مقالات مختارة

الأديان بريئة من أزمات الشرق الأوسط

سمية الغنوشي
1300x600
1300x600
لو كنت قد حصلت على قرش واحد فقط في كل مرة قيل لي إن الدين هو سبب كل المتاعب لكنت من الأثرياء اليوم، ولو كان عالمنا شبيها بذاك الذي يتغنى به جون لينون، بلا أديان، ولما نشبت حروب ولا صراعات ولعاش البشر متحابين متوادين.. ولو أن علماء الدين والأئمة الملالي، والكهنة اتفقوا، لحلت مشاكل العالم بجرة قلم.

مما لا شك فيه أن الدين يلعب دورا محوريا في العديد من الأزمات والصراعات الملتهبة من حولنا، ولكن في أغلب الأحيان، تكتسب هذه الأزمات طابعا دينيا وتتحدث باسم الدين، رغم أن جذورها اجتماعية وسياسية.

الأمثلة على النزاعات التي تتلبس بلبوس الدين كثيرة من بينها النزاع حول إيرلندا الشمالية والصراع العربي الإسرائيلي، فرغم كون الأطراف المتنازعة تنتمي لجماعات مذهبية متباينة، الكاثوليك والبروتستانت واليهود والمسلمون/المسيحيين، ولكن النزاع بينها لم يندلع نتيجة لعقائد هؤلاء أو انتماءاتهم الدينية، بل يعود لأسباب سياسية تختفي وراء ستار الدين والثقافة والهوية.

غالبا ما يكون الدين مرآة تعكس التوترات الدنيوية، والقول بأن الدين عامل انقسام، يحمل في طياته مواربة تنأى عن طرح أو تحليل حقيقي لمشاكل الواقع، وكأننا بذلك نقف عند سطح النزاع متخاذلين عن بذل أي جهد للغوص والتعمق في جوهر المشاكل والأزمات والصراعات.

خذ على سبيل المثال موجة العنف الطائفي التي تستعر في العراق منذ أكثر من عقد من الزمن حيث يتربص الشيعة بالسنة والسنة بالشيعة ويقتل بعضهم بعضا. الأفضل لك إن كنت تبغي السلامة ألا تتجول في منطقة سنية إن كان اسمك "حسن" أو "علي" والأرجح أن يفتك وينكل بك إن كان اسمك "عمر" وضللت السبيل في بغداد حتى وجدت نفسك في مدينة صدر الشيعية.

ولكن دعونا لا نتوقف عند هذا الحد، ولنسأل تلك الأسئلة الصعبة التي يحجم البعض عن إثارتها، فلماذا يقتل العراقيون سنة وشيعة بعضهم البعض اليوم، ولم يفعلوا ذلك منذ زمن؟ لماذا كانوا قادرين على التعايش مع بعض حينها ويجدون أنفسهم اليوم عاجزين عن التعايش المشترك؟ كل قبيلة وعائلة عراقية تضم أفرادا ينتمون لكلي الطائفتين، لقد اختلطوا وتزاوجوا وعاشوا جنبا إلى جنب، ليس فقط تحت سقف واحد، بل غالبا أزواجا في فراش واحد، واستمروا على هذه الحال حتى في ظل حكم صدام الاستبدادي وقبله بعدة قرون. لقد كان العراق أحد أكثر البلاد تنوعا في العالم، كان فسيفساء حقيقية تضم نسيجا من مختلف الأديان والأعراق والمذاهب والطوائف، المسلمين والمسيحيين والصابئة واليزيديين والسنة والشيعة والأكراد والتركمان، جميعهم يتعايشون بشكل مشترك، ويتقاسمون أرضا واحدة.

هكذا كان العراق في الماضي، ولكنه لم يعد كذلك اليوم، منذ الغزو الأمريكي- البريطاني وسلطة بريمر الانتقالية، التي دمرت نظام العراق السياسي، واستعاضت عنه بنظام يرتكز على المذهبية والطائفية العرقية. هُشمت الهوية الوطنية، ومُزّق التعايش المشترك، ولم تبقَ سوى الولاءات والانتماءات لمجموعات طائفية ضيقة، وفي ظل الفوضى التي أعقبت ذلك، تسابق كل فصيل للاستيلاء على كل شيء، وسلب البقية من كل شيء. وساعد تشكيل قوات الأمن والشرطة في العراق الجديد على أسس طائفية على سكب الزيت على النار، فمنحت طائفة واحدة الأدوات والأسلحة التي بادرت إلى استخدامها لاحقا للقضاء على خصومها.

لا ليس المذهبان الشيعي والسني هما الملامين والمجرمين في حق العراق بل بوش وبلير وبريمر الذين قوضوا وحدته الوطنية ووضعوا طائفة في مواجهة الأخرى تفتك بها وتسعى لاجتثاثها.

الأمر ذاته ينطبق على اليهودية والمسيحية والإسلام في إطار الصراع العربي الإسرائيلي؛ فالفلسطينيون والإسرائيليون يلجؤون إلى الرموز والمرجعيات الدينية للتعبير عن النزاع الدائر بينهم وعقلنته وتبريره، على أرض متخمة بالمعاني المقدسة لكلي الجانبين. ولكن الصراع في الحقيقة لا يدور حول مسجد أو كنيسة أو معبد، رغم الحضور المكثف لهذه الأيقونات في إطاره، ففي المقام الأول، وقبل كل شيء، النزاع يجري حول أرض مغتصبة واستعمار استطاني متوحش، وإرادة للتحرر في مواجهة مشاريع لفرض واقع الاحتلال بالقوة. العلاقة القائمة هي ما بين مستعمِر ومستعمَر أكثر من كونها علاقةً بين يهودٍ ومسلمين ومسيحيين، وبذور الصراع لا تكمن لا في القرآن ولا في التوراة بل في وعد بلفور وإستراتيجيات القوى العظمى التيصنعت هذه الدراما الأليمة المتواصلةَ وخطّت مسارها.

يمكن الاستشهاد بالعديد من الأمثلة لتبيان سطحية تعليل الظواهر والحركات الاجتماعية والسياسية من خلال المنظور الديني الحصري، ابتداءا من حركات الإصلاح في القرن الـ16 في أوروبا، وانتهاء إلى التطرف الإسلامي المستشري في القرن الـ21. ليس الدين أصل كل الفضائل، ولا سبب كل الشرور. الظروف الجيدة تشجع تأويلات جيدة للدين: هادئة منفتحة ومتسامحة مع التعدد والإختلاف، والظروف السيئة تعلي كفة القراءات السيئة للدين، حيث يغلب التعصب والتطرف ورفض الآخر.  شرور الواقع وتشوهاته لا تبقى في المستوى المادي فقط بل تتحول إلى رؤي دينية مريضة ومشوهة. ليس القرآن ولا العقيدة الإسلامية من صنعا القاعدة وداعش بل التدخلات العسكرية المدمرة والاحتلال والفوضى المدمرة لوحدة المجتمعات العربية وتوازنها.

البشر والمجتمعات ليسوا صفحات فارغة، بل هم حاملون لتراث ثقافي ورمزي وتاريخي عميق، يتواصلون من خلاله، ويضفون على واقعهم المعنى والقيمة، وهذا المستودع الراسخ من الصور والمرجعيات، يتم استدعاؤه في أوقات السلم كما في أوقات الحرب، ولكن يحضر بشكل أكثر كثافة في خضم الحروب والاضطرابات، فتسيقظ الهويات الثقافية والدينية والوطنية وتستنفر.

هذا لا يعني أن نقول، كما قال ماركس، إن الدين هو وهم عديم الجدوى، بل هو جزء لا يتجزأ من الذاكرة الجماعية ووعي الجماعات والأفراد، من خلاله يسبغون معنى على تجاربهم ومبررا لأفعالهم. فالدين يعمل بصمت في ظل الاستقرار والهدوء، ولكنه يصبح أكثر صخبا ووضوحا، وأحيانا أكثر تفجرا ودموية خلال الأزمات والاضطرابات. لا يوجد دين سلمي في حد ذاته، ولا دين عدواني في حد ذاته. خذ المسيحية، على سبيل المثال، فهي التي دعت إلى الزهد والتنسك وانكار الذات، وهي أيضا من أشعلت لهيب الحروب الدينية الدامية في القرن الـ16 ودفعت بالآللاف إلى أتون الحروب الصليبية.

باختصار، لا يجب أن ننظر للواقع وتعقيداته من خلال الأفكار والعقائد والرؤى،فالبشر يمشون على أقدامهم لا على رؤوسهم.

(عن الهافينغتون بوست)
0
التعليقات (0)