كتاب عربي 21

لماذا يريد الفراعنة الصغار طحن أمّهات المسحوقين؟!

ساري عرابي
1300x600
1300x600
من الممكن سرد عشرات الأسباب القادرة على تفسير سلوك الطغاة الكبار، من السادة والكبراء الذين اتُّبِعوا، في احتقارهم للناس واستباحة كل ما يخصّهم جسديّا ونفسيّا وماديّا، ولكن الأمر ليس كذلك حين محاولة تفسير سلوك التافهين الصغار من أتباع هؤلاء الكبار، إذ وباستثناء الحالات التي يجتهد فيها التافهون الصغار في إثبات الولاء لسادتهم بمضاعفة التنكيل بالنّاس من خصوم السادة، فإننا سوف نتوقف كثيرا بالتفكير حينما يكون التنكيل خارج تلك السياقات.

الذين دخلوا تجربة الاعتقال السياسي لدى أجهزة الدول القمعية، وبلا استثناء، كانوا يلاحظون أن الجنود الصغار، يتبرّعون من تلقاء أنفسهم، وبما يفوق الأوامر المعطاة لهم، بمضاعفة التنكيل بالمعتقلين السياسيين وإهانتهم، وفي هذا السياق كان يمكن اكتشاف العديد من الأسباب والدوافع.

في السجون ومراكز الاعتقال والتعذيب، قد تفشو في ظروف معينة أجواء من الشكّ والريبة، تدفع الجندي الصغير، والضابط الصغير، (وكل ضابط صغير ما دام هناك من هو أعلى منه)، تدفع أمثال هؤلاء لمضاعفة استهداف المعتقل، بالتعذيب والإهانة والازدراء والتحقير والتضييق عليه، لسبب مركّب من إثبات الولاء ودفع التهمة، وهي أعراض عقد نقص، ولكن المريع في الأمر، أن هذه العقد لا تغادر أحدا، إذ ما من كبير إلا وفوقه كبير! 

وهكذا يكون سبيل أمثال هؤلاء، لتسكين اضطراباتهم النفسية في الحدّ الأدنى، وللترقّي في الحدّ الأعلى، باستباحة المستضعفين من خلق الله، ويمكننا هنا ملاحظة طبيعة هذه النفس، التي تجدُ أن سبيلها للحفاظ على مكانتها، أو ترفيع مكانتها، بالاستقواء على منعدم القدرة، إذ لا ينعدم التكافؤ، بل تنعدم القدرة المقابلة، ثم يمكن لنا أن نتخيل مرة أخرى، هذه النفسية التي تجدُ المَجدَ كله، في جَلْد إنسان مقيد!

وفي السجون ومراكز الاعتقال والتعذيب، يجامل التافهون الصغار سادتهم بإظهار القسوة الشنيعة في معاملة المُقيَّدين، أو بإظهار الانبساط بأنّات وأوجاع المعُذَّبين، ثم تتحول هذه المجاملة إلى نمط استعراضي دائم، أو إلى سجية في السلوك، ويكاد الاستعراض يطبع سلوك هؤلاء، في نبرة الصوت، وطريقة المشي، ونوع النكات، وهيأة الضحكة، وشكل العبوس، وبطبيعة الحال في التعالي على المُقيَّدين، ويمكن لنا هنا أن نتخيل مجدّدا هذه النفسية التي تصطنع الاستعلاء على سجين معدم القدرة، ولكنها مسكونة بالذّل كله بين يدي الرتب الأعلى، وهكذا تستمر سلسلة التراتبية العجيبة!

في كل حَلْقة من هذه السلسلة يُقلّد الصغار الكبار، حتى يتحول التقليد إلى تماه تام، ثم يتحدد السلوك في عدد من المشاهد المعروفة، من الانتقال من التعالي على المسحوقين والمعدمي القدرة، إلى التذلل والخضوع التامين في حضور الكبار، ومن نافلة القول إن الظروف السياسية وأجواء التعبئة وشحن الأتباع تزيد من شراسة الصغار، ومن رعونتهم، وتعزز من نزعتهم الاستعراضية في إيذاء معدمي القدرة من سجنائهم.

لكن أي شيء، يجعل الجندي الصغير، بمثل هذه القسوة، أو حتى بما يزيد عليها في سياق آخر، خارج السجون ومراكز التعذيب والاعتقال، وبعيدا عن ظروف التعبئة السياسية، كأن يطحن مواطنا فقيرا بلا أي انتماء سياسي، فقط لأن هذا المواطن قرّر أن يدافع عن لقمة عيشه، أو رفض أن يدفع رشوة لهذا الجندي، أو لهذا الضابط، وكما سلف وقلنا، فإن كل ضابط صغير ما دام هناك من هو أعلى منه!

في الشارع، وكما في حالة الشهيد المغربي محسن فكري، الذي طحنته شاحنة نقل النفايات مع عربة أسماكه التي دافع عنها بجسده ثم بروحه، وبأمر من ضابط أمر سائق الشاحنة بأن "يطحن أمه"، يصير المشهد غاية في الشذوذ والغرابة، إذ لا تفسير لهذه الدرجة من الاستهانة بحياة إنسان فقير معدم، بل والإصرار على سحقه سحقا ماديّا بكل ما في الكلمة من معنى!

لسنا هنا في سجن أو مركز تعذيب، ولسنا إزاء سجين سياسي، ولا معنى لإثبات الولاء أو تملق الكبار بسحق عظام فقير في الشارع يبحث عن رزقه، لاسيما وأن خيارات "التفرعن" الصغير متاحة، من مصادرة العربة، أو إتلافها، أو ضرب صاحبها، أو اقتياده للسجن، ولكن الإصرار على سحقه، بل وسحق أمّه، أمر مخيف ومرعب، لا يكاد يهتدي المرء إلى تفسير له!

ما الذي ينزع من الإنسان كل دواعي الخير، ويجبله بالشر والقسوة إلى هذا الحدّ لمجرد أنه امتلك سلطة ما، مهما كانت صغيرة وتافهة وبائسة، إلى درجة سحقه لإنسان آخر بلا أي تردد أو تفكير، بل وبإصرار مثير للدهشة؟!

شرحت مقدمة هذه المقالة شيئا عن نفسية "الفرعون الصغير التافه"، المتعالي في مكان والذليل في مكان، وما يتولّد في هذه السلسلة من نمط استعراض يطبع سلوك الجميع بمتلازمة القسوة والذلّ، ولاسيما، وأن ما من "فرعون صغير تافه" إلا وهو جزء من عائلة، ومن حي، ومن وسط اجتماعي ما.

إن ذلك يعني أن المجتمع كله، سوف يتأثر بتراتبية الذلّ والطغيان هذه، حتى لا تكاد تخلو نفس إنسان من تمني فرصة لتقليد الذين يلون من الفراعنة، والذين فوقهم من الكبار.

وهكذا إن أتيحت الفرصة، وهكذا يقلّد الصغار غيرهم، وهكذا يتشرب الجميع مفهوم السلطة: فساد، وبطش، واستعباد، "إما أن تعطيني الرشوة، وإما أن أطحنك مثل النفايات"، وهكذا يرى "كل فرعون" من دونه، شيئا من النفايات، زائدة غير ضرورية، يمكن التخلص منها بكل هذه البساطة، بل وعلى الحقيقة فإن هذه هي الأفكار التي يسقيها الكبراء والسادة لأتباعهم، والتعاليم التي يلقنوهم، وهكذا تقوم الدولة على تراتبية الذلّ والطغيان!
0
التعليقات (0)