قضايا وآراء

عودة إلى الوراء لفهم ما يحدث في تونس

بحري العرفاوي
فاجأ الغنوشي الجميع باتفاقه مع السبسي- أ ف ب
فاجأ الغنوشي الجميع باتفاقه مع السبسي- أ ف ب
فهمُ ما حدث بتونس بين 17 كانون الأول/ ديسمبر 2010 و14 كانون الثاني/ يناير 2011، ضروري جدا لفهم كل التداعيات اللاحقة، فهروب ابن علي بطريقة سريعة ومفاجئة شحن التونسيين بمزاج ثوري عال، والسياسيون الذين كانوا يشتغلون في مربع "النقد البنّاء" و"الفكر الإصلاحي" ومشاريع التسوية ومخططات المصالحة والتسويات الفردية، كلهم أخذتهم الروح الثورية التي لم تكن متوقعة ولم يكونوا مستعدين لها، حتى هيئة 18 أكتوبر كأقوى فكرة معارضة لابن علي (تشكلت في 18 تشرين الأول/ أكتوبر 2005) لم تكن جاهزة لتسلم الحكم، بل إن أبرز زعمائها نجيب الشابي قدّر عدم المغامرة بالذهاب إلى المجهول إذا ما سقط ابن علي، لذلك استجاب هو وأحمد إبراهيم، رئيس حزب التجديد اليساري وقتها، لدعوتهما إلى المشاركة في حكومة محمد الغنوشي يوم 13 كانون الثاني/ يناير 2011.

كان أول من رفع شعار "degage" (ارحل) هي الناشطة الحقوقية المعارضة سهام بن سدرين، في مقال باللغة الفرنسية عرّبه المعارض المهاجر في ألمانيا طه البعزاوي. وكانت السيدة سهام تعرضت في عاصمة أوروبية إلى خطف حقيبتها في محاولة لترهيبها وهي ترفع صوتها عاليا في الدعوة إلى إسقاط ابن علي.

الغنوشي أيضا كان قد كتب في موقع الكتروني عن ثورة شعبية ستنطلق من الجهات الداخلية والقرى المفقرة في الشمال التونسي وستنتهي إلى وسط العاصمة. والمنصف المرزوقي كان صاحب شعار "لا يصلح ولا يصلح".

ولكن، على خلاف معارضة الخارج، في الداخل كان ثمة اشتغال على "الواقعية السياسية" في انتظار ما قد يفعله ملك الموت بابن علي الذي قيل منذ 2005 بأنه يعاني مرضا عضالا لن يمهله طويلا.

الشرخ في المعارضة حصل بعد خطاب 13 كانون الثاني/ يناير 2011، حين قبل الشابي وأحمد إبراهيم بحل وسط، واعتبرا خطاب ابن علي يومها مستجيبا لمطالب المعارضة وتولى كل منهما حقيبة وزارية
معارضة الخارج كان سقف الخطاب لديها عاليا، وبدأت تحركات تشي بأن أمرا ما سيحدث.

الشرخ في المعارضة حصل بعد خطاب 13 كانون الثاني/ يناير 2011، حين قبل الشابي وأحمد إبراهيم بحل وسط، واعتبرا خطاب ابن علي يومها مستجيبا لمطالب المعارضة وتولى كل منهما حقيبة وزارية.

دعا الغنوشي عبر قناة الجزيرة إلى مواصلة التحرك، خاتما حضوره التلفزي بكلمة "الى الأمام"، ودعا نجيب الشابي إلى الانسحاب من حكومة محمد الغنوشي.

قادة حركة النهضة في الداخل لم يكونوا متأكدين من أن ثورة شعبية بصدد محاصرة ابن علي وأنه قد يهرب بسرعة عجيبة، لذلك كانت "المغامرة" بأحد قياديي الحركة حين تكلم في الجزيرة ليلة الخطاب الأخير وقال حرفيا: "ابن علي الذي أنقذ تونس في 1987 نريده أن ينقذها اليوم".

كنا -يومها- بصدد مشهد غير مقروء وبصدد وقائع غير متوقعة، أيضا بصدد لحظات تحتاج عقلا سياسيا عبقريا لاتخاذ الموقف المناسب حتى لا تحصل كارثة إذا ما فشل الرهان على أحد الخيارين، حيث لا وجود لخيار ثالث.

تفكيك "اللحظة" المكتنزة أسرارا وألغازا وشيفرات وأسماء، مهم جدا، لفهم ما حدث بعدها، ولا جدوى من رفع الصوت ولا فائدة من خطاب البطولات والتضحيات والشعارات الكبيرة.

ثمة أسئلة كان يجب طرحها يوما: من رتّب انتقال السلطة؟ من جعل فؤاد المبزع (رئيس البرلمان يومها) يتولى رئاسة "دولة الثورة"؟ من جاء بعدها بالباجي قائد السبسي ليكون رئيس حكومة أشرفت على مرحلة انتقالية انتهت بانتخابات المجلس التأسيسي في 23 تشرين الأول/ أكتوبر 2011، حيث فازت حركة النهضة لتحكم مع شريكين لها؟

والسؤال الأهم من كل الأسئلة السابقة هو: هل كان قادة حركة النهضة يحكمون فعلا؟ هل تسلّموا "كاتالوغ" الدولة؟ كما تسلمه من قبل بورقيبة وابن علي ثم الباجي ثم سعيد الآن؟

وهل كانت "الترويكا" قيادة ثورية فعلا؟ وهل كان مسموحا لها بممارسة "الحسم الثوري"؟ من هو "المسؤول الكبير" الذي ذكره الباجي رحمه الله قبل عرض قانون العزل السياسي الذي ذهب الشهيد شكري بلعيد قربانا من أجل تعطيله؟ من تدخل لمنع التصويت على الدستور في 25 تموز/ يوليو 2013 بتنظيم جريمة اغتيال الشهيد محمد البراهمي؟

من كان وراء عقد "مؤتمر أصدقاء سوريا"؟ من كان يدير شبكات نقل شبابنا إلى محارق الفتنة، وهل فعلا حركة النهضة كانت على علم بعملية "التسفير"؟ ماذا كانت تفعل وقتها بعض الوجوه الاستخباراتية العالمية المعروفة في شوارع تونس؟ من فرض حوارا وطنيا سلّمت بموجبه النهضة الحكم وقد تأكد الغنوشي شخصيا بأن الأمور أفلتت من بين يديه، وقد قال في إحدى الجلسات: "نحن في ركن آمن من سفينة لا نعلم وجهتها".

هل كان الغنوشي وحده يمتلك الأجوبة على أسئلة حساسة لا يريد أن يحمّل أعباءها لمن لا يتحملونها؟ لماذا بكى الغنوشي وهو يحاول إقناع رفاقه بصوابية الإمضاء على وثيقة الحوار الوطني التي جاء بها العباسي، أمين عام اتحاد الشغل وقتها؟ لماذا قال ذات لقاء مع رئيس الحكومة في القصبة (مهدي جمعة) "لا بديل عن الحوار إلا الاقتتال، ونحن نرفض الاقتتال وليس أمامنا إلا الحوار"؟ لماذا قال لوزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف عند التقائه به في مقر السفارة الإيرانية: "إنهم يدفعون بالمنطقة نحو الاقتتال"؟

لماذا بعد حشود 03 أيار/ مايو 2013، الشعبية بساحة القصبة في العاصمة، فاجأ الغنوشي الجميع بسفره يوم 15 آب/ أغسطس إلى باريس ليلتقي الباجي قائد السبسي، زعيم المعارضة وقتها، ليعقد معه اتفاق "التوافق" ولا أحد حتى من قادة النهضة يعلم تفاصيل ذاك اللقاء؟

بعد تسرب خبر اللقاء، أتذكر أنني كنت بسوسة في نشاط ثقافي، اتصل بي برهان بسيس ليقول لي جملة واحدة: "ما تتركوا الأستاذ راشد الغنوشي وحده".
نفهم لماذا "انسحب" مناضلون كبار، مثل الجبالي والجلاصي والمكي وديلو والشهودي وآخرين، من حركة النهضة، ليس لأنهم يختلفون مع الغنوشي في سياسات الحركة، فالاختلاف عادة يكون بعد نقاشات وحوارات، ولكن لأنهم لا يجدون أنفسهم مطلعين على أهم ما يحويه "بنك معلومات الغنوشي" ولا يشاركونه قراءة "لوحة القيادة"

نشرتُ عدة مرات تدوينة هذه صياغتها: "الغنوشي وحده من يجلس خلف المقود ويقرأ لوحة القيادة وهو connecté مباشرة على الساتيليت"، كنت أقول لبعض قيادات النهضة أنتم لا تصنعون سياسات الحركة، أنتم محللون سياسيون.

بهذه المقدمات نفهم لماذا "انسحب" مناضلون كبار، مثل الجبالي والجلاصي والمكي وديلو والشهودي وآخرين، من حركة النهضة، ليس لأنهم يختلفون مع الغنوشي في سياسات الحركة، فالاختلاف عادة يكون بعد نقاشات وحوارات، ولكن لأنهم لا يجدون أنفسهم مطلعين على أهم ما يحويه "بنك معلومات الغنوشي" ولا يشاركونه قراءة "لوحة القيادة" ولا تتاح لهم فرص الارتباط بـ"الساتيلايت".

داخل هذه الغابة من الأسئلة يمكننا أيضا تناول استقالة محمد القوماني الأخيرة من الحركة وهو الذي انضم، أو عاد إليها في 2016، لكونه أحد نشطائها في الحركة الطلابية بداية الثمانينيات.

محمد القوماني هو واحد من الذين تدرّبوا قبل 2011 على تعاطي السياسة البراغماتية حيث المواءمة بين المبدئية والواقعية، وجد نفسه كما غيره في عاصفة الثورة، لم يكن حزبه "تيار الإصلاح" قادرا على التنشئة في زمن التعبئة ولا على التعبئة في زمن "غنوشيٍّ" بامتياز، لقد كان الغنوشي عنوانا سياسيا وكانت حركته أعظم أسطول سياسي يشق عباب ثورة لا وجود لنص يعرِّف بها.

كان منتظرا أن "يفشل" حزب القوماني في وصول أيّ من مناضليه إلى البرلمان، ولم يكن قادرا على مزيد التقدم في ساحة كانت وعرة لا تتقدم فيها إلا "البلدوزر" (النهضة، الاتحاد، النداء)، كان قرار حل حزبه في 2015 قرارا واقعيا وشجاعا.

لماذا التحق القوماني بحركة النهضة؟ أو لماذا دعاه الغنوشي ولماذا قبل الدعوة، ثم لماذا استقال؟

twitter.com/bahriarfaoui1
التعليقات (0)