قضايا وآراء

الثورة التي نريد (9)

أحمد عبد العزيز
تتصارع القو ى الإسلامية والعلمانية بينما يسيطر العسكر على السلطة- عربي21
تتصارع القو ى الإسلامية والعلمانية بينما يسيطر العسكر على السلطة- عربي21
ذكرى انتفاضة يناير 2011

في مثل هذا اليوم، قبل اثني عشر عاما، كانت حشود المصريين على أهبة الاستعداد للخروج في اليوم التالي (25 كانون الثاني/ يناير 2011)؛ للمطالبة بالعيش، والحرية، والعدالة الاجتماعية، استجابة للدعوة التي أطلقتها صفحة "كلنا خالد سعيد" على فيسبوك، ومهدت لها على مدى ستة أشهر.

ومن المعلوم أن الناشط وائل غنيم قام بدفن هذه الصفحة التي كان يتابعها نحو ثلاثة ملايين ونصف المليون شخص، في أحد "الثقوب السوداء" بالفضاء الأزرق، دون إعلان مسبق، ودون إبداء الأسباب، وذلك بعد انحيازه التام وتأييده المطلق لمشروع الانقلاب العسكري، على الشرعية الدستورية والرئيس المدني المنتخب، منذ اللحظة الأولى، أي قبل 3 تموز/ يوليو 2013.

وقد تناولتُ بالتحليل (في ثلاث مقالات) بعنوان "قراءة في صفحة الفقيد الموؤودة" أسباب اختيار مسؤولي هذه الصفحة الشاب السكندري المغدور خالد سعيد؛ ليكون "أيقونة" ضحايا التعذيب، في عهد الرئيس المخلوع حسني مبارك، على أيدي زبانية وزارة الداخلية..

استمرت "انتفاضة يناير" ثمانية عشر يوما، تطورت خلالها شعارات المعتصمين في ميدان التحرير، وميادين أخرى، من المطالبة بالعيش والحرية والعدالة الاجتماعية، إلى "ارحل"، ثم إلى "الشعب يريد إسقاط النظام". وقد "استجاب" المجلس الأعلى للقوات المسلحة، برئاسة المشير محمد حسين طنطاوي لـ"نداء الشعب"، وأجبر مبارك على التخلي عن السلطة، و"تكليف" المجلس الأعلى للقوات المسلحة بإدارة شؤون البلاد.. حسب البيان المقتضب الذي ألقاه اللواء عمر سليمان الذي عينه مبارك نائبا له، قبل ثلاثة عشر يوما من "إخراج" هذا المشهد!

الأحداث اللاحقة كشفت عن مؤامرة خبيثة استهدفت مصر كيانا وشعبا، تاريخا وحاضرا ومستقبلا، وما كان "خلع" مبارك إلا تمويها وتغطية على تلك المؤامرة الدنيئة التي نعيش تفاصيلها (يوما بيوم) منذ عشر سنوات، على يد الجنرال المنقلب على رئيسه المنتخب
هكذا بدا الأمر في تلك الأيام، وتعالت هتافات المنتفضين في ربوع مصر: "الجيش والشعب إيد واحدة".. غير أن الأحداث اللاحقة كشفت عن مؤامرة خبيثة استهدفت مصر كيانا وشعبا، تاريخا وحاضرا ومستقبلا، وما كان "خلع" مبارك إلا تمويها وتغطية على تلك المؤامرة الدنيئة التي نعيش تفاصيلها (يوما بيوم) منذ عشر سنوات، على يد الجنرال المنقلب على رئيسه المنتخب. وهذا موضوع يطول فيه الحديث ويتشعب!

ما يعنيني من هذه الذكرى، في هذا المقام.. التذكير بفشل "الثوار" في تشكيل "مجلس رئاسي انتقالي"؛ لاستلام السلطة (مؤقتا) من المجلس الأعلى للقوات المسلحة الذي وعد بتسليم مقاليد الحكم لـ"سلطة مدنية، ورئيس منتخب"، بعد ستة أشهر من تاريخ تنازل مبارك عن السلطة، في 11 شباط/ فبراير 2012، غير أن المجلس العسكري نكث بوعده، وأعلن تمديد بقائه في السلطة، لسنة أخرى أو أكثر، لم أعد أذكر! فتنادى "الثوار" للخروج في "مليونية" (تكررت عدة مرات)؛ لإجبار المجلس العسكري على تسليم البلاد لسلطة منتخبة..

تحت ضغط هذه "المليونيات"، اضطر المجلس إلى إجراء تعديلات دستورية، دعا على إثرها إلى انتخابات برلمانية ورئاسية، أفرزت برلمانا أغلبيته من الإخوان المسلمين، وجاءت بالدكتور محمد مرسي رئيسا للجمهورية، بأغلبية طفيفة، ثم كان الانقلاب العسكري الدموي على السلطة "المدنية" المنتخبة، بعد عام من انتخابها، قضاه الرئيس مرسي في حرب ضروس مع الدولة العميقة، ممثلة في العسكر وحلفائهم في مفاصل الدولة الحساسة!

ومنذ انقلاب ياسر جلال المشؤوم وحتى اليوم، لا يزال الفرقاء عاجزين عن تشكيل كيان يمثل الكتلة الحيَّة في الشعب المصري؛ لمواجهة سلطة الانقلاب الغشوم التي أوشكت على الانتهاء من "تسليم" مصر لأولئك المتصهينين الذين أصبحوا جزءا لا يتجزأ من المشروع الصهيوني التوسعي في المنطقة!

بالقطع هناك أسباب لهذا "العجز" عن تشكيل كيان يمثل الكتلة الحيَّة في الشعب المصري، يأتي في مقدمتها (حسبما أرى) تلك الكراهية العمياء من جانب العَلمانيين، لكل ما هو "إسلامي".. أولئك الذين يعتقدون بأن الإسلام دين "ظلامي رجعي"، ولا يدري هؤلاء أنهم "الرجعيون"، وهم "الظلاميون" الذين يريدون العودة بنا إلى ظلمات "الجاهلية الأولى" التي بددها نور الإسلام، فمكثنا به، وتحت رايته، في مقدمة الأمم قرونا..

ألم يلتفت هؤلاء العَلمانيون (رافعو شعار الدولة المدنية) إلى تسمية "يثرب" بـ"المدينة" بعد هجرة الرسول (صلى الله عليه وسلم) إليها؟ هل سمع هؤلاء باسم "المدينة" بألف ولام التعريف، إشارة إلى أي تجمع بشري، قبل ذلك التاريخ وبعده؟ ألم يسألوا أنفسهم: لماذا كان هذا الاسم (المدينة) بالذات؟ إذا لم يكن لديهم إجابة (ولا إجابة لديهم) فإليهم الإجابة التي أعتقد بوجاهتها ومعقوليتها، استنادا لمفهوم "المدنيَّة" التي تعني، أول ما تعني، سيادة القانون، واحترام حقوق الإنسان التي لا تتصادم مع الفطرة السوية..

لقد استحقت "المدينة" هذا الاسم، إلى جانب أسماء أخرى؛ لأنها أصبحت "مجتمعا مدنيَّا" متحضرا، بعد أن تخلصت من أدران الجاهلية التي سادت فيها الهمجية، والعصبية القَبَليِّة، على حساب القيم الإنسانية والفطرة السليمة، وقبِل وارتضى أهل "المدينة" من الأنصار والمهاجرين أن يحكمهم قانون السماء (الشريعة)، فكانت "المدينة" نواة "دولة الإسلام"، أو "الدولة الإسلامية" التي باتت عنوانا للمدنيَّة والتحضر، في عالم همجي تحكمه شريعة الغاب، وكان أول عهده بمصطلح "المجتمع المدني"، على أيدي فلاسفة عصر الأنوار، أي قبل قرنين ونصف القرن فقط!

"حكومة الوعد" نموذجا للتمييز وعدم المسؤولية!
هذا الصنف (الاستئصالي) من العَلمانيين غير مستعد للتوافق أو التفاهم مع الفريق الذي يتبنى "المرجعية الإسلامية"، في بلد مسلم! بل ومستعد للقفز على دمائه، وتضحياته، وحقوقه، ومظالمه التي شهد عليها العالم بأسره!

إن هذا الصنف (الاستئصالي) من العَلمانيين غير مستعد للتوافق أو التفاهم مع الفريق الذي يتبنى "المرجعية الإسلامية"، في بلد مسلم! بل ومستعد للقفز على دمائه، وتضحياته، وحقوقه، ومظالمه التي شهد عليها العالم بأسره! وأنا هنا لا أبالغ ولا أدعي..

فقد تنادى فريق من العَلمانيين المصريين في الخارج ومن والاهم، لتشكيل كيان معارض للنظام (من غير الحزبيين) أطلقوا عليه "تكنوقراط مصر"، قام بدوره بتشكيل حكومة "منفى" أطلق عليها اسم "حكومة الوعد".. أهلا وسهلا.. خطوة رائعة حتى وإن "غُيِّبَ" عنها الحزبيون، "إسلاميين" و"غير إسلاميين".. لا بأس.. المهم النتيجة.. فما النتيجة؟

قبل أيام، أصدرت هذه "الحكومة" على لسان رئيسها "لائحة اتهام" بحق السيسي، اعترفت فيها بشرعيته، بأن وصفته بـ"الرئيس"، ووجهت له اتهامات من عيِّنة "بيع أصول الدولة، أو التفريط فيها"، ولم تُشِر "لائحة الاتهام" من قريب أو من بعيد، إلى جريمة الانقلاب على الرئيس الشرعي المنتخب (خيانة عظمى)، كما لم تُشِر إلى مجزرة رابعة وأخواتها (إبادة جماعية)، ولا إلى مئة ألف معتقل في سجون الانقلاب منذ عشر سنوات (اضطهاد بسبب الرأي)! وكأن هذه الجرائم الشنعاء لم تقع على أرض مصر، أو وقعت ولم يسمع بها أحد، أو أنها مجرد "انتهاكات بسيطة" غير جديرة بالنظر فيها، أو محاسبة مرتكبيها، من جانب هذه "الحكومة" التي تقدم نفسها "بديلا مدنيا ديمقراطيا" للنظام؛ الذي لا تراه منقلبا على "الشرعية الدستورية" التي منحها "الشعب" لـ"الرئيس المنتخب"، في انتخابات "حرة نزيهة" بامتياز!

هذا التجاهل التام لدماء المصريين، وجريمة الانقلاب على أول رئيس مدني منتخب في تاريخ مصر، والتنكيل بمئة ألف معتقل وذويهم، يفقد هذه المجموعة الثقة لدى معظم المصريين، وأنا أولهم
إن أقل ما يوصف به هذا "المنطق" من "حكومة" تدَّعي تمثيل المصريين، أنه "منطق أعوج" أو "أعور"، لا يصدر إلا عن أشخاص عنصريين، يفتقرون إلى أدنى قدر من الوطنية والمسؤولية! فكيف لهؤلاء أن يتجاهلوا (عن سابق قصد وتصميم) أكثر القضايا التي شغلت الرأي العام المصري (ناهيك عن الدولي) سنين عددا؟!

إن هذا التجاهل التام لدماء المصريين، وجريمة الانقلاب على أول رئيس مدني منتخب في تاريخ مصر، والتنكيل بمئة ألف معتقل وذويهم، يفقد هذه المجموعة الثقة لدى معظم المصريين، وأنا أولهم!

إن هذه "الشوفينية" لا تجدها (مطلقا) عند "جماعات" الإخوان المسلمين الثلاث، رغم كل المآخذ عليها.. فاستئصال الآخر وإقصاؤه ليس من أدبيات الإخوان المسلمين، مهما كانت درجة خلافها مع هذا الآخر (بعض القيادات لديها الاستعداد لاستئصال إخوانهم وإقصائهم، أما الآخر فلا.. أمر عجيب، لكنها الحقيقة)! ومن ثم، فإن جماعة الإخوان المسلمين (بأجنحتها الثلاثة) لا تزال هي النواة، أو "الأنوية" الصلبة التي يمكن أن يلتف حولها أو يتفاهم معها جميع "الفرقاء" على اختلاف توجهاتهم، على قاعدة "مصر دولة مسلمة" تحترم التعددية الفكرية والسياسية، ويجب أن تخلو قوانينها من كل ما يخالف صحيح الدين وقِيَمِه، ولا شيء أكثر من ذلك.

نزعة "إقصائية" متجذرة، لدى مجموعة التكنوقراط العَلمانيين، وتفضح تجاهلها المتعمد لقضايا شديدة الحساسية، ستظل عقبة كؤودا أمام أي محاولة لرأب الصدع المجتمعي الوسيع والعميق الذي أحدثه الانقلاب، ما لم يتم معالجتها على نحو عادلٍ ومُرضٍ للمتضررين
وقد يسخر أحدهم من فكرة الالتفاف حول "جماعات" الإخوان المسلمين! أما أنا فلا أرى مجالا للسخرية على الإطلاق؛ لأن ما يجمع هذه "الجماعات" أكثر مما يفرقها؛ فلا خلاف بينها حول الفكرة أو المنهج أو الغاية، وإنما الخلاف بينها كان (ولا يزال) حول تفسير بعض بنود اللائحة الداخلية، وبعض الوسائل، وهو خلاف يمكن حسمه في جلسة واحدة، إذا جد الجد، وخلصت النوايا.

إن "لائحة الاتهام" التي صدرت عن "حكومة الوعد" تشير (بوضوح) إلى نزعة "إقصائية" متجذرة، لدى مجموعة التكنوقراط العَلمانيين، وتفضح تجاهلها المتعمد لقضايا شديدة الحساسية، ستظل عقبة كؤودا أمام أي محاولة لرأب الصدع المجتمعي الوسيع والعميق الذي أحدثه الانقلاب، ما لم يتم معالجتها على نحو عادلٍ ومُرضٍ للمتضررين.. فإذا كان هذا أداء العلمانيين "المعارضين" للنظام، فماذا عن المؤيدين له، والساكتين عنه؟!

إننا أمام حالة مستعصية، علاجها الوحيد (في تقديري) عودة هؤلاء العَلمانيين إلى رشدهم، فيدركوا أن هذه الشعارات التي يرفعونها لا مكان لها إلا في مجتمعات "تُخاصم" الدين أو تُنكره، وليس في "بلد مسلم"، ومصر بلد مسلم، ولن يكون غير ذلك، بحول الله، وعليهم الوعي بأنهم لن يجدوا التقدير لأشخاصهم، وكفاءاتهم العلمية والسياسية، إلا عند "أعدقائهم" الإسلاميين، وليس عند العسكر الذين يحتقرون الجميع.

(يُتبع)..

twitter.com/AAAzizMisr
aaaziz.com

التعليقات (0)