قضايا وآراء

المستشار البشري ومسألة تطبيق الشريعة

1300x600
أقام تلامذة وأصدقاء المستشار طارق البشري رحمه الله ندوة في القاهرة عام 1998، احتفاء به وبإنتاجه الفكري والقانوني بمناسبة انتهاء ولايته القضائية. حضرت تلك الندوة صغيرا ولم أكن قد قرأت أيا من إنتاج الراحل الكريم. لا زلت أذكر تفاصيل الندوة، وخاصة كلمة الدكتور سيد دسوقي وقتها حين قال إن مصر تتبوأ كرسيا عاليا في الفقه الإسلامي بوجود هذا الرجل على أرضها. عرفت لاحقا قيمة هذه العبارة بعد أن قرأت له وبعد أن درس لي في جامعة القاهرة، بالإضافة للعديد من الندوات الفكرية التي حرصت على حضورها مستمعا له فضلا عن العلاقة الشخصية.

ما لفت نظري بشدة أن الرجل يتحدث عن الشريعة الإسلامية من الزوايا التاريخية والقانونية والاجتماعية؛ حديث العارف المحيط المؤصل للموضوع بمنهجية تختلف عن الخطاب الإسلامي السائد. تبين لي السبب بين ثنايا كتابه "الوضع القانوني المعاصر بين الشريعة الإسلامية والقانون الوضعي"، حين شرح أن التعامل مع الشريعة الإسلامية في بداية القرن العشرين كان مطلبا فقهيا مهنيا اجتماعيا قبل أن يتم إقصاؤها بسبب تغلغل الاستعمار في البنية التشريعية الحديثة، وأن هذا الإقصاء لم يتم عبر حوار فقهي قانوني، وإنما إقصاء تام "لتغييب شعور الجماعة الوطنية بذاتها، وتفكيك قوى التماسك لها جماعة ذات هوية وموقف حضاري وتاريخي ممتد". بعد ذلك انتقلت مسألة الشريعة إلى مطلب سياسي على يد الحركات الإسلامية، ولا تزال في هذا الطور حتى الآن.
يلوم المستشار البشري في كتاباته قصور الجهود الفكرية التي تبذل في مسألة التجديد التشريعي في العالم العربي بشكل عام، وجهود التجديد التشريعي المأخوذ عن الشريعة بوجه خاص

الغريب أن حركة التجديد القانوني والتشريعي في العالم العربي لصياغة قوانين وتشريعات متوافقة مع الشريعة الإسلامية لم تنقطع خلال القرن الماضي، لكنها لم تتقاطع مع مطالب الحركات السياسية ومنها الحركة الإسلامية. المستشار عبد الرزاق السنهوري باشا على سبيل المثال كان وفديا ليبراليا، وهو الذي أسس القوانين المدنية في كثير من الدول العربية وهي متوافقة مع الشريعة الإسلامية. وكان أستاذه الفرنسي إدوارد لامبير يلقبه بالإمام الخامس في الفقه الإسلامي. وكانت عملية التقنين تلك تجري في ظل إطار روتيني عند مرحلة تأسيس الدول العربية الحديثة ما بعد الاستقلال ولم تواجه بأية معارضة، وبعد ذلك جاء جيل جديد من المفكرين القانونين الذي أصلوا للمسألة عن طريق اللجان مثل الدكتور الراحل صوفي أبو طالب، أو في الإطار النظري والفكري مثل المستشار طارق البشري نفسه.

يلوم المستشار البشري في كتاباته قصور الجهود الفكرية التي تبذل في مسألة التجديد التشريعي في العالم العربي بشكل عام، وجهود التجديد التشريعي المأخوذ عن الشريعة بوجه خاص. كما يؤصل لفكرة أن الفقه الإسلامي تاريخيا انتشرت قديما بين الناس بالتراضي واندمجت مع مصالح الناس وأعرافهم، لذلك احتكموا إليه طواعية بغض النظر عن الجمود الذي حدث في العصور المتأخرة. ولهذا يرى أن فكرة تطبيق الشريعة بشكل فوقي من الدولة على المواطنين بطريقة الإلزام تحتاج إعادة نظر، وأن الأمر ينبغي أن يكون في إطار المجتمع ومؤسساته.
المسألة في فكر المستشار البشري تتعلق أيضا بالاستقلال التشريعي عن الغرب، وهو استقلال كان جزءا من الكفاح الوطني القديم

البديل الذي يطرحه البشري يتعلق بأن يقوم الفقهاء ورجال القانون بدورهم في هذا المجال، وهو مجال يختلف عن مجال الاجتهاد في الفقه الإسلامي لأن أدواته مختلفة. ويرى أن رجال التخصص يفهم بعضهم بعضا، وأن الصراع الحالي المعلن حول تطبيق الشريعة من عدمها هو صراع بين سياسيين بالأساس؛ ينطلقون من منطلقات أخرى تختلف عن منطلقات أهل التخصص من رجال القانون. ويشير إلى أن النقاش القانوني العلمي بين أهل القانون ليس به هذا الصراع، ويدلل على ذلك بأن الذين أصَّلوا لفكرة مصدرية الشريعة في القانون تعلموا أصلا في فرنسا، مثل السنهوري وأبو طالب وغيرهما، وليس لهم صلة بالحركات الإسلامية.

المسألة في فكر المستشار البشري تتعلق أيضا بالاستقلال التشريعي عن الغرب، وهو استقلال كان جزءا من الكفاح الوطني القديم. ويبرهن على ذلك بأن كثيرا من المسألة القانونية الحالية في القانون الوضعي متوافقة مع الشريعة، لكن كان هناك حصر قديم على أن تكون مرجعية التشريع في إطار: قال نابوليون وليس قال الإمام مالك.

twitter.com/hanybeshr