كتاب عربي 21

هل الشعوب العربية شعوب مغلوبة؟

1300x600

من الإجابات الراسخة في المخيال الشعبي العربي والتي تحاول تفسير الحال الذي عليه الأمة دولا وشعوبا ومجتمعات الرأي القائل بأنّ الشعوب العربية المسلمة شعوب مغلوبة أو مغلوبة على أمرها. قد يبدو هذا الموقف أو الرأي موقفا ساذجا أو غير دقيق لكنّه بفعل انتشاره على مواقع التواصل وفي الشارع العربي يستدعي القراءة والتأمّل لأنه يستبطن عددا من القناعات القادرة على تفسير العطب الذي أصاب الوعي الجمعي العربي في مستواه القاعدي. 

العرب فعلا شعوب مغلوبة 

يتأسس هذا الإقرار على الاعتراف بالضعف أو بعبارة أكثر دقة بالهزيمة التاريخية الحضارية دون أن يطرح المعطيات أو الإقرارات التي تقف وراء هذا الموقف. الإقرار بالهزيمة هو في الحقيقة شعور ناتج عن تراكمات تاريخية مختلفة منها ما هو قديم راسخ في الذاكرة الحضارية ومنها ما هو جديد يعود إلى الحقبة التي وقعت فيها بلاد العرب تحت سلطة الاستعمار العسكري. أما الفترة الأشد تأثيرا فهي تلك التي طبعت مرحلة الاستبداد السياسي وانتهت بسقوط فلسطين وسقوط العراق وانفجار أغلب العواصم العربية مؤخرا. وهو كذلك شعور تدعمه وتروّج له نظريات وأبواق وأدبيات وأنساق ثقافية مُكلفّة بترسيخه في اللاوعي الجمعي العربي.

الهزيمة إذن مكوّن نفسي مركزي في الشخصية الجَمْعِيّة العربية ومعجمها لا يفارق المخيال العربي من "النكبة" إلى "النكسة" إلى " السقوط". وهي من جهة أخرى حقيقة تاريخية لا يُمكن إنكارها لأن الأمة لم تنتصر في معركة كبرى قط منذ عقود بل راكمت الانكسار وراء الانكسار ولا تزال تسجّل الهزيمة وراء الهزيمة. عسكريا لم تنتصر الجيوش العربية في معركة واحدة فحتى الانتصارات التي يروّج لها النظام الاستبدادي مثل حرب أكتوبر في مصر ليست في الحقيقة إلا أكذوبة من أكاذيب النظام الرسمي.

لا تقتصر الهزيمة على المستوى العسكري بل تتعداه إلى المستوى العلمي والتكنولوجي والاقتصادي والثقافي حيث رسّخت هذه القطاعات الشعور بالهزيمة عبر تدمير التعليم والبحث العلمي وتدمير الاقتصاد ومسخ الثقافة. تحولت الشعوب العربية إلى شعوب استهلاكية لا تُنتج شيئا بل تستهلك وتورّد كل شيء بدء باللباس وصولا إلى الغذاء والطائرات وهو الأمر الذي كرّس الشعور بالتبعية والهزيمة.

من جهة ثانية أكدّت الثورات العربية عجز الأمة على النهوض، حيث تحولت الاحتجاجات الكبيرة التي قادت إلى سقوط أنظمة عربية راسخة إلى ساحات للفوضى والتقاتل والاحتراب. هُزمت الثورات وتحول الربيع العربي إلى خريف إسلامي كما يحلو التعبير إلى أنصار الثورات المضادة تسميته وأضيفت الهزيمة إلى سلاسل الهزائم السابقة. إنّ فشل الثورات هو الذي يُفسّر حالة الإحباط الكبيرة التي تعاني منها الأمة اليوم على المستوى الجمعي وهو الأمر الذي شجع أبواق الثورات المضادة إلى الاستثمار فيها لإقناع الجماهير بأنّ الاستبداد هو قدَر الشعوب الذي لا فكاك منه. 

الشعوب العربية شعوب مقاوِمة 

القول بأنّ الشعوب العربية شعوب مغلوبة أو مهزومة يفترض منطقيا أن تكون قد خاضت معركة حتى تنهزم فيها أو تنتصر، لكنّ الواقع يؤكد أنّ الشعوب ليست هي من خاض المعارك ولا هي من انهزم فيها. النظام الرسمي العربي هو من قاد هذه المعارك وخطط لها وانهزمت فيها جيوشه بالخيانة والعجز والمؤامرات منذ 1948 حتى سقوط بغداد مرورا بنكسة 1967. 

لكن من جهة أخرى فإن القول باستبطان الهزيمة ليس صادرا عن الشعوب نفسها بل هو صادر عن منصاتها الإعلامية وأبواقها الفكرية لأنّ الشعوب العربية هي آخر الشعوب المقاوِمة. كيف ذلك؟ إنّ الثورات العربية الأخيرة هي أنصع دليل على أن الجماهير العربية لا تزال تؤمن بالمقاومة الشعبية وأنها لن تستسلم. في فلسطين لا يزال الشعب الفلسطيني هناك يضرب أروع الأمثلة في الدفاع عن الأرض والمقدسات وفي سوريا وليبيا لا يزال الشعبانِ يقاومان آلة الموت الجبارة التي تسحقهم كل يوم. الشعوب العربية لم تستسلم بل لا تزال نواتها الصلبة حيّة تقاوم رغم الضربات التي تلقتها ولا تزال سواء من الداخل أو من الخارج.

 

الشعوب العربية ليست إذن شعوبا مغلوبة بل هي شعوب مغيّبة عن حقيقة واقعها وعن طبيعة المعركة. وليست سياسة التجهيل والتفقير ونشر الجريمة والانحراف والشذوذ والتغريب إلا أداوت لتحقيق هذا الهدف الذي يضمن رضى الجماهير بواقعها.

 



لا بدّ من التأكيد في هذا السياق على أنّ الشعوب العربية ليست كتلة واحدة موحّدة. هذا يعني أنّ الحركات الاحتجاجية بما فيها ثورات الربيع كانت حركة انفجارية قاعدية قادتها نواة صلبة ثمّ توسعت رقعة الاحتجاجات كما هو حال كل التغيرات الشعبية عبر العالم. هذا يعني أنّ الحديث عن المقاومة والثروة والاحتجاج لا يتطلّب بالضرورة تحرك كل الأطياف الاجتماعية وإنما يقتصر الأمر على الكتلة القادرة على تكوين القاطرة التي تتكفل بتوسيع كتلة المطالب والتظاهر والتجمهر وتضمن استمراريته.
 
فرغم سنوات التجريف التي استهدفت وعي هذه الشعوب عبر الوسائط المتعددة من الإعلام إلى الثقافة إلى الفن إلى كل أشكال التعبير وقنوات التوعية والتثقف فإنها لم تنجح في تحقيق التخدير التام الذي كان منتظرا منها. الشعوب العربية ليست إذن شعوبا مغلوبة بل هي شعوب مغيّبة عن حقيقة واقعها وعن طبيعة المعركة. وليست سياسة التجهيل والتفقير ونشر الجريمة والانحراف والشذوذ والتغريب إلا أداوت لتحقيق هذا الهدف الذي يضمن رضى الجماهير بواقعها. بل يمكن القول إن حالة الفوضى التي تعمّ المنطقة والعمليات الإرهابية التي تركتبها هذه الأطراف أو تلك، كما يحدث في سوريا أو ليبيا أو العراق أو اليمن، إنما هدفها السعي إلى ترسيخ مقولة الهزيمة وعدم القدرة على التغيير وأنّ الفوضى هي البديل الوحيد للتغيير وإسقاط الأنظمة الفاسدة. 

خلاصة القول هي أنّ الشعوب العربية ليست شعوبا مغلوبة كما تحاول منصات الإعلام الرسمي الإيهام بذلك وليست شعوبا منهزمة بل هي شعوب مقاومة إنْ لم نقل إنها آخر الشعوب المقاوِمة. الاستبداد ليس قدر هذه الشعوب وليس قضاء الله في خلقه بل هو نتيجة حتمية لصناعة النظام الرسمي وأذرعه الداخلية والخارجية. الشعوب العربية ليست شعوبا متخلفة بل هي تعيش أخطر أطوارها الحضارية الذي تحاول عبره الخروج من دائرة العدم الحضاري نحو التأسيس لوجود جديد قائم على حرية الإنسان وكرامته.