مقالات مختارة

مياه النيل بين إرث الاستعمار وحاضر الاستبداد

1300x600

ثمة، بادئ ذي بدء، إرث استعماري معقد يكبّل اللجوء إلى القانون الدولي لحلّ النزاع الراهن بين مصر والسودان وأثيوبيا حول اقتسام مياه النيل عموما، وملء سدّ النهضة الذي أنشأته أديس أبابا خصوصا. وهو، ليس من دون مفارقة صارخة، الإرث ذاته الذي يتلاقى مع خطاب هذا النظام الاستبدادي أو ذاك، لجهة توظيف القيم الرمزية وراء منافع النهر وخدماته الحيوية العظمى.


على سبيل المثال الأوّل، كيف يمكن لمصر أن تتكئ على اتفاقية 1902 الموقعة بين التاج البريطاني وأثيوبيا، والتي تحجب عن الأخيرة أيّ حقّ في نهر النيل وتمنعها من تنفيذ أيّ مشروع يخفض تدفق المياه على مصر؛ ما دامت تلك الاتفاقية قد وُقّعت ومصر محمية بريطانية، وقرارها الوطني مستلَب مغيّب؟ ألا تعتبر جميع الاتفاقيات المماثلة، التي أبرمتها السلطات الاستعمارية بالنيابة عن الشعوب، ملغاة حكما بعد الاستقلال؛ تماما على غرار السبب الذي جعل جمال عبد الناصر يؤمم قناة السويس، الشركة ذات الملكية الأصلية البريطانية -الفرنسية؟


نظيرتها اتفاقية 1929، على سبيل المثال الثاني، شملت السودان في مسألة حظر المشاريع المائية على النيل، وجعلت من دول المصبّ صاحبة القرار الأعلى الذي يسري على دول المنبع؛ وكانت، بدورها، وليدة الإرث الاستعماري الذي لا يفرض وصاية بريطانية على مصر فقط، بل يفرض وصاية مصرية على السودان.

 

وفي عهد الضباط الأحرار، وليس الاستعمار هذه المرّة، نصّت اتفاقية النيل لعام 1959 على حصّة لمصر تبلغ 55,5 مليار متر مكعب، وتمنح السودان 18,5 مليار متر مكعب؛ متغافلة، في هذا الشأن، عن حقيقة أنّ اقتسام مياه النيل يستوجب احتساب التأثيرات العميقة والحيوية في البلدان الأخرى ذات الصلة بالنهر العملاق: بوروندي، الكونغو، أرتيريا، كينيا، رواندا، أوغندا، جنوب السودان، وتنزانيا.


مفارقة أخرى، صارخة بدورها، تمثلت في أنّ هذه الاتفاقية لم تُبطل الاتفاقية الاستعمارية لعام 1902، ولم تمنع مصر من إطلاق مشروع السدّ العالي، وسمحت للسودان بإقامة خزان مياه على النيل الأزرق؛ بل لعلّ الإرث الاستعماري الذي كرّسته بريطانيا وإيطاليا، بموجب بروتوكول 1891، استعاد زخما جديدا يتجاهل كذلك حقوق الدول الأخرى ذات الصلة بالنهر العملاق. ولم يكن غريبا أن يتحول اقتسام مياه النيل إلى مفردة عالية التسخين في خطابات التحشيد عند ناصر وأنور السادات وحسني مبارك ومحمد مرسي وعبد الفتاح السيسي، في مصر؛ وأن يعتمد السخونة ذاتها أمثال أحمد عبود وجعفر النميري وعمر البشير وعبد الفتاح البرهان، في السودان؛ وهيلا سيلاسي ومنغستو هيلا مريم ومليس زيناوي وأبي أحمد، في إثيوبيا.


كلّ هؤلاء أدركوا، غنيّ عن القول، الضرورات الحيوية القصوى التي تنفرد بها مياه النيل في مستويات الحياة الاقتصادية والمعيشية والاجتماعية لمئات الملايين من السكان؛ ولكنّ معظمهم ظلّ، في غمرة الإدراك ذاته، عاجزا عن الانتقال بتلك الضرورات إلى مستويات إنمائية ملموسة تترجم ثروات النهر إلى معطيات معيشية وبيئية أرقى، أو تتسم بالحدود الدنيا مما يمكن أن يغدقه النهر العظيم على البشر العطاش إلى خيراته.


ورغم أنّ أثيوبيا يحكمها رجل جاء من صفوف «الجبهة الديمقراطية الثورية» ومُنح جائزة نوبل للسلام سنة 2019، وأنّ السودان الراهن يعيش تجربة تحوّل شاقة ولكنها انطلقت أساسا من انتفاضة شعبية عارمة؛ فإنّ البلدين ليسا، لجهة الاستثمار التنموي العقلاني والصائب لمياه النيل، في حال أفضل من عبد الفتاح السيسي قائد انقلاب 2013 ومشرّع التعديلات الدستورية التي تُبقي أعنّة السلطة في يده حتى العام 2030. وهكذا فإنّ الاستعصاء الراهن في التوصل إلى حلّ يتيح حسن اقتسام مياه النيل ليس تعثرا أو افتقارا إلى مخارج، بقدر ما هو تعبير أمثل عن أنظمة لم تحفظ من الإرث الاستعماري سوى وجوهه القبيحة، وزادت عليها استيلاد نماذجها من استبداد أشدّ قبحا.

القدس العربي