أفكَار

مخاطر التركيز على القشور وإهمال مقاصد الدين.. نقاش هادئ

كيف يجب أن يتعامل الخطاب الإسلامي مع المختلفين معه في الرأي؟
كيف يجب أن يتعامل الخطاب الإسلامي مع المختلفين معه في الرأي؟

أشفقت عند اغتيال شيرين أبو عاقلة على قلة من المسلمين الذين عماهم الله عن جوهر القضية، وهو اغتيال إسرائيل لأيقونة الإعلام الفلسطيني وتركيز اهتمامهم على السفاسف أي على جواز الترحم عليها من عدم جوازه أو جواز وصفها بالشهيدة!! 

وشخصيا لي مع هذه العقليات المحنطة تاريخ طويل منذ أن بدأت أعي المجتمع التونسي من حولي فكانت أول صدمة عشتها وأنا مراهق لم أتجاوز الـ 14 عاما حين صدرت أول طبعة من ديوان (أغاني الحياة) لأبي القاسم الشابي في بيروت عام 1959 واقتنيت من مكتبة عم عمر كشريد أول نسخة كنت أقرأها بنهم وحماس مع أستاذي محمد الحليوي رفيق الشابي لكني صدمت حين قرأت "انتقادا"! للشابي نشره "شيخ زيتزني" في جريدة يتهم فيه شاعرنا الفذ بـ "الإلحاد"! لأنه قال (لا بد أن يستجيب القدر..) وكنت مع أستاذي الجريء على يقين من سطحية هذا المنتقد ومروره على درر الإرادة والعبقرية مرور اللئام وتمسكه بما يعتقد هو أنه نصرة للدين حاشا الدين! 

ومنذ سنوات قليلة في حكم جعغر النميري سألني صديق من الخلص: "ما سر عنايتك بقصة مريم السودانية حينما كانت المسكينة تنتظر تنفيذ حكم الإعدام في سجنها بأم درمان بعد إقرار محكمة سودانية بقتلها إقامة لحد الردة؟ خاصة والشرق يحترق أمام عيوننا في كل قطر من أقطاره".. وأضاف صاحبي: "لا أفهم سر اهتمامك بمصير امرأة في عالم عربي إسلامي يعد مليارا و800 مليون من البشر ونحن لا ندري مصيره ولا نفقه أسباب بلواه؟".. 

فقلت له: إنني إنسان ولي قلب ينبض وضمير يحيا وعقل يفكر كسائر البشر وإنني سبق أن رأيت بالصدفة صورة لهذه المرأة في إحدى الصحف الفرنسية وهي تبتسم محتضنة طفلها (أو طفلتها) وزوجها بجانبها منشرح الأسارير مغتبط بأسرته الصغيرة.. وقرأت في هذه العيون الستة ألق الأمل والرجاء وحب الحياة مما لا يمكن أن يخطئه المشاهد للصورة.. فتأثرت بالمشهد العائلي الإنساني لهذه المرأة الشابة.. وبصراحة رأيت فيها ابنتي الإثنتين وفي طفلها رأيت أحفادي فشعرت بوخز الضمير يدعوني لقول ما أعتقد أنه الحق انطلاقا من مأساة امرأة مؤمنة كتابية وليست ملحدة (مهما كان دينها أهو الإسلام أم المسيحية).. 

مأساة تحولت لدي وفي تقديري إلى مأساة القضاء السوداني (ولي معه حكاية في الثمانينيات حين تم تنفيذ حكم الإعدام في المفكر السوداني محمود محمد طه بإذن من الطاغية العسكري جعفر النميري وكانت التهمة هي..(الهرطقة!) فشنقوا الرجل وعلقوه في حبل بتهمة لم نفهم في عصرنا الراهن معناها ولا أركانها ولا أسبابها! هكذا ورب الكعبة (الهرطقة!) فنددت في الإبان من موقعي كناطق باسم الحزب الدستوري الحاكم آنذاك بهذه الجريمة النكراء وكنت سببا مباشرا في تدهور العلاقات مؤقتا بين بلادي وبين الشقيقة السودان لأن الأعراف الدبلوماسية تقتضي التحفظ واحترام مبدأ عدم التدخل فيما يسمى الشؤون الداخلية للبلدان الأخرى.. ولكن ضمير المثقف أيا كان موقعه في السلطة لا يمكن أن يظل ساكتا عن الحق ويصبح شيطانا أخرس. 

 

كيف نطمح للحوار مع أهل الأديان السماوية الأخرى ونحن نضعهم مسبقا في قفص الكفار والمارقين بل نجعلهم غير آمنين على أرواحهم؟

 



وللتاريخ فإن رئيس الحكومة آنذاك محمد مزالي ووزير الخارجية آنذاك الباجي قايد السبسي رحمهما الله استحسنا موقفي ولم يلوماني على مبادرتي فقد كانت الدبلوماسية التونسية تحتفظ ببعض ماء الوجه الأخلاقي.. ثم إن السودان في تلك العشرية كان أنموذجا ساطعا للتخبط بين الملل والنحل وسوء استغلال الشريعة للقضاء على الخصوم وكان للسودان وضع خاص به بسبب طبيعة الانشطار السوداني إلى شمال مسلم في الغالب وجنوب مسيحي في الغالب ندرك جميعا إلى يوم الناس هذا مدى الصراع الدائر بين الشطرين.

ولعل قضية مريم الراهنة ما هي إلا استمرار ساذج وسخيف لنفس تلك الممارسات فالقضاء السوداني ظل حبيس القوالب الجامدة والتفاسير المحنطة لما يعتقد بعض قضاته أنه من الشريعة والشريعة منه براء إلى يوم يبعثون. 

والرأي عندي أن حد الردة كان ظرفيا حسب خطر الردة على كيان الإسلام في فجره لأنه كان يعني الخيانة العظمى حسب تعريفنا القانوني الراهن ويعني الالتحاق بمعسكر العدو الظالم فحق على المرتد أن يعدم بحق، وهذا الحق هو الخوف من غدر من يواليك واستودعته أسرارك ليلتحق بمن يعاديك وما يطبقه القضاء العسكري الحالي في كل دول العالم من قانون جنائي ما هو إلا تجريم الخيانة والجوسسة وتعريض أمن البلاد والعباد إلى الخطر وتنفذ إلى اليوم أغلب القوانين العسكرية عقوبة الإعدام على كل من تثبت عليه هذه التهم حفاظا على أمن الدولة وسلامة المجتمع من التخريب.. 

ثم إن القاعدة الخالدة في القرآن المجيد هي (لا إكراه في الدين) وهي الآية التي تتجاوز الظرف الزمني المتحول لتكون قيمة عليا ثابتة مدى الدهر.. بالإضافة إلى أن المسلمين لا يعيشون في المريخ بل في منظومة عالمية ذات ثقافات وحضارات متباينة ولكنها متفاعلة متلاقحة وبخاصة في عصر الثورة الرقمية التي وحدت قيم الناس أو أجبرتهم على احترام الاختلاف والتعايش مع المختلفين عنهم دون أن تكون لإحدى الأمم هيمنة على الأمم الأخرى. فالحكم الصادر على مريم لا يقنع العالم بوجاهة رأينا بقدر ما يجلب لنا المزيد من الأحقاد ويوغر صدور الناس ضدنا خاصة أن المرأة تقول إنها ولدت مسيحية ولم تفارق دينها الذي نشأت فيه. 

ولا أخفيكم أنني سررت جدا بما آلت إليه قضية مريم من كسر الحكم الابتدائي وإطلاق سراحها. ثم كيف نطمح للحوار مع أهل الأديان السماوية الأخرى ونحن نضعهم مسبقا في قفص الكفار والمارقين بل نجعلهم غير آمنين على أرواحهم؟ 

 

إن القاعدة الخالدة في القرآن المجيد هي (لا إكراه في الدين) وهي الآية التي تتجاوز الظرف الزمني المتحول لتكون قيمة عليا ثابتة مدى الدهر.. بالإضافة إلى أن المسلمين لا يعيشون في المريخ بل في منظومة عالمية ذات ثقافات وحضارات متباينة ولكنها متفاعلة متلاقحة وبخاصة في عصر الثورة الرقمية التي وحدت قيم الناس أو أجبرتهم على احترام الاختلاف والتعايش مع المختلفين عنهم..

 



تذكروا معي أيها القراء الأفاضل قصة عتق العبيد رغم عدم وجود نص قرآني قاطع يفرض عتقهم بل إن الله سبحانه في كتابه المبين تدرج بعقول المؤمنين خطوة خطوة نحو العتق والتحرير وترك للاجتهاد الإنساني رسالة تحقيق المساواة بين البشر حتى أن بلادي تونس حرمت العبودية وجرمتها سنة 1846 قبل الولايات المتحدة الأمريكية بل إن الزعيم التونسي المصلح الجنرال حسين رئيس بلدية تونس العاصمة قبل استعمار بلادنا من قبل فرنسا وجه رسالة خطية إلى الرئيس الأمريكي أبراهام لنكولن ينصحه فيها بتحرير العبيد والتخلي عن استعباد السود مذكرا إياه بما قاله الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه (متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا). 

إن هذه القصة من التاريخ الحديث تؤلم التوانسة نعم تؤلم شعب تونس لأننا نشهد انهيار دولة عريقة قائمة منذ 3000 سنة أنقذها شبابها من الاستبداد لكن الطبقة السياسية العاجزة التي انتصبت للحكم بعد 14 يناير 2011 لم توفق في خدمة الشعب وتحقيق أهدافه فعسى الله سبحانه يهدينا إلى سواء السبيل فيبعث من يجدد لنا ديننا على رأس كل مائة عام كما وعد نبينا الكريم أي بالحسنى والكلمة الطيبة والمثل الحي لا بالعنف والتقتيل والتكفير.


التعليقات (0)
الأكثر قراءة اليوم