كتاب عربي 21

نجاعة الديمقراطية: إثيوبيا شاهدا

1300x600

عانت إثيوبيا من المستعمر الوطني، أكثر مما عانت من الاستعمار الأجنبي، فهي البلد الأفريقي الوحيد الذي نجا من الاستعمار الأوروبي، فقد احتل الطليان أجزاء منها عام 1936، ولكنهم سرعان ما اندحروا وغادروها بعد خمس سنوات (ليبيريا لم تخضع للاستعمار، لأنها صنيعة الاستعمار، وتم إنشاؤها وطنا لأفارقة كانوا مستعبدين في أمريكا الشمالية).

منذ ثلاثينيات القرن الماضي، آلت مقاليد الأمور الى الإمبراطور هيلاسيلاسي، واسمه الأصلي تفاري ماكونن، وأضيف إليه بعد توليه السلطة لقب راس، وتعني بلغة الأمهرا "الأمير"، واتخذ لنفسه لقب هيلاسيلاسي الأول، ويعني ذلك باللغة الأمهرية" قوة الثالوث"، وفيما بعد أضفى على اسمه لقب "الأسد القاهر من سبط يهوذا المختار من الله ملك إثيوبيا".

ويؤمن أتباع طائفة راستافاريان في جامايكا بأن هيلاسيلاسي إله، وأنه لم يمت، أو أن جسده صعد إلى السماء، واسم الطائفة المنسوب إلى إمبراطور إثيوبيا الراحل هو "راس تافاري".

ورغم أنه نال شرف تحرير بلاده من الطليان، إلا أنه وكما توحي الألقاب التي أضفاها على نفسه، كان يعتقد، بوصفه حفيد النبي سليمان، أنه منزه عن الخطأ وواجب العبادة، ولهذا سام خصوم حكمه أبشع صنوف القهر، ويقال إنه كان يلقي بهم في حال تقرر إعدامهم، في قفص مليء بالأسود في قصره.

سقط حكم هيلاسيلاسي في عام 1974، واستولى على السلطة ضباط يساريون على رأسهم منقستو هايلي مريام، الذي طبق اشتراكية عرجاء كالتي طبقها المشير جعفر نميري في السودان (1969-1985)، فقضت على الزرع والضرع، فرفع معارضوه السلاح، وأطاحوا به، وهو الآن في أرشيف التاريخ لاجئا في زيمبابوي.

تمت الإطاحة بحكومة منغستو على يد الجبهة الديمقراطية الثورية الشعبية الإثيوبية في عام 1991، وصعد إلى مراقي السلطة رئيس الوزراء الشاب ملس زيناوي، الذي وبرغم محاباته التامة لقومية التيقراي التي كان ينتمي إليها، والعبث بصناديق الانتخابات، نجح في تحويل إثيوبيا من دولة متسولة فقيرة غير قادرة على تمويل مشاريعها، إلى دولة معتمدة على نفسها، وقوة اقتصادية صاعدة.
 
بعد وفاة زيناوي في عام 2012، آلت السلطة إلى رئيس الوزراء المنتخب هيلامريام ديسالين، الذي شهدت فترة حكمه تطبيق سياسات ناجعة لجذب الاستثمار وتنويع الاقتصاد الوطني ومحاربة الفقر، ومع هذا فقد أرغمته الاحتجاجات الشعبية على الاستقالة في شباط/ فبراير من العام الجاري، وآلت مقاليد الأمور إلى خلفه الحالي آبي أحمد.


وأن يصير آبي أحمد رئيسا للوزراء، هو أكبر انتصار للديمقراطية في إثيوبيا، فالرجل ينتمي إلى إثنية الأورومو، التي غالب أفرادها من المسلمين، التي ظل الكثير من أبنائها وبناتها يحملون السلاح ضد الحكم المركزي في أديس أبابا، رفضا لتسلط التقراي والأمهرا على القوميات الأخرى.

يشكل الأورومو 34.4 في المئة من مجموع السكان، والأمهرا 27 في المئة، والصومال 6.2 في المئة، والتقراي 6.1 في المئة، ولهذا كان من البدهي أن يرفض أهل "أروميا" احتكار قومية واحدة للسلطة، وجاء انتخاب آبي طويا نهائيا لصفحة دامية أنهكت إثيوبيا بعد أن وضع الأورومو السلاح.

بعد سقوط حكم منقستو العسكري، بدأت إثيوبيا مسارا ديمقراطيا متعثرا، ولكن وكما يقول علماء السياسة، فإن علاج الديمقراطية هو المزيد من الديمقراطية، وهذا ما فعله رؤساء الحكومات الثلاثة منذ عام 1991.

واليوم يعد الاقتصاد الإثيوبي في مصاف الاقتصادات الأسرع نموا في العالم، والأسرع نموا على مستوى القارة الأفريقية على الإطلاق، رغم محدودية الموارد الطبيعية والرقعة الزراعية، حيث بلغ الناتج القومي غير الصافي فيها 79.9 مليار دولار، بحسب تقارير صندوق النقد الدولي لعام 2017، بمعدل 850 دولارا للفرد.

إلى عهد قريب كان الإثيوبيون يعتبرون السودان الفردوس الموعود، ويتدفقون عليه طلبا للعيش الكريم، وفي السنوات الأخيرة، لم تجد رؤوس الأموال السودانية ملاذا آمنا تنتعش فيه وتزدهر إلا في إثيوبيا.

ولكن، حتى يومنا هذا، ما زال بعض أهل الجوار الإثيوبي يستخفون بـ"الأحباش"، بدليل أن هناك في مصر من تكلم عن قصف أهداف في إثيوبيا بالطائرات، لوقف إنشاء سد هيداسي (النهضة) بزعم أنه يحرم مصر من حصتها من مياه النيل، ورغم مشروعية قلق مصر حول حصتها المائية، إلا أن الحديث عن عمليات عسكرية ضد إثيوبيا كان ينم عن جهل تام بالتحولات التي شهدتها إثيوبيا خلال ربع القرن الماضي، إذ لم تعد قوة اقتصادية صاعدة بجسارة وعن جدارة وحسب، بل وأيضا قوة عسكرية ضاربة وضارية.

ولأن الديمقراطي الحقيقي يؤمن بأن الحرية والأمان والاستقرار حق له ولسواه، فقد بادر رئيس وزراء إثيوبيا الحالي أحمد آبي لطي صفحة العداء مع أريتريا، وزار هو مصر وأوفد مبعوثيه إليها مرات عدة، في غضون شهور قليلة لطمأنه قيادتها بأن حقوق بلادهم في ماء النيل محفوظة بموجب المعاهدات سارية المفعول.

ما تشهده إثيوبيا اليوم من أمن اقتصادي واجتماعي واستقرار سياسي، هو الجائزة التي ينال فخر الفوز بها الحكام الذين يؤمنون بأنه "لو دامت لغيرك لما آلت إليك"، وأن الحكم أمانة ومسؤولية، وأن رحم حواء جميع الشعوب خصب ولود، والرسالة هنا موجهة لحكامنا الذين يقولون تلميحا وتصريحا "يا أرض انهدي ما عليكِ قدي".

قيادات إثيوبيا خلال السنوات الثلاثين الأخيرة كانت جميعها شابة، جاءت عبر صناديق الاقتراع، وليس بفوهات البنادق، وضخت دماء جديدة في بلد ذي حضارة عريقة وموارد محدودة، فجددت شباب البلاد، وكانت صادقة في ترديد قول شاعر السودان الكبير محمد المكي إبراهيم: سندق الصخر حتى يخرج الصخر لنا زرعا وخضرة/ ونرود المجد حتى يحفظ الدهر لنا اسما وذكرا.