قضايا وآراء

الأسئلة الاستفهامية والأسئلة البلاغية: مدخل مختلف لفهم الواقع التونسي (1)

1300x600

لو أردنا حصر الإشكال في الثقافة "الشعبية"، فقد يكون من المغري أن نتّبع تلك القاعدة المشهورة التي تقول، إنّ المجتمعات لا تطرح على أنفسها إلا الأسئلة التي تستطيع الإجابة عنها، ولكنّ هذه القاعدة تحتاج بالضرورة إلى تنسيب عندما يكون موضوع حديثنا هو رموز الثقافة "العالمة" في تونس، خاصة أولئك الذين يدّعون "الطليعية" و"التقدمية" و"الإنسانية"، سواء في ذلك "إنسانية" الإسلاميين أو "إنسانية" الحداثيين. وقد يكون من المفهوم أن تعجز النخب في مختلف الفضاءات الحضارية، عن التكيف السريع مع بعض القطائع الكبرى (المعرفية خاصة)، ولكن أن تعجز تلك النخب (مهما كانت مرجعياتها الأيديولوجية) عن أن تكون في مستوى "القطيعة الجذرية" التي أحدثتها الثورة التونسية، وما أدخلته من"ممكنات" في الزمن السياسي التونسي، بل في الزمن السياسي العربي والإنساني في لحظته المُعولمة، فذاك أمر يستحق التوقف عنده بحكم دوره المؤكد في ما آلت إليه الأوضاع.

ورغم محاولة الكثير من الخطابات أن تظهر بصورة "القارئ" المحايد لحركة الواقع وقوانينه الاجتماعية "الحتمية"، فإنّ ذلك لا يحجب عنا حقيقة أنّ ما يحصل في الواقع ليس "حتمية" تاريخية، وإنما هو مجرد إمكان تاريخي استطاع أن يفرض نفسه (وأن يُهمش نقائضه أو بدائله)، ليظهر في صورة القدر الذي لا مهرب منه. وبحكم إيماننا الراسخ باللاحتمية في التاريخ (إذ كل ما يطرح نفسه باعتباره حتمية هو مجرد إمكان كُتب له الانتصار واقعيا وخطابيا)، فإننا نطمح في هذا المقال بجزأيه إلى فهم الواقع التونسي، باعتماد نموذج تفسيري مختلف عن النماذج السائدة، وهو نموذج سنحاول اختبار قدراته التفسيرية بالاحتكام إليه في تدبر الواقع التونسي.

 

هل أثرت الثورة التونسية حقا على خطابات النخب، بصورة تجعلها تنعتق من الزمن الاستبدادي ورهاناته وشبكات مصالحه الواقعية، التي حددت بصورة كبيرة "سقف" التفكير ودوره قبل الثورة؟


يعود طرحنا للأسئلة الاستفهامية والبلاغية في هذا المقال، إلى استقراء أداء أغلب النخب التونسية بعد الثورة. فغلبة الصراع الهووي والمعجم الثقافوي وتدهور الوضع الاقتصادي والاجتماعي، بالإضافة إلى تعثر مسار الانتقال الديمقراطي على أكثر من واجهة، وعودة "السردية البورقيبية" لتحتل مركز السلطة السياسية والثقافية، والتهديدات الجدية التي تظهر بين الحين والآخر للحريات الفردية والعامة، سواء أكان ذلك من طرف أجهزة الدولة أم من طرف غيرها.. كل ذلك دفعنا إلى طرح السؤال المحوري التالي: هل اختلفت أسئلة أغلب النخب التونسي بعد الثورة وأجوبتها عن تلك الأسئلة والأجوبة التي كانت تحكم خطاباتها وتُوجّهها قبلها؟ ولو أردنا صياغة هذا السؤال بصورة أخرى، فإننا نطرحه بالصورة التالية: هل أثرت الثورة التونسية حقا على خطابات النخب، بصورة تجعلها تنعتق من الزمن الاستبدادي ورهاناته وشبكات مصالحه الواقعية، التي حددت بصورة كبيرة "سقف" التفكير ودوره قبل الثورة؟

ولو أردنا تعريف الأسئلة الاستفهامية بصورة مبسّطة (وهي موجودة عند المشتغلين على النصوص مهما كانت أنواعها)، فإننا سنقول إنها تلك الأسئلة "الشجاعة" التي لا تفترض إجابات مسبقة، فتنفتح على كل الأجوبة التي قد تفاجئها وتخلخل قناعاتها الإيمانية ومسلّماتها المعرفية، بل تنفتح حتى على تلك المناطق من اللامفكر فيه، التي قد تزلزل رؤيتها للفضاء الاجتماعي وللعالم ولمنزلتها الحقيقية (لا المتخيلة أو المشتهاة) فيه. والأسئلة الاستفهامية بهذا المعنى هي أسئلة "إنشائية" تخلق عالما لا يدعي التحرر من مبدأ الرغبة، ولكنه بالضرورة سيكون متحررا من سلطة الواقع والقوى المهيمنة عليه. أمّا الأسئلة البلاغية فهي مجرد أجوبة مقنّعة أو هي صياغة استفهامية لأجوبة موجودة مسبقا لدى الذات المنتجة للخطاب، سواء أكانت تلك الذات تدافع عن مصالحها المادية والرمزية الخاصة، أم عن مصالح الجماعة التي تنتمي إليها، ولذلك فهي بالضرورة لا تجد إلا ما تريد الوصول إليه أو ما تطيق التعبير عنه وتحمّل كلفته/ مخاطره الفردية والجماعية. والأسئلة البلاغية هي بهذا المعنى أسئلة "خبرية"؛ لأنها ترضى بأن "تُخبر" عن الواقع وتُبرره بطريقة استفهامية مخاتلة، ولا تقبل التشكيك في هذا الواقع وتراتباته ومقدساته، المعلمنة أو الدينية، أي لا تقبل بمساءلة الواقع ونقده جذريا، بل لا تقبل حتى بنقده بمنطق إصلاحي متدرج.

إن التعاطي مع الشأن التونسي وغيره من الشؤون الإقليمية بثنائية الأسئلة الاستفهامية والأسئلة البلاغية، سيُحررنا من سلطة الكثير من الخطابات المتصارعة التي أظهرت محدوديتها، بل أصبحت (بحكم ما يطبعها من أدلجة وتحزّب) جزءا من آليات الارتداد النسقي عن أغلب الممكنات التحررية التي أوجدتها الثورة التونسية. ذلك أنّ الخطابات المهيمنة على الساحة (بإسلامييها وقومييها ويسارييها وبورقيبيها)، قد أصبحت ذات دور "تبريري" لا تفسيري، أي إنها قد تحوّلت في أغلبها إلى أداة توظَّف في خدمة بعض الجماعات والأحزاب، لا في خدمة مشروع وطني جامع. وهو ما يعني أنّها قد تحولت إلى "ماكينات" لطرح الأسئلة البلاغية وتهميش الأسئلة الاستفهامية وتتفيهها، ومحاربة كل من يجترحها ولو على استحياء.

وقد أردنا هذا الجزء الأول من المقال مجرد تمهيد نظري للجزء الثاني، الذي سنحاول فيه إن شاء الله أن نقدم أمثلة عن الأسئلة البلاغية المهيمنة على الساحة، وأن نبين طابعها "اللا وظيفي" من جهة استحقاقات الثورة، وكذلك طابعها المغالطي والمتناقض ذاتيا من جهة ما تنبني عليه من مقدمات. كما سنحاول التدليل على أهمية الأسئلة الاستفهامية، من جهة الانعتاق من سلطة الزمن الاستبدادي، وذلك بـ"صياغة" بعض الأسئلة الاستفهامية المهمشة والمقموعة. ونحن نقول "صياغة" الأسئلة لا وضعها أو اجتراحها؛ لأننا - من جهة أولى - لا نؤمن بالبدء من عدم، ولا بالمنطق المتكفي بذاته والمستعلي على "العقل الحواري"، ولأنّ أغلب تلك الأسئلة موجودة - من جهة ثانية - في الساحة، ولكن بصورة "غير ناضجة"، كما يقول القدماء.