كتاب عربي 21

ماذا بعد كل هذا الخراب؟

محمد هنيد
تمترست النخب الفكرية العربية وراء أيديولوجيات كسيحة عقيمة مستوردة من قومية وشيوعية ولبرالية انتهت جميعها في حضن الأنظمة الاستبدادية الحاكمة.. (سانا)
تمترست النخب الفكرية العربية وراء أيديولوجيات كسيحة عقيمة مستوردة من قومية وشيوعية ولبرالية انتهت جميعها في حضن الأنظمة الاستبدادية الحاكمة.. (سانا)
لن نختلف مع أحد في تشخيص الحالة العربية من المغرب إلى المشرق ولن نتجادل مع بشر إلا في تفاصيل وضع كارثي بأتم ما تعنيه الكلمة من معان، وهو وضع يزداد سوءا يوما بعد يوم. انتهى طور الثورات التي صُفّيت بالحديد والنار لكن الحالة التي أعقبت ذلك لم تزد الوضع العام إلا فسادا.

عشر سنوات مرّت على انقلاب مصر وها هو قائد الانقلاب الذي تعهّد بعدم الترشح لولاية ثالثة يستعد لحكم مصر مدى الحياة على نهج من سبقه من عسكر مصر عبر انتخابات هزلية تثير سخرية الناس في الداخل والخارج. الوضع في بقية البلاد العربية لا يختلف كثيرا عن وضع مصر باستثناءات قليلة في دول الخليج التي تتهددها الأخطار من كل جانب.

فماذا بعد الخراب الكبير؟ وهل قدر المجتمعات العربية أن تعيش في دوامة الموت والعنف والفوضى؟ هل من سبيل إلى الخروج من النفق القاتل؟ وهل من طريق إلى إيقاف النزيف؟

تأصل الفساد والاستبداد

ليست الانقلابات والفوضى التي أعقبت قيام الثورات المطالبة بالحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية مجرد ردّ فعل القوى العميقة في الداخل والخارج من أجل استعادة مصالحها وامتيازاتها بل هي كذلك دليل على فشل "النخب الثورية" أو القوى التي تصدرت المشهد بعد سقوط الأنظمة في تحويل الفورة الشعبية العارمة إلى مكسب ثابت لا قدرة للدولة العميقة على إزاحته.

لا يمكن إحداث تغيير حقيقي في البلاد العربية دون تجديد شامل يشمل النخب والأفكار ووسائل العمل الجماعي. لا بد من تجاوز الأيديولوجيات السياسية العقيمة التي لم تورّث المنطقة وشعوبها إلا الموت والانقلابات والفساد وهو الأمر الذي لا يكون ممكنا دون إعداد الأرضية اللازمة لأجيال التغيير القادمة.
يبدو هنا أن المسألة لا تتعلق بإزاحة النظام السياسي والحزام الأمني والعسكري المحيط به بل إن المسألة ضاربة بجذورها في عمق الذهنية والثقافة الشعبية التي راكمت عبر عقود كل مظاهر العجز والإحباط والخوف من المبادرة. سرعان ما انقلبت الشعوب على المنجز الثوري وسريعا ما أدارت ظهرها للثورات ولموجات التغيير تحت ضربات القصف الإعلامي المكثف وتحت تأثير رعب الفوضى الذي أحدثته الأزمات الاقتصادية وجماعات العنف المسلح.

صحيح أن ترسيخ قواعد الحرية وتثبيت أركان الديمقراطية يحتاجان عقودا وأجيالا لتتحول من منجز ثوري إلى طبيعة مجتمعية وثقافة شعبية لا يمكن الاستغناء عنها. صحيح أيضا أن التربة العربية لم تكن مؤهلة للمحافظة على الثورات ومنع انزلاقها نحو العنف المسلح كما حدث في ليبيا وسوريا خاصة. لكن كيف يمكن تفسير تساهل الشعوب مع الانقلاب على ما ضحّت من أجله لعقود طويلة؟

 لا شك في أن الشعوب لم تراكم من الوعي والإدراك الجمعي والقدرة على الحركة ما يسمح لها بمنع الاستيلاء على أول أبواب التغيير لذا نجحت الثورات المضادة بسهولة كبيرة في تصفية منجز التغيير.

خيانة النخب

عن قصد وأحيانا قليلة عن غفلة ساذجة ساهمت النخب العربية في إسقاط كل موجات التغيير التي عرفتها المنطقة منذ مطلع القرن السابق بما في ذلك المشاريع التي أعقبت فترة مغادرة المحتل العسكري لبلادها. كان الفشل السياسي ذريعا في تصفية بقايا الاحتلال وفلوله وفي صياغة مشروع نهضة قادر على أن يُلحق بلاد العرب ببقية الأمم الصاعدة.

تمترست النخب الفكرية العربية وراء أيديولوجيات كسيحة عقيمة مستوردة من قومية وشيوعية ولبرالية انتهت جميعها في حضن الأنظمة الاستبدادية الحاكمة وتحولت سريعا إلى حارس من حراسها. انفرد العسكر بأهم الحواضر العربية في مصر والعراق وسوريا وليبيا والجزائر فصاغ أبشع المنظومات الاستبدادية وتفنن في حياكة أبشع الأجهزة القمعية فقتل الحريات وقمع الاختلاف وشيّد صرح الزعيم الواحد الأحد.

كأننا نتحرك داخل دائرة مغلقة وهو ما يؤكد أن طور الاستبداد العربي ذاهب إلى نهايته وأنه لا بد أن يستكمل كامل دورته التاريخية والحضارية. بناء عليه فإن الأمل في قدرة هذا الجيل أو الجيل الذي يليه على صناعة التغيير تبدو ضعيفة جدا لأسباب عديدة يطول سردها.
أما الإسلاميون وهم تقريبا الفصيل الأصيل الأبرز الذي نبت داخل الحاضنة العربية فلم يختلفوا كثيرا عن سابقيهم في فشل الإنجاز وغياب روح المبادرة والعجز عن تفادي الاصطدام مع حَمَلة السلاح. نجحت الأنظمة في اختراق أغلب فصائلهم وصنعت لهم نظائر مشابهة مسلّحة بالتطرف والعنف لتبرير قمعهم فتحوّل الصراع من صراع بين الشعب والنظام إلى صراع بين الإسلاميين والنظام.

دفعت المجتمعات ثمنا ثقيلا نتيجة هذا الصراع وهو الصراع الذي هيمن على الحياة السياسية العربية منذ الثمانينيات وصولا إلى ثورات الربيع دون إحراز تقدم في طبيعة المواجهة.

تجديد لا بد منه

هل استوعبت النخب الدرس؟ هل فهمت الشعوب حجم المؤامرة وخطورة المنزلق الذي تتجه نحوه؟ كل المؤشرات تدل على أن دار لقمان لا تزال على حالها وأن لا أحد استوعب الدرس. ما الحل إذن؟

كأننا نتحرك داخل دائرة مغلقة وهو ما يؤكد أن طور الاستبداد العربي ذاهب إلى نهايته وأنه لا بد أن يستكمل كامل دورته التاريخية والحضارية. بناء عليه فإن الأمل في قدرة هذا الجيل أو الجيل الذي يليه على صناعة التغيير تبدو ضعيفة جدا لأسباب عديدة يطول سردها.

لا تزال النخب العربية تراوح في نفس الإطار الفكري الذي ينتظر الإصلاح دون العمل عليه فلم نر أي فصيل سياسي أو فكري عربي بما فيهم الإسلاميون قد بادر إلى مراجعات فكرية عميقة بناء على ما حصل من فشل وانكسارات كان هو أحد أهم أسبابها. إن غياب مشاريع التغيير وغياب الآليات القادرة على تفعيل هذه المشاريع اقتصاديا وثقافيا واجتماعيا وسياسيا هو الذي يدفع الشعوب نحو هذا الهدوء اليائس من التغيير وكأنه ينتظر معجزة لن تأتي أبدا.

لا يمكن إحداث تغيير حقيقي في البلاد العربية دون تجديد شامل يشمل النخب والأفكار ووسائل العمل الجماعي. لا بد من تجاوز الأيديولوجيات السياسية العقيمة التي لم تورّث المنطقة وشعوبها إلا الموت والانقلابات والفساد وهو الأمر الذي لا يكون ممكنا دون إعداد الأرضية اللازمة لأجيال التغيير القادمة.

من الصعب جدا أن تقبل النخب العربية وزعامتها المريضة بعشق السلطة أن تغادر بهدوء وهي تدرك جيدا أنها صارت اليوم جزءا من المشكل لا جزءا من الحلّ. كيف تقنع القيادات الإسلامية والقومية واليسارية واللبرالية أنها انتهت تاريخيا واستُهلكت فكريا وأنه يجب عليها الرحيل؟

إن أم المعارك القادمة لا تتمثل في تحرير الشعوب من الأنظمة الحاكمة بل تتمثل أولا وقبل كل شيء في تحرير المجتمعات والشعوب من نخبها التي هي حزام أحزمة الاستبداد وأول شروط بقائه.
التعليقات (2)
كمال
الخميس، 28-09-2023 08:06 م
يبدو ان الدكتور يقدم صورة قاتمة عن المستقبل العربي وهو الذي ضل يدافع عن اطروحة ان التغيير قادم وان النخب السياسية وصناع القرار مصيرهم الى مزبلة التاريخ لكننا للاسف نلحظ في المقال الذي بين ايدينا ان الكاتب متشائم، هل هذه قراءة جديدة للاحداث على ضوء مستجدات جديدة لاننا لم نعهد هذه النبرة التشاءمية في مقالات الكاتب ولا في خرجاته الاعلامية
محرك الأمة
الخميس، 28-09-2023 12:59 م
التاريخ يشهد أن هذه الأمة جمعها الدين مرة فأصبحت أمبراطورية تبدأ عند مشرق الشمس و تنتهي عند مغربه تخلت عن الدين فأصبحت حفر و مغارات هل ستعود؟ أكيد، متى؟ عندما تستعيد محركها؟