قضايا وآراء

الذين أدركتهم حرفة الثورة المصرية

1300x600
حينما اندلعت الثورة المصرية لم تكن قوى ثورية (شاركت فيها لاحقا) تتوقع أو حتى تتخيل لها النجاح؛ حتى إن البعض راح يعيب على "مجرد" تفكير بعض الشباب الذين رأوهم متحمسين في حراك يؤرق النظام في يوم يوافق "عيد الشرطة"، متمنين فحسب تغيير موعد التظاهر عدة أيام! وهؤلاء أنفسهم حتى لما لحقوا بقطار الثورة عمليا أوسعوه تنظيرا وتحليلا وفق مرادهم وغايتهم، واعتمادا على أيديولوجياتهم وأفكارهم بعيدا تماما عن "واقع الشعب المصري".

حركات وقوى وفصائل مصرية جانب كبير من أعضائها، مع الاحترام لطيب نيّاتهم وتوجهاتهم، لم يكن في منهجهم ولا من أدبياتهم وآلياتهم أساسا التغيير الثوري، ولمّا تحالفت عدة عوامل رئيسية في إحداث انفراجة بإزاحة الرئيس الراحل حسني مبارك عن سدة الحكم، أسرعوا يتغنون بأن الوقوف في وجه الطغاة أثمن ما في الحياة. وكثير من هؤلاء لم يتصالحوا مع مناهجهم منذ بداية تحرر مصر في 11 شباط/ فبراير 2011؛ وإنما بادروا مُنسحبين من ميادين مصر بمجرد تخلي رأس النظام "الظاهري" عنه؛ فلم يلتفتوا إلى ضرورة البقاء حتى يتم تأمين ظهر الثورة الوليدة ليشتد ويقوى عودها. ومنذ تلك اللحظة لم ينتبهوا حتى إلى إمكانية تعويض ما يفوتهم بسرعة على مدار قرابة العام ونصف العام، ظلت مصر فيها ثورية حرة. وما أكثر الواجبات والدروس التي كان على الصف الثوري كله أن يتعلمها طوال تلك الفترة؛ وهي ليست بالقليلة في عمر الأحرار ولا في تواريخ البلاد التي تحب انتهاز "اللحظة الفارقة"، برأي صاحب الرؤية الثاقبة المناضل حازم صلاح أبو إسماعيل.

افتقدت الثورة المصرية منذ البداية الرأس المدبر والعقل الواعي الفاهم الشامل ذا الحس المستقبلي، أيضا الإجماع من جميع الفصائل والتيارات والقوى، وهو أمر ليس بمستبعد على بلد حكمه مبارك بالحديد والنار نحو 30 عاما، وكان أحرص ما يكون على إبعاد كل فرد ذي تفرد وصلاحية للفهم، عوضا عن القيادة، سواء من داخل النظام أو خارجه. أما غير المستبعد فإنه يستسلم كثير من المنتسبين للثورة للمآرب الخاصة، والرغبة في الاستحواذ والسيطرة، وينقسمون على أنفسهم في سبيل ذلك بعد ذهاب مبارك شكلا وبقائه موضوعا؛ يؤلب ويقود القوى المضادة للثورة. وما ذهاب قائد النظام الحاكم اليوم إليه في مستشفى المعادي العسكري سرا في 10 من أيار/ مايو 2014م وقبل أن توليه الحكم؛ منا ببعيد. وهذه حادثة تم افتضاحها، وما خفي كان أكثر!

كانت نتيجة التلاطم والتناحر والتشاجر باسم الثورة من قوى وفصائل وحركات لم تحسن التصرف في داخلها ولا خارجها؛ ولم تفلح اللحظات القليلة التي توحدت فيها، من مثل الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية في حزيران/ يونيو 2012م، في تعويدها على التضامن والتكاتف من أجل البلاد والحفاظ عليها، إن لم يكن من أجل حفاظ هؤلاء على أنفسهم من قبل. والنتيجة النهائية امتداد مرارات الواقع، وخيبة وانكسار الآمال لأكثر من سبع سنوات عجاف، عانت مصر والمصريون فيها كأشد ما تكون المعاناة.

لم تكن تلك القوى والفصائل والحركات والتيارات تتوقع عودة الدكتاتورية والاستبداد واستواء عودهما إلى أشد ما كانا عليه في ظل حكم مبارك. ومع استمرار إيمان بعض هذه القوى بأن الثورات تستجلب وتستقدم بمواعيد (وهذا مما كانوا يعيبون عليه في اختيار يوم 25 من كانون الثاني/ يناير 2011م، وقت نضج واستواء الثمرة الثورية). فالثورة إذ تولد يكون تحديد الموعد بالنسبة لها شرارة انطلاق وعلامة استواء، وهو في تلك اللحظة يأتي تكليلا لجهد ومعاناة من جميع التيارات والفصائل والقوى وفي مقدمتها على الدوام "الشباب"؛ لا أن يُعاد تدوير "شيوخ" ثبت فشل تجاربهم بل آرائهم على مدار أكثر من سبع سنوات؛ وبدلا من محاسبتهم وإقصائهم يتم تمديد فترة "نظرهم" في الأمور لسنتين جديدتين، وحتى القليل الوافد عليهم أو الأصغر نسبيا منهم، يتم وضعه بعناية "تزيينا" لـ"اللجنة"؛ حرصا على ألّا يكون دوره وكلمته ذات صدى أو حتى فعالة؛ وفي النهاية يتم الادعاء بأن أحدا منهم لم يعين "بل جاؤوا بالانتخاب". والواقع يشهد بالنقيض تماما؛ وماذا حينما يكون صاحب قرار تعيينهم بواسطة أكبرهم في السن؟

قبل وفاته، كتب الشاعر المصري الراحل "فتحي سعيد" كتيبا ذكر فيه أولئك "الذين أدركتهم حرفة الأدب"، وربما نبغوا فيه رغم هذا. ولم يكن يدري (رحمه الله) أو يعلم أن من بعده سيأتي أولئك الذين أدركتهم حرفتا السياسة والثورة، فأكثرتا من كلماتهم وتنظيراتهم وغيبتهم عن مناهجهم الأصيلة وتطويرها، التي لم تصل بهم ولا بالبلاد إلى شيء سوى الحراك في المكان أيا ما كان؛، ويوم يقرر هؤلاء وغيرهم التصالح مع أنفسهم ومناهجهم ومهماتهم في الحياة، ويقررون الالتحام مع كل ذي رأي حقيقي مخلص، لا صاحب تجربة أو تجربتين مستنسختين من تجاربهم، ويوم يخرج كل مخلص من جميع التيارات والفصائل والاتجاهات الثورية؛ من حزبه الانفرادي المعتم برغمه.. إلى آفاق التجمع وروح المشاركة الحقيقية التي كانت في 25 يناير مع إصرار على إكمال الطريق.. يومها يبدأ خلاص مصر من الارتجال والتقوقع والأحادية والأثرة وحب النفس، أيضا من الديكتاتورية والاستبداد اللذين يحكمان مصر!