أفكَار

في فهم شروط خاصية الاستخلاف التي ميز الله بها الإنسان دون غيره

أبو يعرب المرزوقي: القرآن حوار دائم بين الإنسان وربه حتى لما يلحد لأنه علاقة بين الخليفة والمستخلف ـ الأناضول
أبو يعرب المرزوقي: القرآن حوار دائم بين الإنسان وربه حتى لما يلحد لأنه علاقة بين الخليفة والمستخلف ـ الأناضول
القرآن حوار دائم بين الإنسان وربه حتى لما يلحد لأنه علاقة بين الخليفة والمستخلف حول استراتيجية امتحان أهلية الإنسان للرئاسة بالمعنى الخلدوني.

والقصة القرآنية الجامعة بين كل قصة ذات الحبكة الدرامية هي استراتيجية استفادة الإنسان من الفرصة الثانية التي أعطيت له لإثبات جدارته بها بعد الحدث الذي تلا الاستخلاف: دليل حرية الخليفة في التصرف وتحمل المسؤولية التي جهز بها بالإرادة الحرة غاية لوجوده بالعقل الراجح أداة لها.

فيكون القرآن قصة هذه العلاقة الدرامية بين الرب والمربوب في ما يمكن اعتباره أول رواية كونية تقص عناصر لغز الأنا بوصفه علاقة بين أناءين أنا الرب الذي يتأنس في حواره مع الإنسان وأنا المربوب الذي يريد أن يتأله في حواره مع الرب وكأنهما في علاقة تمانع بين رب خالق والآمر ومتربب يريد أن يتأله. وقد خصصت لمفهوم التأله في النظرية الخلدونية بحثا صدر في منشورات بيت الحكمة وسبق تقديمه في شكل محاضرة في ندوات قسم العلوم الإسلامية فيها.

 فالعلاقة بين الإرادتين والعقلين ـ إرادة المستخلف وإرادة الخليفة وعقلاهما ـ يجعلها علاقة بين سلطانين يعبران عن سياسة لإرادة خالقة وآمرة ذات استراتيجية في الخلق رياضية واستراتيجية في الأمر خلقية وسياسة لإرادة مخلوقة ومأمورة تستعمل نفس الاستراتيجية المستوحاة من اكتشاف قوانين شاهد الخلق وأخلاق وشاهد الأمر إما بصورة مباشرة من خلال كيانه العضوي ممثلا للطبيعة والروحي ممثلا للتاريخ وبما وراء الطبيعة وبما وراء التاريخ.

 أي ما يفسر به الإنسان دور الطبيعة والتاريخ في بقائه بفضل دوره في معرفة ما ورائهما أي قوانين الطبيعة وسنن التاريخ وتلك هي وظيفة نظره وعقده للمعرفة وعمله وشرعه للقيمة.

وهذه رؤية القرآن التي أريد درسها. لكن رؤية القرآن اعتبرها قد حرفت بتحريف كل علوم الملة وبتأثير من علم النفس الأفلاطوني والأرسطي بتوسط المنحولات على أرسطو والجامعة ذات المصدر الأفلوطيني.

وأبدأ بالقول إن كيان الإنسان مخمس وليس مثنويا. ففيه البدني واللابدني أو المشهود من كيانه واللامشهود منه. واللامشهود فاعليته في المشهود من كيانه مشهودة والمشهود من كيانه فاعليته في اللامشهود من كيانه مشهودة.

فكلنا يعلم أن اللامشهود من كياننا يفعل في المشهود منه وفعله مشهود لأن كلا منا يأمر بدنه فيطيع أحيانا ويعصي أحيانا أخرى ليس في حركاته فحسب بل وفي رغباته وشهواته وعاداته التي تطيع أو تعصي بوعي أو بغير وعي من صاحب الكيان.

وكلنا يعلم أن المشهود من كياننا يفعل في اللامشهود منه وعلفه مشهود لأن كلا منا يأتمر بحاجات بدنه فيطيع أحيانا ويعصي أخرى سواء بخصوص ما يسد حاجاته العضوية أو بالتخلص من إفرازاته واللامشهود يطيع أو يعصي أوامر البدن. وفاعلية اللامشهود في المشهود تفعل في فاعلية المشهود في اللامشهود. وفاعلية المشهود في اللامشهود تفعل في فاعلية اللامشهود في المشهود وتبقى وحدة الكيان هي الإشكال الذي نطلبه ولنا فرضيتان قد ترجحان هذه الرؤية التي هي عين رؤية القرآن لأن النفخ في التراب الذي صور منه آدم ليس جزءا من ذات الله بل هو فعل من جنس "كن" وهي "كن" من الدرجة من القوة الثانية التي تتعلق بالجهازين اللذين يجعلان الإنسان قادرا على أن يكون خليفة أعني جهاز النظر والعقد وجهاز العمل والشرع.

لو كان الإسلام لم يبن على أهمية البدن في كيان الإنسان ولم يعتبر تلك الوظائف التي تقبل الرد إلى تعلم الأسماء بعد النفخ لاستحال أن نفهم منزلة العناية بالجسد وعلاقته بالطبيعة والحياة (المائدة والسرير) وبما ورائهما المضاعف.. أعني الفنين والجهازين الذي يمكنه من النظر والعقد بوصفه مستعمرا في الأرض والذي يمكنه من العمل والشرع بوصفه مستخلفا فيها.
وهذان الجهازان متعينان في كيان الإنسان العضوي ويعملان بأداة آلية هي الرمز والتقنية وكلها متعينة في ما يشبه "السوفت وار" الثابت والفطري ولا يكتسب إلا دربة على استعمالهما في "الهارد الوار" الذي هو جهاز الحواس والإدراك الرمزي أو المعرفي والقيمي:

ـ ألا يكون اللامشهود من كياننا هو غيب المشهود منه.. فتكون الروح هي غيب البدن إذ سمينا اللامشهود من كياننا روحا.

ـ ألا يكون المشهود من كياننا هو شاهد الغيبي من كياننا.. فيكون البدن هو مشهود الروح.

ولا بد هنا من الوصل بين الإنسان والطبيعة والإنسان والتاريخ بفضل وظائف هذين الجهازين المشروطين في قيام الإنساني العضوي والبيولوجي والروحي والرمزي:

ـ دور المائدة: كيف تؤثر المأكولات في الحواس قبل أن تؤكل فيكون بين الطبيعة وبين الإنسان تواصل عن طريق ما يخرج من المأكولات مما تدركه الحواس الخمس؟

ـ دور السرير: كيف تؤثر المنتوجات في الحواس قبل النكاح فيكون بين الطبيعة وبين الإنسان من جنس مختلف أو من نفس الجنس ما يحرك غريزة الجنس عن طريق الحواس ومن بعد.

ـ دور فن المائدة: العلاقة بين الذوقين ذوق الغذاء وذوق الفن عامة.

ـ دور فن السرير: العلاقة بين الذوقين ذوق الجنس وذوق العشق.

ـ جهاز النظر والعقد أداتان لتحقيق التعامل مع المحيط  الطبيعي والتاريخي خارجيا ومع الكيان العضوي والكيان الروحي الذاتيين داخليا.

ـ وجهاز العمل والشرع غايتان تثمرهما العلاقة الأولى التي تؤدي دور الأداة من أجل تنظيم أفعال الإرادة وتلك هي علة تحول الديني إلى استراتيجية سياسية لتربية الإنسان وحكمه.

ـ  فيكون الإنسان مجهزا بما به يستطيع التلقي من الطبيعة والتاريخ بما في كيانه من طبيعي وتاريخي وهما ما يرثه من الجماعة وترثه الجماعات بعضها من البعض خلال تاريخ الإنسانية كلها حتى يصبح استنتاج نظاميهما القانوني للأول والسنني للثاني سياسة واعية وشاملة للإنسانية كلها فيتحقق المبدآن القرآنيان مبدأ الأخوة الإنسانية (النساء) ومبدأ التعارف (الحجرات) فيترتب عنهما المساواة بينهم ولا يكون التفاضل عند الرب إلا بالتقوى باعتبار التنوع العرقي والطبقي والجنسي من شروط التواصل والتكامل  والتساخر.

ـ وما قلناه عن التلقي يكون عين ما يقال عن البث أو الإرسال إليهما والتعامل معهما لسد هذه الحاجات ولحمايتها ممن ينافسه عليها. فما يتلقاه الواحد هو ما يرسله الثاني طبيعة كان أو تاريخا في الإرث العضوي أو الإرث الروحي.. وفي شرطيهما أي الثروة والتراث بوصفهما الزاد المستمد من الطبيعة والتاريخ. وتلك هي وظيفة المعادلة الوجودية التي هي عين مضمون القرآن وعين بنية كيان الإنسان.

فمن أين جاء اتهام ما يقبل الوصف بـ"السوفت وار" في تحقيق كل هذه المهام (التجهيز اللطيف) عن "الهارد وار" الذي لا تتحقق من دونه (التجهيز الكثيف) حتى وإن كان نفس التجهيز اللطيف بكونه منفصلا عنه وليس هو عين ما له من قدرات هي بالرمز الديني حصيلة ما تحقق بفضل النفخ من روح الله الذي هو نفسه وليس جزءا من كيانه الروحي.

فحتى لو تصورنا هذا التجهيز اللطيف قابلا للوضع في عدة أجهزة كثيفة فإن ذلك لا يعني أنه يمكن أن يحقق هذه من دون الجهاز الكثيف المتوالي عليه. والرمز القرآني يشترط بعث الجسد للشروع في الحياة الخالدة إيجابا أو سلبا. وحتى لو تصورنا الجهاز الكثيف ماديا خالصا فنحن لا نعلم الهيئات التي تتشكل بها المادة بحيث يكون بوسعنا نفي أن يكون اللطيف هو بدروه ماديا في تشكل شديد اللطافة بحيث لا نظنه ماديا ونعتبره لاماديا أو روحيا. فالروح قد يكون الدرجة القصوى من تلطيف الكثيف إلى حد تحوله إلى غيب الكثيف الذي يحيي شاهده ويقيمه ويجعله قادرا على وظائفه.

وهو ما يعني أن المقابلة "مادة روح" أو "كثيف ولطيف" علته الإدراك البدائي لأحوال المادة وتعريفها  بالامتداد الجرمي (بالمعنى الديكارتي) ومقابلتها بالروح التي تعرف بنفي الامتداد الجرمي. ولذلك فسأبين أن هذه الوظائف الخمس التي ذكرتها لا بد فيها من الامتداد الجرمي لكل ما كنا نتصوره غنيا علنه وننسبه إلى الروح التي تعرف باللامتداد.

الإنسان مجهز بما به يستطيع التلقي من الطبيعة والتاريخ بما في كيانه من طبيعي وتاريخي وهما ما يرثه من الجماعة وترثه الجماعات بعضها من البعض خلال تاريخ الإنسانية كلها حتى يصبح استنتاج نظاميهما القانوني للأول والسنني للثاني سياسة واعية وشاملة للإنسانية كلها فيتحقق المبدآن القرآنيان مبدأ الأخوة الإنسانية (النساء) ومبدأ التعارف (الحجرات)
وفي الحقيقة فهذه المقابلة حتى في الرمزية الدينية الواردة في القرآن لم تلغ الجرمية على ما يتميز به آدم بعد النفخ لأن إبليس لما رفض السجود لم يرفضه إلا بفضل موقفه من التفاضل بين المواد مستندا إلى ما ينسبه إلى مادته من فضل على مادة آدم ولم يعتبر النفخ الإلهي عاملا جديدا غير مادي. وهو رفض السجود بعد أن علم أن الله قد علم آدم الأسماء كلها وهي الميزة التي كانت تنقص الملائكة الذين شككوا في أهلية آدم للاستخلاف.

ولو كان الإسلام لم يبن على أهمية البدن في كيان الإنسان ولم يعتبر تلك الوظائف التي تقبل الرد إلى تعلم الأسماء بعد النفخ لاستحال أن نفهم منزلة العناية بالجسد وعلاقته بالطبيعة والحياة (المائدة والسرير) وبما ورائهما المضاعف.. أعني الفنين والجهازين الذي يمكنه من النظر والعقد بوصفه مستعمرا في الأرض والذي يمكنه من العمل والشرع بوصفه مستخلفا فيها.

وتلك هي مميزات الإسلام بالمقارنة مع الأديان التي يعتبرها محرفة والتي يمكن ردها إلى تحريفين:

 أولهما يتعلق بالمائدة والسرير وفنيهما وذلك هو التحريف المسيحي وقضية الخطيئة الموروثة التي تؤدي إلى احتقار الجسد والجنس.

والثانية تتعلق بمنزلة الإنسان التي تجعله أهلا للاستخلاف بصورة كونية وليس فيه شعب مختار وعبيد يعمرون الأرض للمستفردين بالاستخلاف عليهم وذلك هو التحريف اليهودي بنظرية الإله القبلي وما يترتب عنه من قضية الشعب المختار والجوهيم.

ولا بد هنا من الوصل بين الإنسان والطبيعة والإنسان والتاريخ بهذين الجهازين:

ـ دور المائدة:

كيف يؤثر المأكول في الحواس عن بعد وكأنه يدعو الآكل  قبل الأكل إلى الأكل فيكون بين الطبيعة وبين الإنسان تواصل عن طريق ما يصدر عن المأكولات مما تدركه الحواس الخمس؟ وكيف يكون التأثير متناسبا مع عدد الحواس التي تسهم في هذا التواصل عن بعد؟

ـ دور السرير:

كيف يؤثر المنكوح في الحواس عن بعد وكأنه يدعو الناكح (ذكرا أو أنثى) قبل النكاح فيكون بين الطبيعة وبين الإنسان ما يحرك غريزة الجنس عن طريق الحواس الخمس؟ وكيف يكون التأثير متناسبا مع عدد الحواس التي تسهم في هذا التواصل عن بعد؟

ـ فن المائدة:

 وهو متعلق بما يقوي هذا التأثير الغذائي عن بعد باختيار المآكل واختيار الأجمل في العرض وبتنضيد المائدة تنضيدا يقوي دور التواصل بين المآكل والبدن الإنساني بمضاعفة دور الإدراك الحسي وجعل الحواس الخمس تشارك في التواصل غير المباشر المقدم على المباشر الذي يصبح غاية الغاية.

ـ فن السرير:

 وهو متعلق بما يقوي هذا التأثير الجنسي عن بعد باختيار المناكح واختيار الأجمل في العرض وبتنضيد السرير تنضيدا يقوي دور التواصل بين المناكح والبدن الإنساني بمضاعفة دور الإدراك الحسي وجعل الحواس الخمس تشارك في التواصل غير المباشر المقدم على المباشر الذي يصبح غاية الغاية.

ـ جهاز النظر والعقد وجهاز العمل والشرع:

 أو ما به يستطيع الإنسان التلقي من الطبيعة والتاريخ واستنتاج نظاميهما القانوني للأول والسنني للثاني والإرسال إليهما والتعامل معهما لسد هذه الحاجات ولحمايتها ممن ينافسه عليها.

لا يمكن أن أجيب عن الأسئلة الأربع الأولى التي هي في الحقيقة فروع السؤال الخامس إلا بالانطلاق منه. لكن ذلك يقتضي أن أقدم عليه التوالج بين المائدة والسرير وبين فنيهما أو التأثير المتبادل بينهما سواء تصاحب الفعل الغذائي والفعل الجنسي فعليا أو لم يتصاحبا لكن فنيهما متصاحبان دائما حتى إن لغتيهما تمثلان مصدر الاستعارات المتبادلة بمعنى أن الإنسان يمكن أن يعبر عن لغة الأكل بلغة الجنس والعكس بالعكس.

ولهذا التوالج بين الفعلين وبين الفنين أهمية كبرى في كل تواصل فعلي بين البشر وخاصة بين الجنسين. ولا أعني بالجنسين العلاقة بين الرجل والمرأة بل بين الذكوري والأنثوي سواء كان بين الجنسين رجلا وامرأة عضويا أو بين رجلين أو بين امرأتين في المثلية.

ففيهما يبقي للذكري والأنثوي حضورا حتميا لأن المثلية المؤثر فيها هو العلاقة بين هذين الوجهين اللذين خصصت لهما محاولة سابقة مع التمييز بين الظاهرة من حيث هي عضوية ومن حيث هي ثقافية. والكلام عنه لا يعني تشريعها بل الاعتراف بأحد أهم موضوعات التشريع الذي ما كان ليوجد من دون وجودها. فهو تشريع لحفظ النوع وحمايته.
التعليقات (0)
الأكثر قراءة اليوم