مُقَارَبَاتٌ لِفَرَحٍ مَديد.. في عيدٍ سَعيد

مبارك عيد الأمة كلها، وكل عام وأنتم بخير.‏
 
‏مبارك عيد الأضحى، عيد الإرادة الخيرة، وتطهير الأنفس من الأدران والنزوات والشهوات والعداوات. إنه عيد الأضحى الذي يرفع فيه الإنسان صوته ملبيا سائلا الله تعالى العفوَ والمغفرة والرحمة وقَبول التوبة: "ربي اغفر وارحم وأنت خير الراحمين". مبارك عيدنا ويحق لنا العيد، حتى لو كان عيدا متجدد الانتقاص وتداخله غصات معششة في الحلوق، فإنه عيدنا ومن حقنا العيد، فمن لا يفتح بابه للشمس لا يستشعر نورَا يتسرب إلى أحافير كيانه المادية والروحية، ولا يحسُّ بنمو الأمل في داخله. 

نعم، يحق لنا العيد رغم الغصص.. ومن أكبرها أننا لا ندخل العيد متعافين موحدين أو متقاربين في الرؤى والمشاعر والمواقف كأمَّة واحدة؛ ذلك لأنه بينما يُقبل أناس منا على الفرحة مستبشرين، تخيم على أناس منا ظلالُ الحزن والبؤس جراء ما يقاسونه من جنون الصهاينة وعنصريتهم وإرهابهم، أولئك الذين يفيضون وحشية وهمجية وتخلفا، ويفيضون تخلفا وكراهية ودموية، ولأن البعض منا يعيش حنينا لرؤية أحبة له تم تغييبهم في غياهب السجون والمعتقلات لعقود من الزَّمن، أو شردوا في أصقاع الأرض. 

وبينما ترتفع أصوات البعض منا بالتلبية والتهليل والتكبير في جبل الرحمة، عرفات.. ترتفع أخرى بين ظهرانينا بالاستغاثة ولا يرون رحمة، يقولون: "أين أنتم، نحن نُقتل ونعيش الترويع والتشريد، وذرارينا لا يجدون طعاما حتى مِن غِسْلين، ونموت ويموتون جوعا، فليس هنا أمن من جوع وخوف.. أين أنتم.. ؟! قد طفح الكيل، وطمّ السيل، وزاد الهم عن قدرة أيوب العصر على الاحتمال.. في كل لحظة اقتحام واجتياح وتدمير وقهر من كل لون، واحتراب وخراب وإنذارات بالثبور وعظائم الأمور.. أين أنتم.. ألسنا من أمة واحدة.. ألسنا بشرا..".؟! يقولون.. وترتفع أصواتهم ويتردد الصدى، ويتبدد بين المحافل والفَلَوات.. ويبقى القهر والجوع والقتل وتغص الساحات بالشكاوى والأزمات.

 

هل نحن في الأعياد، في الأفراح والأحزان، في السراء والضرَّراء، أمة واحدة، وقلوب متعاضدة، وأجسام يسهر فيها العضو السليم لسقم العضو المريض، ويتعاطف معه ويستجيب لشكواه!؟ أم إننا قلوب شتى وأهواء شتى وانتماء شتيت، يأكل الوحش رأس أخينا ونحن ننظر وننتظر ولا نحرك ساكنا، كأن المأكول ليس منَّا وما يجري لـه اليوم لا ينتظرنا غدا، ومصائرنا لا تعنينا؟!

   

العيد بعض وجوه الزمن المشرقة عند أناس، وبعض وجوهه الكالحة عند أناس آخرين محرومين من أبسط حقوق الإنسان.. ويفتَرَض في العيد أن يكون فرحا يتهاداه الناس، وتنشرح له الصدور، وتطمئن فيه القلوب، وتستطيب به الأنفس، وتستريح فيه الأرواح من الرَّهَق وشدة التبريح، وتَخْلُص لحمد بارئها وشكره على نِعَمه.. لكن لا يبدو أنه يتاح لكثيرين منا الفرح.. إذ كيف يكون ذلك ونحن في أزمة وكَرْب بين حرب وحرب..؟! نخرج من حرب يشنها علينا أعداء لنا فندخل في حربهم بنا، وتستمر الصراعات الدامية بيننا: "أهلية وطائفية ومذهبية وعرقية. و.. و…"، ونحاصَر في محميات يتصيّدنا فيها طغيان وطغاة، ومفسدون وبغاة، ويستبد بنا ساسة وأزلامُ وأتباعهم لهم وطبالون في ركابهم.. وتنمو بين ظهرانينا الكراهية، وينتشر الفساد والإفساد، وتسوء أحوال العباد، ويفرَضُ علينا أن نمجد الاستعمار والاستبداد، وندمن القهر والفقر، ويفترسنا الهم والسُّقم، وتسحقنا الحاجة، وتحاصرنا المآسي بالكوارث والإحباط.!
  
نَدْلُفُ من وقفة عرفات إلى بوابة العيد.. دربنا زَلِق، وخطونا توجّس، وأصواتنا تهدُّج، وأرواحنا توهّج، وملء أنفاسنا وعيد.. من حولنا المنذرات تترى واحدة بعد أخرى، "اقتصادية وسياسية واجتماعية، داخلية وخارجية، فردية وجماعية، وتحالفية مع الشيطان بقيادة الأمريكان.. إلخ"، وكل ما تجره هذه وتلك والأخريات من المُنذرات يصب في حوضنا ويكوّن ماءنا ومزاجنا، ويلوِّن مستقبلنا، ويصنع لحظتنا الراهنة، ويلوِّح لنا ببعض ملامح مستقبلنا. 

فنحن في كثير من بقاع وطننا الكبير، ومفاصل قضايانا المصيرية، وتوجهات ساستنا ومجريات سياساتنا.. ندخل من نَفَق مظلم إلى آخر أشد إظلاما، ويسلمنا محتل إلى محتل وظالم إلى قاتل، ونظل تحت رحمة الأعداء ومَن هم الألدُّ في الخصام، سواء أوَفَدوا علينا من خارج الجغرافية والتاريخ مثل السيد بايدن وصهاينته المجرمين، أو نبتوا بين لحمنا وعظمنا ممَّن يوالي عدونا الصهيوني المحتل لأرضنا، ويتحالفون مع قاتلنا ومع مَن يعادي أمتنا العربية والدين/ الإسلام. 

وكل أولئك من متبوع وتابع وسائر في هذا الرَّكب، يهدر كرامتنا ودمنا، ويضع الضمير والعقل والحق والعدل وراء ظهره، ويسوطنا بسياطه، ويتهمنا بما هو فيه من إرهاب، ويهبُّ على بيئتنا المادية والروحية، الثقافية والاجتماعية، أعاصير مدمرة ورياح سموم.. يستبد ما شاء له أن يستبد، ويفسد في أرضنا ما استطاع أن يفسِد، وينقلنا على هَواه: من نار إلى حصار، ومِن شِجار إلى بَوار، ومن هُزالٍ إلى انحلال، ومِن فساد إلى إلحاد.. ويدمغنا بما يشاء من سلبي الصفات، يُلصقها بتكويننا، ويراها هويتنا وجوهر وجودنا، ويسحبها على قوميتنا وديننا.. وأبسط تهمه لنا تبدأ بالتخريب والإرهاب، ولا تنتهي بفتح كل باب من أبواب العذاب.. يدفعنا بيادق في حروبه، وشَلايا يطوِّحها في دروبه، يحلبها ويشرب لبنها ويذبح منها في شروق شمسه وغروبها.. ينهب أموالنا، ويلغ في دمائنا، ويصنع قَدَرَنا، ويرسم لنا صورتنا، ويضع في عيوننا اللون الذي يشاء، ويحدد لنا زاوية النظر وآلية الإبصار، وقراءة ما يرينا وفهم ما نقرأ.. ويَمنُّ علينا أن عبِثَ بنا، ويطالبنا بتكاليف تعبه معنا وحرصه البالغ على إبادتنا.. ويصل إلى ما يريد، فلَه الغُنم وعلينا الغُرم"! 

ونحن كما يُقدِّر لنا الذين يفرضُهم علينا الأعداء والاستعداء والادعاء والولاء لغير الإنسان والأرض والتاريخ والعقيدة، قادة وساسة وسادة، نبقى في أسرهم وتحت أمرهم:" انظر ولا ترَ، رَهْ ولا تنظر، افهم ما نشاء، نفذ ما نقول، ارفعنا أربابا، لا ترفع صوتا، حوقل حتى تفنى.. في كل الأحوال أنت العمى ونحن الرؤية، نرسم لك دربَك وتلاوين رؤاك، ونحدد لك ماهيتك وهويتك وعقيدتك وصلاتك وكيف تعبد ربك".. ويصب علينا أولئك وهؤلاء الفارضون والمفروضون علينا، "هجانات ثقافية" بتوظيف مدروس، مِن خلال أشداق وأقلام مَن أَسقطوا انتماءهم لنا، واستفحلَت تبعيتهم لغيرنا، وتورمت أنانيتهم بفعل النفخ والتلقيح والتلميع والتصريح، وتغربنت ضمائرُهم ورؤاهم قبل أجسادهم وعقولهم، مستهدفين هُويتنا وانتماءنا وتاريخنا وتراثنا وعقيدتنا ودورنا الحضاري. 

يشيدون بالاستعمار والمستعمرين، وبالصهاينة العنصريين المحتلين القتلة، وبمن يرخص الوطن والإنسان في سبيل منصب ومكسب ومظهر.. ويطالبوننا بـ "أن نكف عن أن نكون عنصريين" كذا؟!"، وبنسيان فلسطين والقدس والأقصى والأرض والشهداء والمقدسات، ونصبح "حضاريين" ندين المقاومة والمقاومين، ونُقبِل على أعدائنا أذلاء خانعين؛ لأنهم قوة ونحن ضعف، ولأنهم من نور ونار ونحن من ظلمة وطين، ولأنهم ملائكة العصر وأبرياؤه ونحن إرهابه ويبابه وخرابه، وأنه يجب أن نستسلم ونتجرع الذل ونبقى مقهورين إلى الأبد.. وأن نستلذ بوضع العبيد! 

قرأنا ذلك لهم وسمعناه منهم، ووعينا اتهامهم لنا بالإرهاب والتخلف وغير ذلك من الأوصاف، وشبعنا من رفسهم في بطوننا لنستيقظ من وهم العروبة والإسلام، ولنمجد معهم القتَلَة والمجرمين ونعلي شأن العملاء والمطبعين، ونَقْبَل الانحلال والمثليين والمثليات، ونرفع من كلامنا الزوجين عند الحديث عن "الجندر"، ونذكر الثلاث "الذكر والأنثى والمثلي؟!"، ونرضى بنبذ الأخلاق والقيم والعادات والتقاليد والأعراف وتاريخ الآباء والأجداد، ونضمحل حتى الهُزال والزَّوال!

هذا ما يريدونه منا ويرتضونه لنا.. وهكذا نغدوا بنظرهم " بشرا عاديين".. وإلَّا فإننا ستنقضي أعمارنا بلا أبعاد ولا إسعاد ولا أعياد.. نبقى كما يُراد لنا أن نبقى: "محاصرين بما صُنع لنا وما صُنع بنا.. نحبوا على رُكبنا وأكواعنا ورموش عيوننا، ونلهث وراء شبح رغيف الخبز.. ويبقى مَن يرفعون راية آلامنا ويعلنون ثورات باسمنا هجناء يبيعوننا ويشترون بنا في سوق السياسة، ويعرفونها بأنها الشطارة والمداورة والمناورة والمحاصصة والقدرة على تمويه النَّجاسة.. وسيختارون أو يُرفَع من بينهم دُهاة الضالين المضلِّلين الذين يركبون المَوجَة ويثيرون الهوجَة.. ليبقونا نحن مواكب" مضَلَّلين"، عالقين في مراكبهم المتهرِّئة، نهتف وننزف ونفقد الرجاء، ونتناثر أشلاء في الساحات أو مشردين في الأرجاء.

مساكين نحن ويراد لنا أن نبقى مساكين، يُسْلِمنا مُروِّجُ تغيير إلى صانع تدمير، ندخل من ثورة إلى ثورة ونخرج منها كأننا عَوْرَة، ونقع مرة بعد مرة في حفرة بعد حُفرة، نجني الخُسران وندمن الهَوان، ودوْرَة سياسية بعد دوْرَة نُشْطَب من دوائر الوجود وندخل دوائر النسيان! 

مسكين من يُثمِّرُ أرض المعتدين ويأكل ذاته، مَن يصنع مجدهم ويفني حياته، مسكين مَن يغرق في دمه ولا يلتئم له جُرح ويقذف جثة على سفْح أو تحت ردم سقف.. مسكين، يذرف دمعا، ويستنفد عمرا، ولا يبلغ أمرا، ويدمِنُ بؤسه ويأسه ولا يرى لذلك كفاية ولا نهاية.. مسكين.. ينام على ظلم، ويستيقظ على ضَيم، ويسعى في ثوب ذُل، ويفقد الفرق بينه وبين الأشياء.

 

نحن في كثير من بقاع وطننا الكبير، ومفاصل قضايانا المصيرية، وتوجهات ساستنا ومجريات سياساتنا.. ندخل من نَفَق مظلم إلى آخر أشد إظلاما، ويسلمنا محتل إلى محتل وظالم إلى قاتل، ونظل تحت رحمة الأعداء ومَن هم الألدُّ في الخصام، سواء أوَفَدوا علينا من خارج الجغرافية والتاريخ مثل السيد بايدن وصهاينته المجرمين،، أو نبتوا بين لحمنا وعظمنا ممَّن يوالي عدونا الصهيوني المحتل لأرضنا، ويتحالفون مع قاتلنا ومع مَن يعادي أمتنا العربية والدين/ الإسلام.

 

وبعد.. هل نحن في الأعياد، في الأفراح والأحزان، في السراء والضرَّراء، أمة واحدة، وقلوب متعاضدة، وأجسام يسهر فيها العضو السليم لسقم العضو المريض، ويتعاطف معه ويستجيب لشكواه!؟ أم إننا قلوب شتى وأهواء شتى وانتماء شتيت، يأكل الوحش رأس أخينا ونحن ننظر وننتظر ولا نحرك ساكنا، كأن المأكول ليس منَّا وما يجري له اليوم لا ينتظرنا غدا، ومصائرنا لا تعنينا؟! عالمنا ينغل بالمتناقضات والمرفوضات والأعاجيب المفزعات.. فيه مَن يزدهي بقامته ويزهو بكِسْوته ويشمخ بهامته وهو عود قصب فارغ، ومَن يباهي بماله وجاهه ووجاهته وهو الجهل الفارع، ومَن يفاخر بطغيانه ووحشيته وكِبْره وإجرامه وبعدد مَن أهلك ومقدار ما امتلك. 

وفي عالمنا مَن يكدُّ ويُسرَق تعبه فيكبس الملح في جرحه ويعضُّ عليه ويصبر ويصابر، ومَن لا يستطيع أن يدفن جثة ميته ويضمن وجود مَن يدفن جثته، ومَن سيج ويسيج وطنه ومقدساته وقدس أقداسه بدمه ويبقى مهجورا مثبورا مبهوتا محسورا، ومَن يُغْمَسُ في الهم ويسكنه البؤس ويشقيه الظلم، فيشكر الله وينتظر رحمته وعدله، ويحلم بالإنصاف وبجنة عرضها السماوات والأرض.. ولأنه يفعل ذلك ويعيش عليه، يُسْأَلُ ويُضام ويُكْحَل، ويواجَه بأنواع الاتهام ويُبعَد عن الأنام ويُضطهد.! فهل يجوز أن يوجد هذا كله وسواه مما يسوء المرءَ ويُتَجَنَّبُ ذِكْرُه، ونحن أمة واحدة، تؤمن بالواحد الأحد، وبُعِث فيها رسول رحمة للعالمين، وليتمم مكارمَ الأخلاق؟!

إنه عيد الأضحى، نعم عيد الأضحي وقد وتراءت لي فيه أفواج حجيج عظيم استمعت لخطبة الوداع في جبل عرفة من رسول الرحمة.. فرأيته يوم ذكر وتذكير وتبليغ، ويوم الأمة في احتكام للحكمة وروح الدعوة وقيم الدين.. يوم علِقَ فيه شجن في حلوق بعض المستمعين خالط عيدهم القادم ولم يمنع فرحة العيد.. فكان مني ما كان.. فإذا كنت أفسدت شيئا على أحد فعن غير قصد، وإذا كنت قد أقحمت غيري فيما لا يقبلُه وألقيت عبئا على من لا يريد حملَه.. فإنني أستميح عذرا مِمَّن داخَلهم بعض ما لا يُحبُّ ولا يُستحب من هذا الحديث في يوم عيد.. وأستعيد حَمْلَ ما ألقيت من عبء. وقد كانت تلك مني مُقاربة لفرح قادم في عيد سعيد، تكون فيه الأمة كلها بعافية وخير أعم، وانفراج كروب، ووحدة دروب، والتآم جروح، وتآلف قلوب. وإنما الأعمال بالنِّيَّات. 

وكل عام وأنتم بخير.