كتب

في الإسلام السياسي وعوامل صعوده وصلته بالدولة العميقة

تجارب حركات الإسلام السياسي بعد ثورات الربيع العربي.. ما لها وما عليها- (المركز الديمقراطي العربي)

الكتاب: "تجارب حركات الإسلام السياسي بعد ثورات الربيع العربي، دراسة في التحديات الراهنة وآفاق المستقبل" 
الناشر: المركز الديمقراطي العربي للدراسات الاستراتيجية والسياسية والاقتصادية، برلين- ألمانيا، الطبعة 1، 2019
عدد الصفحات: 289 صفحة
المؤلف: مجموعة من الباحثين


يُعدّ كتاب "تجارب حركات الإسلام السياسي بعد ثورات الربيع العربي، دراسة في التحديات الراهنة وآفاق المستقبل" امتدادا لكتاب "إشكالية الدولة والإسلام السياسي قبل وبعد ثورات الربيع العربي: دول المغرب العربي نموذجا". وقد كنا عرضنا أهم وتصوراته وناقشناه في هذه الصحيفة. 

وأثرنا هذا مؤلف جماعي تشاركي يبحث عن ترسيخ إطار نظري مفاهيمي لحركات الإسلام السياسي ولنتائج هذه الظاهرة السياسية في تفاعلها مع المتغيرات على الساحة السياسية في كافة أقطار البلاد العربي. فيفصّل دارسوه أمر صعود حركات الإسلام السياسي ويشرحون تمثلاتها الهوياتية في بناء انتقالاتها الإقليمية ويبحثون في العوامل التي ساعدت هذه الحركات على الصعود للسلطة. 

ويرمي هذا الأثر إلى فهم موقف حركات الإسلام السياسي من النظام الديمقراطي وأشكال تنافسها مع سائر القوى السياسية القائمة وعلاقتها بما بات يصطلح عليه بالدولة العميقة. ولدقة المسائل التي يتناول آثرنا أن نعرض مادته في ثلاث حلقات. تتعلق أولاها بتحديد مفاهيمي للإسلام السياسي وتقدم ثانيتها تجربة الإخوان المسلمين في مصر وتعرض ثالثتها التجربة الجزائرية. ولن نعرض ما تعلق بحركات الإسلام السياسي في تونس والمغرب. فقد دُرست في الكتاب الأول والمباحث حولها في هذا الأثر لا تضيف الكثير لما كنا قد عرضناه في هذه الصحيفة منذ نحو أربعة أشهر.

1 ـ في معنى الإسلام السياسي:
 
أقصيت حركات الإسلام السياسي من الحياة السياسية لفترات طويلة أو هُمش دورها وحوصر نشاطها. ولكنّ الإقصاء من السياسة لا يعني بالضرورة الإقصاء من المجتمع. فقد ظل هذا التيار يعيش على الهامش ويتحيّن الفرص المناسبة ليزاحم على السلطة وليطرح مشروعه المجتمعي. ويحاول بعض مؤلفي الأثر أن يقاربوا هذا التيار مقاربة نظرية. ذلك شأن عبد الواحد أوامن في ورقته "إطار نظري ومفاهيمي لحركات الإسلام السياسي" أو فراس عباس هاشم في "صعود حركات الإسلام السياسي وتمثلاتها الهويايتة في بناء انتقالاتها الإقليمية" أو الكر محمد في "حركات الإسلام السياسي وإشكالية الدولة العميقة في دول الربيع العربي".

يعدّ اصطلاح "الإسلام السياسي" اصطلاحا جديدا، على الأقل على مستوى انتشاره بين المهتمين والدّارسين. فيشير الأثر إلى اصطلاحات أخرى كانت تستعمل في توصيف هذه الحركات منها "النهضة الإسلامية" و"الإحياء الديني " و"الحركة الإسلامية" و"الأصولية الإسلامية" و"الإسلاموية" و"الصحوة الإسلامية" و" الحركات السلفية" و"الحركات المتطرفة". 

 

بعض الحركات الإسلامية باتت تعلن صراحة قبولها بالفصل بين السياسي والديني وقبولها بقواعد اللعبة السياسية والقيم العالمية. وبعض هذه القيم تتعارض من القيم الدينية الإسلامية. ولكن منافسيها يريدون منها مواقف صريحة من المثلية الجنسية والمساواة في الميراث بين الرجل والمرأة وزواج المسلمة من غير المسلم.

 


ولم تكن هذه الاستعمالات تخلو من مواقف بعينها من هذه الظاهرة، رفضا أو إدانة أو قبولا أو تبنيا. ويعود الأثر إلى منشئها البعيد عند جيل المصلحين الأوائل. فيشير إلى أن فكرة "الحركة الإسلامية" جاءت لإعادة المفهوم الصحيح الجماعة الإسلامية بعد أن سادت الفرقة بين المسلمين بسبب وقوع البلدان الإسلامية تحت وطأة الاستعمار ثم ترسّخت أكثر بعد سقوط الخلافة العثمانية. فعملت على ملء ما تركه هذا الحدث الصادم من فراغ. وإلى هذا العمل بالذات يعيد أصل نشأة حركة الإخوان المسلمين في مصر سنة 1928. 

ثم ما فتئت هذه الكيانات تتحول "من جماعة دينية هوياتية إلى حركة شبه سياسية إلى حزب سياسي مع بروز "ما بعد الإسلام السياسي"، وهو نتاج تحولات "الدولة الوطنية" من الأنظمة السلطوية إلى منعرجات الديمقراطية". وتمثل سبعينيات القرن الماضي مرحلة انتشار هذا التيار الإسلامي في العالم العربي، بعد نحو عقدين من استقلال هذه البلدان وتأكد إخفاق الدولة الوطنية ذات السياسات القومية اليسارية في تحقيق حياة سياسية سليمة واقتصاد مزدهر، فضلا عن الفشل الذريع في التعاطي مع القضية الفلسطينية أولا ووجود بيئات الاجتماعية حاضنة ثانيا. 

وعلى اختلاف التجارب جغرا-سياسيا أو تاريخيا، تشترك هذه الحركات الإسلامية في جملة من الخصائص، كالشعبية وسرعة الانتشار والاستمرارية أو كالعمل على التغيير الجذري أو كتحولها من الصراع مع السلطة إلى التعايش معها أو المشاركة في تشكيلها.

2 ـ اتجاهات الإسلام السياسي

يطلق مصطلح الإسلام السياسي على تلك الحركات ذات الخلفية الدينية الإسلامية التي تعمل في إطار نظرة شمولية للحياة البشرية. فلا ترى في الإسلام مجرد ديانة أو بعد روحي وإنما تجده نظاما سياسيا واجتماعا  واقتصاديا وثقافيا. ويشير المصطلح إلى ظاهرة قديمة موصولة الحلقات تتسم بقوة الجذب الشعبي والانتشار الواسع، في صفوف الشباب خاصة، تدرّجت من المحلية إلى عالمية ومن البساطة إلى تركيب ذي أبعاد فكرية ونفسية واجتماعية وسياسية. وتعمل على الحلول محلّ الأنظمة السياسية القائمة، إما بالعنف أو بالوسائل السلمية، أو بالاثنين معا.

ولا يمكن أن نضع الظاهرة كلّها في ربق واحدة. فبينها من الاختلافات ما جعل أصحاب الأثر يصنفونها إلى اتجاهات وفروع. فمصطلح الإسلام السياسي يعبّر في بعض المراجع أو السياقات عن الحركات والقوى التي تعمل على إقامة دولة إسلامية،. فتطبق الشريعة الإسلامية وتعود إلى الأصول، فتكفل حفظ الدين ورعاية شؤون الأمة الإسلامية (أو الدولة القطرية في مرحلة معيّنة) ولا تستبعد العمل المسلح لتحقيق أهدافها. 

 

يعدّ اصطلاح "الإسلام السياسي" اصطلاحا جديدا، على الأقل على مستوى انتشاره بين المهتمين والدّارسين. فيشير الأثر إلى اصطلاحات أخرى كانت تستعمل في توصيف هذه الحركات منها "النهضة الإسلامية" و"الإحياء الديني " و"الحركة الإسلامية" و"الأصولية الإسلامية" و"الإسلاموية" و"الصحوة الإسلامية" و" الحركات السلفية" و"الحركات المتطرفة".

 



ويشير المصطلح في استعمالات أخرى إلى الحركات الإسلامية التي تتخذ من المشاركة منهجا في العمل السياسي وتقبل بالاحتكام إلى صناديق الاقتراع للتداول على السلطة والتسليم بشرعية حكم من يختاره الشعب لإدارة الشأن العام. ولكن الأثر يسكت عن السؤال الذي ينبغي أن يطرح هنا: ماذا لو خسرت هذه الحركات الانتخابات أو كانت أقلية؟ فهل تقبل التنازل عن السلطة وعن تطبيق الشريعة في هذه الحال؟

ويشير المصطلح من وجهة نظر بعض العلمانيين المحترزين من هذا التيار إلى الحركات السياسية التي تمزج بين الدين والسياسة في الشؤون المحلية والعالمية، وترى في مبدأ "دع ما لله لله وما لقيصر لقيصر" شذوذا عن طبيعة الإسلام باعتباره شاملا للدين والدنيا وللعمل والعمل. وعليه تعمل هذه الحركات على تطوير الممارسة السياسية تطويرا يستوعب بعض القيم والمبادئ الغربية (الديمقراطية الغربية أساسا) شرط ألا يمس من جوهر الشريعة الإسلامية. ويختزله "فرنسوا بورجا بالبحث، عن طريق المؤسسات ـ أو في الغالب ضدها ـ عن مشروع سياسي بديل لسلبيات التطبيق الحرفي للتراث الغربي. 

وأهم ما يخلص إليه الأثر عند تتبع المصطلح في الاستعمالات المختلفة أن مفهومه يظلّ رخوا، غير واضح في أذهان مستخدميه غالبا، وإن كان يميل إلى تطبيق الشريعة عبر المشاركة السياسية. فتتعدد تعريفاته تعددا كثيرا ما ينتهي إلى التناقض. ويخلص كذلك إلى أن للإعلام دورا كبيرا في فرضه لوصف ظواهر سياسية غير منسجمة وإلى أنّ استخدامه في التحليل الغربي أدى إلى عدم التمييز بين الإسلام باعتباره ديانة وبين حركات اجتماعية تتخذ من بعض الاجتهادات في تفسير وتطبيق الشريعة الإسلامية مرتكز لها. 

ولئن كانت هذه الاستعمالات تكشف عن قصور في تمثّل علاقة الإسلام بالسياسة ـ فإضفاء صبغة سياسية على الإسلام يُلمح ضمنيا، إلى وجود إسلام آخر مختلف بريء من تعقيدات السياسة وإكراهاتها كالإسلام الطرقي المنصرف إلى الحياة الروحية فحسب أو الإسلام التقليدي الذي يوالي السلطة ويسير في ركبها ـ فإنه يدلّ كذلك على أنّ حركات الإسلام السياسي تعرف اليوم الكثير من التشتت والاضطراب، وهذا ما يعزز مناخات الجمود التقليدية ويحرمها من دينامية الانفتاح على الواقع وتطورات الأحداث في إطار مراجعات نقدية بحجة التمسك بالثوابت والمبادئ القديمة.

3 ـ الإسلام السياسي من مواجهة الدولة إلى مواجهة الدولة العميقة

ومما بات يطرح بعد وصول هذا الإسلام السياسي على سدة الحكم تبعات انتقاله من طور السرية والاشتغال في شكل دولة عميقة إلى مواجهة الدولة العميقة نفسها. فيتساءل عن مدى قدرته على النجاح في تفكيك شبكاتها وتجاوزها لبناء المجتمع الحديث الذي يطمح إليه. 

ورغم أن البعض يرفض فكرة وجود حالة عميقة تحكم من وراء الكواليس ويلحقها بنظرية المؤامرة، يدافع الكتاب عن هذه الأطروحة. فيعرف الدولة العميقة بالمجموعات السياسية التي تعمل سرا. فتتحالف من أجل حماية مصالح معينة متشابكة، متقاطعة. وتتشكل من مجموعة من الفاعلين تجمع بينهم  شبكة من العلاقات والتحالفات داخل الدولة. فيكونون من القضاء والأعمال التجارية والإعلام، وتستمدون قوتهم من مجتمع الأمن القومي والمخابرات. ويكتسبون سلطة هائلة وراء الكواليس تخوّل لهم أن يسحبوا البساط من تحت أقدام الحكام المنتخبين ديمقراطيا والممثلين الشعبيين وأن يحكموا البلاد فعليا دون أن يتم انتخابهم فيمارسون منطق الوصاية على المجتمع، ويبررون ذلك  دائما بزعم الدفاع عن مصالح وجودية للأمة. 

 

حركات الإسلام السياسي تعرف اليوم الكثير من التشتت والاضطراب، وهذا ما يعزز مناخات الجمود التقليدية ويحرمها من دينامية الانفتاح على الواقع وتطورات الأحداث في إطار مراجعات نقدية بحجة التمسك بالثوابت والمبادئ القديمة.

 


ويجد الأثر في الثورة المضادة امتدادات الدولة العميقة. ويرصدها في فلول النظام السابق والأحزاب التي فشلت في الاستحقاقات الانتخابية ورجال الأعمال المستفيدين من النظام البوليسي المنحل وفي عدد من الأطراف التي تسعى إلى تحزيب بعض الاتحادات والنقابات. 

ويؤكد اختلاف واقع حركات الإسلام السياسي في مواجهة الدولة العميقة باختلاف الأنظمة السياسية في العالم العربي. فتتراوح طبيعة العلاقة بين الدولة العميقة وحركات الإسلام السياسي في دول الربيع العربي بين الصدام والتكيف، مقترحا أن يتم التعامل معها من خلال نهج تدرجي يهدف إلى تفكيك مختلف بناها. وما يعاب على الأثر هنا تصنيف كل عارض حكم الإسلاميين ضمن خانة الدولة العميقة المتآمرة.

4 ـ مساحات للنقد تصاحب الجهد النظري

يجتهد الأثر في ضبط التعريفات والحدود ورسم عناصر التباين بينها. ويحاول أن ينقد التجربة ملاحظا اتخاذ سلوك الحركات الإسلامية شكل سياقات فكرية تختزل الديمقراطية في الجانب الأداتي البحت وفصلها عن مضمونها الفلسفي واعتبارها ثقافة وطريقة حياة تعلي من قيمة الحرية. فالديمقراطية في فهمهم هي طريقة التداول السلمي للسلطة عن طريق الانتخابات والأحزاب والبرلمان فقط على العكس من ذلك، فأمّا الحريات وبالذات حرية التفكير والعقيدة والإبداع فهي مؤجلة. 

ويلاحظ ظهور حركات تستند إلى مفهوم "المصلحة" وتنشأ بفعل إكراهات الواقع وموازين القوى، وفق هذا التصور قادت إلى مواقف وخيارات وممارسات أفضت ببطء إلى تراجع النزعة الأيديولوجية الدينية وتنامي النزعة البراغماتية السياسية. 

وهذا صحيح إلى حدّ كبير. فبعض الحركات الإسلامية باتت تعلن صراحة قبولها بالفصل بين السياسي والديني وقبولها بقواعد اللعبة السياسية والقيم العالمية. وبعض هذه القيم تتعارض من القيم الدينية الإسلامية. ولكن منافسيها يريدون منها مواقف صريحة من المثلية الجنسية والمساواة في الميراث بين الرجل والمرأة وزواج المسلمة من غير المسلم. وهي فخاخ تنصب لإحراجها حينا ولتوريطها مع أنصارها حينا آخر، وتظل مصدر إرباك لهذا الإسلام السياسي الذي يتبنى التصورات الغربية للديمقراطية.