة "الموناليزا" في الخلفية بمكان بارز قرب باب الغرفة في الجزء الثاني لإبراز وجود التفاؤل ودوره بالحياة، مع اتساع الشرفة لما يضيق صدر المرضى من الآلام فيطلبون بعض نسمات الهواء.

حيل درامية بالغة الاختفاء وسط ملايين التفصيلات الحياتية لتركيا وقراها ومدنها؛ خاصة العاصمة التاريخية منذ عقود، أثناء وبعد الانقلابات التي استمرت لفترات ليست بالقليلة؛ مقارنة بنفس القرى والمدن اليوم مع نظافتها وتنظيمها والارتفاع النسبي لمستوى دخل أفرادها، وهو ما تعمد المسلسل لمسه بهدوء شديد في إحدى الحلقات؛ لما جسّد معاناة "سعدي" التي تفاقمت بدخوله عالم الشباب، وبيان أن ذلك وافق عام 1994م (قبل انقلاب عرفته البلاد بنحو ثلاث سنوات)، ليتبارى المسلسل ويتفنن بل يقاتل في إبراز مقدار ما نجح حزب "العدالة والتنمية" منذ عام 2001م في إلحاقه بالعباد وكامل الدولة من نهضة.. وهي الدلالة التي نراها تكررت عن عمد مع عبر تصوير "جسر البسفور" المعروف (الرابط بين جانبي إسطنبول) مع انسيابية مرور السيارات عليه لمرة بكل حلقة، من دون أن نعرف بدقة هل عيادة المعالجة النفسية الواقعة في حي بسيط: أهي في الجانب الأوروبي أم الآسيوي من إسطنبول؟ في إشارة واضحة لإمكانية تكرار القصص المؤلمة في جانبي المدينة وضرورة معالجة آثارها اليوم.

أدت دور البطولة المعالجة النفسية "مانوليا"، بحصيلتها المهنية وخبراتها الاجتماعية (جسدت دورها "بينور كايا" 50 عاماً)، مع حرص كل ممثل أدى دور "مريض" على محاولة الإمساك بأفضل جانب من تكوينه الفني، حتى مع تعدد الممثليين لكل حالة مرضية بتعدد مراحل الحياة؛ من طفولة لشباب لاكتمال نضج، مع حسن استعراض الكاميرا لأفعاله وترجمة ما يرويه المريض عن نفسه في مشاهد مفصلة توسع من مساحة غرفة المعالجة، لتجعلها تعبيراً عن تركيا وأحياناً ألمانيا وإيران ومدن عالمية أخرى انتقل إليها أبطال الدراما الأتراك، بحسب آلام المرضى وذكرياتهم، وعبر اكتشاف لرحابة وسعة أفق المُعالجة، وبالتالي تفهم المريض لمنطقها في أن الاعتراف بجميع تفاصيل الحياة المريرة والمظالم التي أوقعها بنفسه أو وجد نفسه مظلوماً محاصراً بها هو الحل الوحيد لمعاناته.

وهكذا من خلال جزء من حكاية ثلاثة معذبين نفسياً برزت قصص طويلة شغلت مساحة كبيرة من الحلقات من بينها السيدة كومرو وسعدي، وهما كرديان عانيا من نشأتيهما في قريتين نائيتين مختلفتين سابقاً، أيضاً تتناول الحلقات: علياء، نور وأمها، وشهرزاد، ووحيد وظفر (والأخيران من وارثي السلاطين العثمانيين)، بالإضافة إلى داريا ودارا ووالدتيهما.

فن مفعم بالحياة والدعوة للتفاؤل بالغد، وترك زمان عفا وباد وذهب بانقلاباته العسكرية المريرة التي عانت منها تركيا في 1961، و1980، و1971، و1997م، دون أن تفصح الأحداث أو تبوح مباشرة بكره الأتراك لحكم الجنرالات وانفرادهم بالسلطة؛ وإنما تخبرنا بلطف يقارب هدهدة الروح قبل العينين؛ بأن تلك الانقلابات لم تثمر إلا معذبين ومزيداً من البغاء والعاهرات، وأطفال شوارع، وعصابات خطف البشر واستغلالهم وترويعهم وابتزاز المارة والبسطاء بهم، مع تفاقم العنف المنزلي كنتيجة مباشرة لتردي وانهيار أحوال البلاد الاقتصادية، وعدم وجود لقمة عيش كافية لإطعام الأسر.

أيضاً لا تغفل الحلقات تناول الاعتداء على القاصرات نتيجة ضعف مكانة الزوجة وثقافتها وتعليمها، مع تعرض الأحداث لأطفال الملاجئ مجهولي النسب؛ وفي المقابل إمبراطوريات المقربين من العسكريين من أصحاب النفوذ والأموال المتوارثة كقصة "علياء" وأهلها الممتدين لعدة أجيال، وفشلهم بمقدار فشل بسطاء غيرهم أيضاً في إقامة مجتمع أسري دافئ نتيجة نقل العنف الذين يورثونه عبر زوجاتهم وأبنائهم للأجيال المقبلة، وبالتالي سوء تحكم آبائهم من أصدقاء الجنرالات وغاسلي أموالهم في حياة الجميع.

تشير دراما "الغرفة الحمراء" عبر آلاف الدقائق والمعاني واللقطات المقربة والحوارات الراقية، سواء بين المعالجة النفسية (التي جاء اسمها على اسم أحد أنواع الورود التركية) وبين مرضاها، كلٌّ بحسب مستواه الاجتماعي والثقافي، أو بينها وبين فريقها المساعد من المعالجين والمعالجات (دينيز، عائشة، بيرايا) الذين انسحبوا من الحلقات بعد حل مشكلاتهم هم الآخرون.. إلى أن الجميع غير مبرئين أو أسوياء نفسياً خاصة في مدينة كبرى كالعاصمة التقليدية العريقة للبلاد، وحتى الخدم والسكرتارية العاملين بالعيادة (حسين وتونا) لم تغفل الدراما أنهم بشر لهم مشكلات شبابية أقل من غيرهم، لكن مطلوب التصدي لها هي الأخرى.

إن صراخ المرضى في "الغرفة الحمراء" واحتجاجهم بل دموعهم وتجاوب المُعالجة معهم؛ يجيء في المسلسل كزاجر وطارد للذين يريدون عودة "زمان الجنرالات والانقلابات"؛ فهؤلاء البسطاء والمثقفون والموثرون عانوا -على اختلاف مشاربهم ومذاهبهم ومحبتهم لأنفسهم- من العنف المجتمعي المباشر أو غيره، واضطروا أحياناً لمغادرة بلدهم تركيا كله سعياً وراء النجاة بأرواحهم؛ فيما لا يتركونه اليوم إلا مختارين.

وهم لا يحلمون الآن إلا باستمرارهم في وطن يدفعون الضرائب فيه طواعية، ويجدون الحرية فيه مع حبيبة وبيت ومصباح إنارة لعقولهم ولقمة عيش مفعمة بالحنان قبل "الشاورما" (الطعام الشعبي التركي المعتاد) أو ما علاها. وهي رسالة راقية تقهر دراما أخرى في دول عربية منها مصر؛ تعاني من العنف والاستبداد، ويحاول الجنرالات فيها إغراق شعوبهم في تكريس لخطاب الفوضى وازدياد العنف ومختلف أنواع الجرائم إن انسحبوا بطغيانهم من حياة شعوبهم، فيما هم في الحقيقة السبب الحقيقي المباشر لكل هذه المصائب والبلايا في بلدانهم وفنهم المدعى.

يبقى أن المسلسل عابه التطويل خاصة في حلقاته الأخيرة، بالإضافة لبعض الافتعال فيها.
التعليقات (0)