مقالات مختارة

لماذا لا نختلف بأدب؟

1300x600
أتذكر في بداية حياتي العملية أن حدَثَ واختلفت زميلتان في العمل.. إحداهما من الجنسية الأميركية.. والأخرى بريطانية الهوية.. الاختلاف بين الزميلتين كان حادًا.. وبتفاصيل دقيقة تبادلت خلاله كلتاهما اتهامات تتعلق بالعمل وشؤونه، لكني أتذكر أيضًا أنه وبالرغم من ذلك الاختلاف فإن أيًّا منهما لم تتلفّظ بلفظ واحد خارج عن اللياقة أو الأدب، كان الحوار يدور فقط في فلك العمل والاختلاف الذي حدث في إطاره، لم تشتم أي منهما الأخرى، ولم تقذفها ولم تتهمها بأسلوب خارج عن حدود الأدب والذوق.
شدّتني تلك الحادثة وكنت في بداية عملي وخلفَت في داخلي تساؤلا بقي ولا يزال.. حول ثقافة الاختلاف في مجتمعاتنا العربية بشكل عام.

في الآونة الأخيرة شهدت الكويت أحداثًا ساخنة، بلغ فيها الاختلاف أقصاه.. سواء داخل مجلس الأمة أو خارجه أي في الشارع السياسي بشكل عام، ولا عجَبَ في ذلك، فالحراك السياسي في الكويت مشهودٌ له بالنشاط الذي قد يتجاوز المألوف أو المُتعارَف عليه في محيطنا الإقليمي والعربي بشكل عام، لكن حين ينحرف مثل هذا الاختلاف ويتحوّل الى مشاجرة لا يُدرِك أطرافها أي هدف بخلاف النابي من الألفاظ.. والمؤذي من الكلمات تكون المشكلة أبعَد من مجرد وجهة نظر.

لاشك بأن الاختلاف سنّة كونية.. والصراع السياسي والفكري فطرة بشرية.. لا يمكن أن يخلو منها أي مجتمع بشري، لكننا وبكل أسف غالبًا ما نقع في فخ الخلط بين الاختلاف والخلاف، فالأول يحمل اتفاقًا على هدف معيّن أو غاية محدّدة.. مع اختلاف وسيلة تحقيق ذلك الهدف.. ومن هنا فإن الاختلاف لا يحمل في طياته رفضًا للآخر ولا إقصاء له، وإنما يكون هنالك فقط تباين في وسائل تحقيق الهدف، أما الخلاف فهو في أساسه خلاف حول الهدف بحد ذاته، بمعنى أن تختلف غاية كل طرف، وبالتالي يصعب هنا أن يلتقي الطرفان أو أن يتفقا.

الاختلاف إذًا مسألة إيجابية، بل وشرط لتطور أي مجتمع أو أي فكرة، ولعل أشهر المدارس الفكرية قد خرجت من رَحِم ثقافة الاختلاف هذه، أشهرها اختلاف الحسن البصري مع «واصل بن عطاء» في تفسير منزلة مرتكب الكبائر، حيث خرجت من ذلك الاختلاف مدرستان أثرتا الثقافة الإسلامية.

الألفاظ التي استخدمها البعض أخيرًا في الهجوم على خصومه السياسيين تؤكّد لنا اليوم أننا بحاجة ماسّة لتطوير ثقافة الاختلاف بداخلنا جميعًا، خاصة على مستوى أهل السياسة والفكر، فهؤلاء بخلاف دورهم السياسي والتنفيذي أو التشريعي.. يُشكّلون مرآة للمجتمع بشكل عام، ويرسّخون من حيث لا يدرون لأسس هشة وقاصرة فى أسلوب وطرق معالجة الاختلاف سياسيًا كان أم غيره.

عمومًا كما ذكرت لاحقًا، تغيب ثقافة الاختلاف كسلوك حضاري وممارسة راقية من الثقافة العربية بشكل عام لأسباب مختلفة، قد يكون أبرزها طبيعة المجتمعات العربية، التي لا تزال في أغلبها سلطوية، سواء على مستوى مؤسسة الأسرة أو مؤسسة الحكم والإدارة، لذلك فنحن نشهد يوميًا على مسرح الأحداث كيف أن مجتمعاتنا العربية أصبحت تُمارس انحرافًا مخيفًا في ثقافة الاختلاف.. بفعل جملة من الموروثات التعصّبية والقمعية والتسلّطية قد تتفاوت حدّتها بين دموية مفرطة وممارسات سياسية وحوارات وألفاظ خارجة عن الذوق العام.. والأداء الرزين الهادف! ومن منا لم يستَنكِر ما تبثّه القنوات الفضائية العربية من حوارات يتجاوز بعضها إطار الأخلاق، ناهيك عن فروسية الاختلاف.

أمامنا مسيرة طويلة بلا شك قبل أن نقترب من حاجز الاختلاف الناضج، والحوار المتمدّن والبناء السياسي والفكري المُثمِر، لكنها مسيرة بدأت.. وحتمًا سنصل يومًا ونعرف حينها كيف نختلف.. ولكن بأدب!

القبس الكويتية