قضايا وآراء

عقرب الزيارة

هاني بشر
1300x600
1300x600
(1)

نهار خارجي

السحب تركض في الفضاء الرحب ركض الخائفين ****والشمس تبدو خلفها صفراء عاصفة الجبين

تصل أفواج الزائرين أمام بوابة حديدية أكل الصدأ أطرافها، واصطف القادمون في طوابير طويلة انتظارا للموعد المرتقب.

لا تقوى الأمهات على حمل حقائب الزاد البسيط. يرافق بعضهن صبي أو صبية يهوِّن ثقل الحمل، وأخريات يضعن الأحمال فوق الرؤوس كعادة المرأة في الأرياف، وكثيرات يقفن وحدهن بلا سند. بعضهن يفترشن الأرض وبأيديهن جرائد مهترئة يدارين بها قيظ الشمس.

طبقات اجتماعية شتى، جمع نسوتها صف طويل واحد. تمر الثواني وكأنها سنين طوال في انتظار لا معنى له ليجود أحد عساكر السجن عليهن بالدخول بعد أن بلغ التعب بهن مبلغه.

هي المرحلة الأولى فقط من التعب والانتظار، عنوانها الباب الرئيسي لمجمع السجون، وهناك مراحل أخرى من العذاب والمعاناة تبدأ قبل دخول الفجر، فالأوامر أن يأتين قبل الثامنة صباحا.

يأتين ولكن يطول الانتظار، ولا يهوِّن الأمر سوى مجرد أمل برؤية ذلك الغائب خلف الأسوار، فكل شئ غير مضمون.

الزيارة غير مضمونة ولو مصحوبة بتصريح من النيابة، والوصول إلى باب السجن غير مضمون لأن الزحام غير معقول، وكل شئ يتم بلا منطق، فكلهن ضحايا مع اختلاف الدرجات.

هذه دخلت، فحالها أحسن من تلك، وتصيح واحدة في الجندي: يا بني أتيت من بعيد ولا طاقة لنا بتكاليف زيارة أخرى، أدخلنا أكرمك الله، لكنه يشيح عنها بوجهه، وتبقى أخريات في مثل حالها يكظمن الغيظ ويصيح الصمت من بين العيون الغاضبة.

(2)

نهار داخلي

لا يفهم الأطفال مغزي تفتيش تلو آخر في مبنى كئيب يسمى سجن العقرب. بوابة إليكترونية تلو أخرى. وانتظار تلو انتظار. يعرفون آخر بوابة. تلك التي يفتح شخص مقضب الجبين طبق الطعام  ويقسم ما فيه إلى اثنين. نصف يرجعه مع أمهاتهم والآخر يدخل لأبيهم. وكلمة تتكرر في كل زيارة. ممنوع الملابس.ممنوع فرشات الأسنان. ممنوع الفواكه. ممنوع الساعات. ممنوع. ممنوع. لا تمل الأمهات من السؤال ولا يمل هو من تلك الإجابة.  

وبعد ساعات طوال، يطل الغائب من خلف الحاجز الزجاجي. كأنه الكوكب الدري في الأفق يلوح. الأبنة الكبرى تلوح والأم تلتقط سماعة الاتصال. تسابق الزمن لتطمئنه عن الأسرة فردا فردا. لا يمل هو أيضا من الأسئلة. تدور عينيه على وجهها ووجه الأبناء وملابسهم.

الشوق تفضحه العيون. فالعيون السجينة تشتاق للألوان قدر اشتياقها لوجوه الأحبة. لم تخلق العيون لتصطدم بحوائط خرسانية طوال الوقت. يظهر التماسك ويحاول مداعبة الأطفال بالإشارة. مضت دقيقة، هي نصف الوقت. يسارع في طمئنتها على حاله. ويلهج لسانه بالدعاء لها وللأبناء. تدفع هي الصغيرة للسلام على أبيها. لا تستطيع. مضت شهور لم تره. أصبح كالغريب.

تأمل الأم لو يستطيع أن يلمس ابنته ولو لمرة، فقد يعيد وصل ما انقطع. تكتم خوفها أن يطول الغياب ويصبح الأب غريبا بحق عن الصغيرة. تحمد الله أن ذاكرة الكبيرة لا تزال تحمل ذكريات اللعب والحب يذكرها به رغم الفراق القسري. لم ينته الكلام. مجرد سلام. وقطعوا الاتصال عن السماعة. تلوح بيديها ويلوح بيديه. والدمع في المآقي في سجنه محبوس هو الآخر. 

(3)

ليل داخلي

لا فـرق عند الليل بين النهـر والمستنقع****يخفي ابتسامات الطـروب كأدمع المتوجعِ

أفل الزائرون إلى بيوتهم بعد يوم عصيب، وأرخى الليل سدوله على المدينة وعرفت بحلوله كل الكائنات، ماعدا هؤلاء القابعين في زنازين وراء الشمس.

لا يعرفون ليلا من نهار. يتحكم السجان في ضوء الزنازين الانفرادية. أجساد نحيلة تغطيها غلالة رقيقة من ملابس السجن.  يغلف طيف دقائق الزيارة خيال من زاروهم. ترتسم أوجه الأهل والأطفال على جدر الزنزانة. يأتي الهواء معطنا عبر أنابيب تصل لأعلى الزنزانة. يصادر السجان بين الفينة والأخرى شفاط الهواء إمعانا في التكدير والتعذيب، فيقل الهواء وتزداد البرودة.

أحد الأكياس معلق على الحائط به القليل مما تبقى من نصف وجبة الزيارة التي وصلت اليوم. يحتل الكيس مكانا بارزا في الزنزانة بعدما صادروا الغطاء وقطعة كرتون طولية كانت تستخدم بديلا عن السرير. صنبور صغير قابع في طرف المكان لا يسلم من الأذى هو الآخر. فقطع المياه سلاح السجان للعقوبة.

لا يزال شعاع الشمس الذي لمحوه أثناء خروجهم للزيارة يداعب ذاكرتهم ويذكرهم بوجود هذا النجم الذي يضيء الدنيا فقد أوشكوا أن ينسوه بسبب طول الحرمان منه. هؤلاء كانوا أحسن حالا ممن حرموا من دقائق الزيارة وعليهم أن ينتظروا أسابيع وربما شهورا قبل أن تفلح محاولة ذويهم القادمة في الدخول.
التعليقات (1)
ام لصيدلي وب علوم داخل العقرب
الإثنين، 11-01-2016 07:07 م
كانك داخل العقرب يا استاذ هاني