قضايا وآراء

أزمة المثقفين العرب وأزمة الأمة العربية

1300x600
تمر الأمة العربية بأصعب أزماتها الآن منذ زرع إسرائيل التي صارت المحل المختار لكل المؤامرات والفتن على الهوية العربية والإسلامية.

ومن الواضح أن الهجمة الصهيونية التي تتخذ شكل التطبيع والاختراق هدفها الأساسي تقويض هوية المنطقة وإدخالها إلى العصر الصهيوني، بدأ بإنشاء إسرائيل في فلسطين، ثم التخطيط لضرب مصر بوابة العالم العربي بعد أن حاولت الصهيونية استئناسها.

ويبدو أن ثقافة السادات وتكوينه وظروفه الاجتماعية وظروف خلافته لعبد الناصر بعقدة عبد الناصر المتأصلة؛ لم تسعفه لفهم خطورة ما دُفع إليه واحتفال الصهاينة به وتخليده باعتباره أول وأكبر اختراق في الجسد والعقل العربي، والذي فتح الباب لما حدث من انهيارات واختراقات. والأخطر ما صاحب هذا الاختراق الصهيوني في العمود الفقري للأمة، وهو انفراط عقدها وانكسار عمودها الناظم لحركتها وضلال نخبها وتوزعهم وتفرقهم حول مفاهيم هامشية، وأبسطها القومية والقُطرية، ناهيك عن الانقسام والعداء بين القومية والإسلامية، فأنصار القومية خلطوا على الأغلب بين عبادة الزعيم وبين شعاراته القومية، ولم يُخضعوا هذه الشعارات والانكسارات لأي قدر من التحليل الموضوعي.

وقد كانت إسرائيل هي العامل الحاسم في كل هذه التفاعلات. فعندما قرر السادات طواعية أن يخطب ود الصهاينة، كان ذلك مكسبا شخصيا له وخسارة قومية كبرى لمصر وللأمة.

وتبعثر المثقفون العرب حول هذه الخطوة، فقد اتهمه البعض بالخيانة والعمالة، لكنهم لم يقدموا حلا وعلاجا لهذا التشخيص. وأظن أن اغتياله أعطى دفعه قوية لخط كامب ديفيد، فورثه مبارك الذي غلبت مهنته العسكرية على أي موقف سياسي.

أما دعاة القُطرية فاستندوا إلى أن المد القومي اقترن بالدكتاتورية وأهدر القُطرية والخصائص الذاتية لمكونات الأمة، وأن الأقطار المدركة لذاتها هي التي تشكل أمة متماسكة، وهكذا صارت القُطرية نقيض القومية وبديلا لها بعد أن فشلت القومية.

وحدث الانقسام ذاته عند نشأة مجلس التعاون 1981، فقد رأيت فيه تعويضا عن تهدم الجدران العربية بعد كامب ديفيد، ورجوت أن يدعم الجامعة العربية قبل أن أدرك أن الجامعة انعكاس للواقع العربي، وهي نادٍ للحكام العرب. ولذلك عندما قامت الثورات العربية تداعى الحكام في الجامعة إلى وحدة مصالحهم ومصائرهم، وقمعوا كل صور المساعي الرامية إلى التغيير، فانكشف ما سُمي بالعمل العربي المشترك، وهو ليس ضد إسرائيل، لكنه عمل عربي جماعي ضد الشعوب وصوب إسرائيل، مما جعل أكبر تحدٍ وجودي للأمة هم حكامها.

وقد كشفت تجربة الثورات العربية وكلها لها أسباب وجيهة؛ أن الحاكم العربي مكلف بجلد الشعوب، وأن الحكام في تحالف مع أطراف أجنبية خاصة إسرائيل التي تقدم الضمانة الأكيدة للحاكم ما دام مواليا. وقد وقعت عشرات الأحداث والقضايا التي تفرق حولها المثقفون العرب، فانقسموا ابتداء حول أولوية الولاء للحاكم أم للوطن، والتبس عليهم بسبب تمسك الحاكم بأنه هو الوطن وأن السعي إلى تغييره خيانة للوطن وذراع لمؤامرة خارجية.

الفتنة الأولى جاءت مع فكرة الدولة الوطنية والزعيم الوطني، والاصطفاف الوطني حول الزعيم الذي لا يقهر والحامي للوطن والأقدر على الدفاع عنه. وقد وقع بعض المثقفين في هوة تفصل بين الحاكم والوطن، فلم يدركوا أن الحكام لديهم مصالح شخصية، وأن حروبهم الإعلامية ومكائدهم خصم من رصيد أوطانهم وشعوبهم، فلا أرى أي نزاع بين بلدين عربين له قواعد وأهداف موضوعية.

وآفات المثقفين ست: الأولى أنهم تاهوا بين الوطن والسلطة، والثانية أنهم أدركوا أن الوطن لا يمكن إنقاذه من الحاكم الطاغية، وأن تعرضهم له لا ينقذ الوطن ولا يكفل لهم السلامة من التضيق والمطاردة، فسارع بعضهم إلى مائدة الحاكم، وقنع بعضهم باجترار أحزانه، بينما فر بعضهم إلى خارج الوطن. وفي كل الأحوال ظل الوطن يعاني، والحكام يتضامنون مع حلفائهم والمنتفعين منهم، وتجمدت الأوضاع، فانهار البنيان.

والآفة الثالثة وقوع البعض ضحية لشعارات الحاكم، فظنوا أن عبادة الحاكم تسبيح للوطن. والآفة الرابعة أنهم تاهوا بين التناقض الذي ظهر بين القومية والقطرية. والآفة الخامسة هي أنهم متفرقون وتفرغوا لحروبهم ونسوا أولويات وظيفتهم. والآفة السادسة هي التخبط في تحديد موضع الدين في المجتمع.

هذه القراءة المبدئية في أزمة المثقفين العرب مقدمة للدعوة إلى لقاء بين من يريد في الوقت الذي يُتفق عليه بالطريق الإلكتروني، لوضع جدول أعمال حول دور المثقفين في صد الموجة الصهيونية واستنهاض الأمة، وإصلاح العلاقة بين الحاكم والمحكوم، بعد فشل الثورات بسبب جهل الشعوب وانتهازية بعض الأطراف واستغلال الثورات لتحقيق أهداف غير تلك التي تخدم الوطن، وتمسك الحكام بالسلطة وسد كل منافذ وأدوات التغيير.. والنظر في الصيغ المقترحة لتحقيق هذه الأهداف؛ وأهمها رفع الوعي الشعبي وتخفيف آثار سياسات التجهيل وسلب العقول، وإعادة البوصلة العربية إلى ما يحفظ الأمة، وإجراء مراجعة أمينة حول ما جرى طوال سبعين عاما، وأهمها دور الاستبداد والتبعية والانتهازية وضياع بوصلة المصالح العامة.

فهل تجد هذه الدعوة أذنا صاغية قبل أن يختفي جيلي بحكم الزمن، وسط توحش المشروع الصهيوني وتخبط الشعوب وإنهاكها في مدارج الحياة، واستحكام الاستبداد والفساد، وعدم جدوى الشعارات القديمة التي كشف الواقع زيفها.. اللهم هل بلغت اللهم فاشهد.