قضايا وآراء

الحراك الشعبي في مصر ومحنة الإخوان!

1300x600
لم تثر دعوة الفنان والمقاول المصري محمد علي الشعب المصري فحسب، بل تجاوزت ذلك بأن تحوّلت لقضية رأي عام عالمي حول حقيقة فساد السيسي وأسرته.

لم يعد مهما من يكون محمد علي، ولا الجهة التي تقف وراءه أو تتقاطع مصالحها معه، والجهة هنا بالقطع جهة سيادية في الدولة المصرية، ولكن المهم أنّ هذه الدعوة لاقت قبولا وحرّكت الجماهير، في حين فشلت كل الدعوات من قبل، سواء التي تبناها سياسيون أو مفكرون أو علماء دين أو إعلاميون. نعم فقد فشلت على مدى ست سنوات، ولم يستطع الإعلام المعارض أو المحسوب على الثورة المصرية أن يفعل واحدا بالمئة مما فعلته فيديوهات محمد علي عبر جهازه المحمول وباستخدام وسائل التواصل الاجتماعي!

لا شك في أنّ مصر يختلف حالها عن بقية الدول العربية التي في غالبها لم تصل بعد لمفهوم الدول، فهي الدولة العربية الأعرق التي حملت صفة دولة مبكرا، وهي التي صبغت العالم العربي بطابعها التربوي والتعلمي والفني والإداري والديني، والأهم الطابع السياسي وظلّت ملهمة لبقية البلاد العربية سلبا وإيجابا.

ولا شك في أنّ الدول العربية ما زالت مشكلتها أنّها دول ما قبل الدول، وإن كانت المشكلة في مصر تبدو مختلفة أيضا عن بقية الدول العربية، وهي قضية ربما تتفرد بها مصر، وهذه المشكلة أنّ مصر ليست دولة يحكمها العسكر أو أنّها دولة بوليسية، بل هي دولة عسكرية لها رعايا مدنيون! أو كما يقول الأستاذ محمد القدوسي: كل دولة في العالم تملك جيشا إلا مصر جيش يملك دولة!

هذه المعادلة المقلوبة هي التي تجعل من المتناقضات واقعا ومن اللامعقول معقولا، وإذا أراد أصحاب الدولة تغيير من "يديرها" سيفعلون، وإن احتاجوا للعنصر المغيّب الشعب فلن يعدموا الوسيلة!

صحيح أن مصر الحديثة (دولة محمد علي باشا) هي دولة الفرد العسكري، ثم أعادت شبابها عبر انقلاب 1952، ولكن الثابت الوحيد أنّ الجيش لم يتنازل عن حكم مصر منذ ذلك الانقلاب الذي تحوّل إلى ثورة، وإن كانت صفة الثورة تلطيفا للانقلاب، إلاّ أنّ الواقع الذي أفرزته كان ثورة بكل المقاييس، سواء في شكل الدولة أو نظامها أو اقتصادها، وانعكاس ذلك على بنيتها الاجتماعية!

وقد تمخضت عقيدة العسكر عن أنّ الحاكم ابن المؤسسة العسكرية، وليس مهما أن يتفق جميع القادة معه، ولكن المهم ألاّ يؤول الحكم لمدني، ولعل خلاف عبد الناصر ومحمد نجيب كان بسبب رغبة الرئيس محمد نجيب بتسليم السلطة للمدنيين، فكان أن عُزل وعُوقب وغيّب في الحياة، ولم يُذكر في كتب التاريخ الحديث كأول رئيس مصري بعد الإطاحة بالملكية!

جاءت ثورات الربيع عبر حادثة البوعزيزي في تونس وهروب ابن علي، ووقوف الجيش التونسي على الحياد، لتبعث الأمل في نفوس العرب بأنّ التغيير ممكن، وكان أول مكان انتقل إليه التغيير بعد تونس؛ مصر. ولا يخفى على متتبع لحال الدولتين أنّ تونس ومصر هما أكثر البلاد العربية انسجاما، بل هما فقط من يصنفان كدول منسجمة اجتماعيا في العالم العربي، وذلك لغياب العشائرية والطائفية والمذهبية والعرقية، والأقليات فيهما ضمن بحر متماوج بشريا متشابه في كل شيء، ولهذا كان دأب كل من حاول السيطرة عليهما بأّنه سعى للتنافر المناطقي وليس المذهبي أو الطائفي أو العرقي، فضلا عن تشابه آخر وهو وجود دولة عميقة في كلا البلدين، حيث دولة الباي في تونس، ودولة محمد علي في مصر!

لا أحد يستطيع أن يحدد سبب انطلاق الثورة المصرية في 25 كانون الثاني/ يناير، وهو اليوم الموافق لعيد الشرطة، ولا أحد يستطيع أن يعرف محركي الثورة، ولكن قراءة سريعة لواقع ما قبل الثورة يمكن أن نصل لنتيجة أن ثمة جهة داخلية لها مصلحة بالإطاحة بمبارك، وثمة شعورا ثوريا قد سيطر على الشارع المصري، فكنّا أمام حالتين متناقضتين نصف ثورة ونصف انقلاب، فإمّا أن تكتمل الثورة فستقط دولة الفرد "الجنرال" التي وصل عمرها لمئتين وخمس سنوات، أو أن يكتمل الانقلاب فتعيد دولة الفرد تحت رداء قديم جديد "الثورة" وهنا كان صراعٌ جديد، صراع الإرادات، صراع للأسف سقطت فيه القوى الثورية بامتياز بعد أن انحازت فئات لمصالحها، وأخرى التجأت للمؤسسة المتربصة بالثورة!

لم يكن حسني مبارك ليحسب حساب أي طرف مدني في مصر، ولا حتى الإخوان، عندما بدا أنّه على نوع من المهادنة معهم بعد أحداث التسعينيات أو ما بات يُعرف في مصر بأحداث الجماعات الإرهابية، حيث أدّى ذلك لكي يظهر الإخوان نشاطا اجتماعيا غير عادي، بل إن الزلزال الذي ضرب مصر كان حجم مساهمة الجمعيات التابعة للإخوان فيه يفوق حجم ما قدمته الدولة المصرية. وفي انتخابات برلمان 2006 كانت المفاجأة التي جعلت النظام يعيد حساباته في ما يسمى بالديمقراطية الجزئية أو هامش الحرية الممنوح، حيث اكتسح الإخوان مقاعد مجلس الشعب بتسعة وثمانين مقعدا، رغم كل ما يحصل من تدخلات أمنية وتزوير في الأصوات، ما أدى لتخوف "الوريث" المحتمل جمال مبارك، وإعلانه أنّ جماعة الإخوان غير قانونية في مصر، بل هي جماعة محظورة. ولم يتأخر انتقام "النظام" من الجماعة، بل من التيار الإسلامي، فانتهت انتخابات 2010 إلى أن يكون البرلمان دون أعضاء من الجماعة!

ظلال من الحرب الخفية بدت تطفو على السطح بين الإخوان والنظام، والأدق بين النظام الجديد المرشح لقيادته جمال مبارك والإخوان.. أمر كان يراقبه "العسكر" بشكل جيد، أو الدولة الحقيقية والفعلية.. أمر لو تمّ بأن تنتقل السلطة بالتوريث لمدني فإنّها ستعني بداية نهاية معادلة بناء مصر الحديثة! فكانت مصلحة المؤسسة العسكرية إنهاء التوريث "المحرّم" من عسكري لمدني، وإن جاء تحت مسمى التطور الحزبي (الحزب الوطني الحاكم)، لكن "مسموح" توريث السلطة من عسكري لعسكري، وإن جاء من خلال حراك مدني يشرف عليه الجيش وأفرعه المخابراتية!

يُعرف عن الجيش المصري كرهه للداخلية واعتبارها أقلّ مستوى في كل شيء، وقد كانت حقبة حبيب العدلي الأسوأ من حيث صعود نجمه و"بلطجة" أفراد الداخلية على الشعب المصري، فكان الاختيار ليوم 25 كانون الثاني/ يناير بدقة بغية إذلال هذا الجهاز، وربما انهياره، وهذا يعني ببساطة تدخل الجيش! لم يكن حراك يوم الخامس والعشرين من كانون الثاني/ يناير الذي دعا إليه ناشطون عبر "فيسبوك" كافيا لإذلال الشرطة، بل لم يصل الحراك لأن يشكل كتلة حرجة يصعب التعامل معها، فكان لا بدّ من تطوير الحراك الجماهيري، وكان ذلك في جمعة الغضب (28 كانون الثاني/ يناير)؛ هذه الجمعة التي انضم إليها الإخوان والجماعات الإسلامية فشكّلوا الكتلة الصلبة التي كسرت الداخلية، وشجّعت آلاف الشباب للانضمام للثورة، وبدت مصر على موعد مع الثورة؛ ثورة يحميها الجيش ولا يتدخل في منع الناس من التعبير!

الشيء غير المتوقع من جانب راسم الأحداث أن تتطور الأمور إلى ثورة، فكان لا بدّ من الموازنة في عدة أمور، وأهمها الخيار بين مبارك والنظام، الخيار النظام، الخيار بين التراجع خطوة (حتى يتمكن النظام من إعادة انتاج نفسه أو المواجهة مع الثورة التي قد تغير الواقع تماما)، الخيار بين التراجع والعمل على الخداع الاستراتيجي. ولا بدّ لكي يتم ذلك؛ من اللجوء للقوة الناعمة التي تعمل تحت عين الجيش والمخابرات: الإعلام، وشيوخ الدين المصنعين أمنيا، والمعارضة التقليدية التي كانت تشكل ديكورا للدكتاتور، وهي المحلل الشرعي (أمام العالم) لحكم غير شرعي!

حددت المؤسسة العسكرية منذ تطور الثورة المصرية الطرف الذي سيتم التفاوض معه، فكان الإخوان في التحرير، وتحديدا كان الحوار بين مبعوث المؤسسة العسكرية اللواء السيسي وبين د. سعد الكتاتني. ولا بدّ أن كلا منهما يحمل شيئا ما تجاه الآخر. وكان أن تنحى مبارك وأسقط معه نائبه؛ الذي جاء متأخرا ورحل مبكرا بعد أن فوّض المجلس العسكري بإدارة شؤون اليلاد.

احتاجت المؤسسة العسكرية لمن يملأ الفراغ ويدير الدولة ريثما تستعيد عافيتها، فوجدت أن كل القوى المدنية إمّا ضعيفة أو أنّها مصنّعة على عين النظام ولا ثقل لها في الشارع المصري، وكان الخيار المرّ "الإخوان"، وحيث إن الإخوان صدقوا أنّ الثورة نجحت وسقط النظام، فقد أعادوا خطأ 1952 بالتحالف مع العسكر أو الوثوق، بهم لا يهم، وهكذا انصرف المصريون من الميادين غير مبالين بتحذيرات الشيخ حازم صلاح أبو إسماعيل بأن ترك الميادين سيعيد النظام بشكل أسوأ!

كانت مرحلة د. محمد مرسي (رحمه الله) مرحلة تصفية حسابات بكل ما تعني الكلمة من معنى. فقد بدا من تسليم العسكر السلطة لحاكم مدني فاز بانتخابات حرّة ونزيهة؛ أن ثمة علاقة جديدة ستنشأ بين الجيش والسلطة المدنية، وأن ثمة تداولا للسلطة سيحصل في مصر، لكن في الكواليس كان ثمة تخطيطا يتم بأنّ الصراع تحت الأرض متعب للطرف القوي "الجيش"، وكان لا بدّ من أن يخرج التنظيم الذي عمل تحت الأرض لعقود طويلة (حتى بات ظهوره استثناء)، وأن تُعرف مكامن قوته ومناطق ضعفه، ويتم شيطنته وعرقلة عمله وهو في رأس السلطة.

تمّ للمؤسسة العسكرية ذلك، وجهّز المسرح في 30 حزيران/ يونيو للانقلاب على الحكم المدني بعد عام واحد في السلطة، وتمّ ذلك تحت غطاء ثورة شعبية للإطاحة بحكم الإخوان! نجح العسكر بالانقلاب، واستطاع وزير الدفاع خداع الرئيس الذي اختاره ومن ثم الانقلاب عليه، وأن ينهي الاعتصام السلمي في رابعة والنهضة بمجازر لم يعتد المصريون عليها من قبل جيشهم، ليصل "الجنرال المنقذ" للسلطة بعد أن وضع في واجهة الحكم شخصا مدنيا مدة سنة واحدة.

لم يكن السيسي استثناء بما فعل، ولكن الاستثناء هو غياب الحاكم العسكري عن دولته، ولهذا تم القضاء على الحكم المدني تحت ذريعة أخونة الدولة وحكم المرشد والتنظيم العابر للحدود، والتخويف من الإرهاب المحتمل!

المتتبع للجرائم التي حصلت وتحصل للإخوان ومنها تصفية الرئيس المنتخب داخل محبسه وبعده ولده، وحفلات الإعدام التي لا تتوقف يجد أن من يفعل ذلك لا يحسب لهذه "الجماعة" التي يشيطن بها أي حساب، بل إن ما يفعله يصبّ في تخويف الشعب. ولهذا كانت القرارات المقزّمة لمصر، كموافقة السيسي على سد النهضة، وما يمثل ذلك من تهديد لمصدر الحياة وسبب وجود مصر (النيل)، كذلك بيع تيران وصنافير وجعل الممر المحلي ممرا دوليا، ناهيك عن تبديد ثروة مصر وإفقارها وتحميلها ديونا طائلة، وانهيار قيمة الجنيه، وبيع الناس الوهم بحياة أفضل، كل هذا في ظل حكم استبدادي فاق كل عصور من سبقه.. حكم يعد على الناس أنفاسهم.

في هذه الظروف الصعبة ظهر محمد علي المقاول المصري الشاب الذي فضح فساد السيسي وأسرته، وتحوّل لمفجر ثورة جديدة في مصر.

نحن لسنا أمام ثورة ثانية، وإنّما نحن أمام سيرورة ثورية وهذه طبيعة الثورات. فهي تتعرض في غالبها لثورات مضادة تكون في طبيعتها دموية، وتعمد للانتقام من أهل الثورة، ثم تنتهي تلك الموجة وتعود الثورة مرّة أخرى للحركة، وهذا أمر يتوقف على وعي الجماهير ومقدار ثبات الثورة المضادة. ولا شك في أنّ الحالة المصرية معقدة، سواء في موقع مصر الجيوسياسي أو ارتباط جيشها عضويا بجيش الدولة العظمى في العالم، أو تقزيم مصر اقتصاديا، من خلال النهب المنظّم لثرواتها أو الفساد المقونن الذي نشأ نتيجة زواج السلطة والثروة في زمن مبارك، أو التحول الذي جرى في عهد عبد الناصر، أو الانفتاح الذي جاء ردّا على اشتراكية ناصر زمن السادات. عدا عن أهمية مصر عربيا وإسلاميا وأفريقيا، هذه العوامل ربما دفعت وما زالت تدفع قوى إقليمية ودولية لمنع التغيير في مصر؛ لأنّ هذا التغيير سوف ينهي البناء العربي الرسمي ويفرض واقعا جديدا، لا سيما أنّ الربيع العربي جاء متزامنا مع الصعود التركي في ظل حزب العدالة والتنمية.

يبدو أن المشكلات التي أورثها السيسي لمصر فاقت قدرة الدولة "المنهوبة" على التحمل، وبات "صاحب الدولة"، المؤسسة العسكرية، في ترقب لحدث جلل قد ينهي وجود المؤسسة، أو ربما يتعدى ذلك لكي يلغي مصر كدولة إذا ما انفجرت الأمور عبر ثورة جياع أو احتراب مجتمعي، لا سيما أنّ السيسي قد جعل الشعب المصري شعبين، وأباح لشعبه "الشرفاء" قتل الشعب الثاني! فكان لا بدّ من الموازنة التي حصلت من قبل، وهي التخلي عن الرأس مع مجموعة عملت معه عبر ثورة شعبية يكون مشرفا عليها، وأن تتم إدارة البلاد فيما بعد بالالتجاء للمدنيين، ولكن ضمن المحددات التي عمل عليها من قبل الجيش التركي حين توصل في عام 1998 إلى أنّ البلاد على وشك الانهيار اقتصاديا، وأن الاتحاد الأوروبي رأى أن تركيا تحتاج لمئة وخمسين مليار دولار لكي تتخلص من أزمتها الاقتصادية، ولكن وجود العسكر والفساد المنظم يمنع الاتحاد الأوروبي من دعم تركيا.. هذا الواقع المرّ شكّل دافعا قهريا للمؤسسة العسكرية لأن تتراجع خطوة أمام المدنيين، خطوة أفضت لعودة الإسلاميين بعد ذلك من خلال العدالة والتنمية 2002.

تبدو الظروف الحالية محيّرة للإخوان، فهم إن شاركوا بالحرّاك سيقال إنّهم "ركبوا الموجة"، وإن امتنعوا سيقال "حلفاء العسكر"، فما المطلوب منهم؟

التجربة السابقة لهم توضح أنّ مشاركتهم غيّرت المعادلة كما أسلفنا، وحاجة العسكر لإدارة الدولة دفعت للاستعانة بهم ريثما يتم افتراسهم وقد حصل ذلك، وإن أرادوا أن يكسبوا في هذه الجولة فعليهم أن يعلنوا تأييدهم لأي حراك شعبي وأن يعودا للعمل الخيري والدعوي وأن يتعهدوا بعدم العمل السياسي خمس سنوات كحد أدنى، وهنا سيتم التفاهمات بين العسكر وبعض المدنيين، حيث تعود الحياة في مصر ربما لحالة تشبه حكم مبارك أو متقدمة قليلا، وأن يستثمر المصريون ذلك المناخ كما استثمره الأتراك وبقية الدول التي خرجت من حكم العسكر والاستبداد؛ بالبرامج الانتخابية والعمل على توعية الشعب بأن الديمقراطية سباق بين البرامج الأفضل ضمن مدة زمنية؛ تنتهي ويأتي الأصلح وهكذا.

وفي ظل الواقع الحالي، فمن مصلحة الشعب أن يساهم في التغيير، أو لنقل ليختصر الوقت ويقلل الخسائر، وإذا كان من تفاهمات تسمح بهامش جيد من الحرية واطلاق سراح المعتقلين ومحاسبة المجرمين وعودة المهجرين، وبدء حياة سياسية قد تنتهي إلى ما بشبه الديمقراطية التركية في نهاية التسعينيات (كما أسلفنا)، فذلك شيء أخاله معقولا.
الأكثر قراءة اليوم
الأكثر قراءة في أسبوع