آراء ثقافية

الأبنودي ناثرا

جمع الأبنودي مقالاته التي كتبها في صحيفتي الأخبار واليوم السابع خلال العقد الأخير من القرن الماضي

"لا أحبُّ التمايُز أو التعالي. وإنما أفرح بالسير في الدروب المطروقة والدخول من الأبواب التي تعوّد البشر العاديُّون الدخولَ منها آمِنين." "لم يخطر ببالي يومًا أن أكتُب غير الشِّعر الذي يختار اللحظة والمكان ليتفجّر دون إرادةٍ منّي." "فجأة وجدتُ نفسي وقد غُرِستُ بين كتابات (يوميات الأخبار). لا أدري بالضبط مَن كان وراء الاختيار وما السبب، فلم يَبدُر منّي يومًا ما يدُلُّ على إجادتي لمهنة الناثِر."

هكذا ضربَ أستاذنا الأبنودي رحمَه الله عصافير كثيرةً بحجَرٍ واحدٍ في مقدمة كتاب (آخِر الليل) الجامع لمقالاته المنشورة في صحيفتَي (أخبار اليوم والأسبوع) في مدىً زمنيٍّ يُقاربُ عِقدًا كاملاً هو الأخير من القرن العشرين الملتهب. فهو أوّلاً يكرّس تواضُعه ويضع نفسَه بين الجُموع مؤكّدًا انتماءه إلى (البشَر العاديين)، وثانيًا يربط إبداعَه الشعريَّ بدوافع وراء العقل وفوق القصديّة، فهو يتنصّل من إرادتِه كتابةَ الشِّعر، فكأنّ قصيدتَه مرآة صادقة لما تَجيش به صدور الناس، لا يتدخّل فيما ينطبع عليها من صُوَر، وثالثًا يوحي إلينا مِن طرفٍ خفيٍّ بأنّ ما سنلقاه من مقالاتٍ بين دفّتي الكتاب إن هو إلا بقيّةٌ من شِعره الصادق لم تخضع لإزميل الوزن والقافية، فهي بذلك أدعى إلى أن نقبلَها مطمئنّين لكونِها امتدادًا لِما ألِفناه من إبداعه، ورابعًا يتبرّأ من القُرب من السُّلطة، لاسيّما أنّ عمودًا ثابتًا في الجريدة الرسمية الناطقة بلسان الحكومة في مصر قد يُلقي في رُوع الكثيرين أنّ لصاحبِه سبيلاً ممهدةً إلى مَن بيدِهم الحلّ والعقد، وخامسًا وأخيرًا يعتذر إلينا بلُطفٍ ممّا قد يعتوِر مقالاتِه من تحيُّزٍ أو تسرُّعٍ في إطلاق الأحكام أو عدم إلمامٍ بجوانب الموضوعات التي يناقشُها أو غير ذلك، فهو رجُلٌ شاعرٌ يتفجّر شِعرُه رغمَ إرادتِه، ولا يدَ له في اختيارِه لمهنة الناثر.

لكننا نكتشف الخُدعة الماكرة حين نشرع في قراءة المقالات. نَجد أنفسَنا أمام نثرٍ تتفجّر فيه من آنٍ إلى آخر ينابيعُ البيان العربيّ، ويركن صاحبُه إلى فُصحى معياريّةٍ لا تكادُ تُخطئ.

يتجلى هذا الجمال البيانيّ في عباراتٍ مثل: "نشأتُ في قريةٍ تعيش على الطقوس. لم تخترع طقوسَها وإنما حمَلتها معها بأمانةٍ وحرصٍ، تمرُقُ بها مخترقةً حواجز الأزمنة وتجتاز تضاريسَ القُرون."، "كان العسل الأسود وصديقه ورفيق رحلته المُشّ – سامحهما الله – طعامًا يوميًّا مفروضًا على كل فقراء الجنوب، يسكنان معنا في نفس الدُّور ويرتديان لباسَيهما الفخاريين كعضوين أساسيين من أعضاء الأسرة". وهو إلى ذلك بَيانٌ نشعرُ أنّ مفردات العالَم المحسوس أجمعَها تشكّل روافِدَه، فمن ذلك قولُه عن خُبز البَتّاو الصعيديّ الأصلي: "إنما هو أقسى خُبزٍ يمكن أن تلتقيَه على وجه الأرض، (لُكّةٌ) من العجين تُوضَع في مغرفةٍ وتُرسَل إلى جحيم الفُرن، فتَخرُج مكتسِبةً ثوبًا حَجَريًّا صلدًا كغطاء السلحفاة. كان شكلُ البتّاوَة الصعيديّة أقربَ إلى شكل القنبلة اليدوية!"

وفي ثنايا هذا البيان الساحِر الشائق تتسلّل تأمّلاتٌ بالغةُ العمق في مسائل شتّى أرَّقَت شاعرَ مصر الكبير، فمن ذلك قولُه في مقال (وأهلي وإن ضَنُّوا): "والانتماء للأهل له ثمنٌ قد يكونُ فادحًا، وله شروطٌ أهمُّها أن توجد دائمًا صيغة للاتفاق بين الطرفين مهما كانت درجة الاختلاف. ذلك يتطلّب نوعًا من التواضع الفكري والمرونة الإنسانية التي قد لا توفرُهما لنا الحرية الفكرية التي عشنا نمارسُها من خلال التجوال في أفكار الدنيا وثقافات أممٍ نمَت في أجواء أكثر تحررًا وانفتاحًا وصراحة". وقولُه في مقال (هؤلاء علَّموني) عن (إبراهيم أبو العيون) الذي تغيّر سلوكُه تجاهَ أرضِه وشجرة المشمش العزيزة عليه تحت وطأة العدوان الصهيوني في نكسة يونيو 1967، حيث اجتثّ الشجرة من جذورِها ليواري بها بدنَ دبّابةٍ مصريةٍ عن عيون العدو: "تهاوَت الكتبُ على رأسي، وسقطَت المُطلَقاتُ والمعلوماتُ الكسولةُ الساذّجة التي ألقمَنا المثقفون إياها فابتلعناها بتعجُّل ونحن نهرولُ نحو الفهم الكُلّيّ مُضَحِّين بالفهم الحقيقي الذي تمنحه المراقبة الصادقة لتفاصيل واقع الفلاّحين."

وإلى جوار البيان الساحر والتأمل العميق تقف السخرية اللاذعة، لاسيّما من النفس، لتُغريَنا بإدراج شطرٍ لا بأس به من هذه المقالات في الأدب الساخر، أو بالأحرى تمثّل السخرية ضفيرةً مهمةً في تكوين المقاربة النثرية الأبنودية للمجتمَع والعالَم. هكذا يقول في مقال (البلابيصا) عن عيد شمّ النسيم في الصعيد والأغنية التي كان يرددها في طفولته مع أقرانه (يا بلابيصا. بلبِص الجِلبة. يا علي يا ابني. قوم بنا بَدري. دي السنة فاتت. والمَرَة ماتت. والجمَل بَرطَع. كسّر المدفع): "قيل لنا إنّ (هيلاليصا) كلمة فرعونية، أما (بلابيصا وبلبصي) فلم يَروِ فضولي نحوهما أحد، بل إن البيت الأول يزيدك إبهاما. الفعل والفاعل والمفعولُ به كلماتٌ مجهولة، فما هذه الجِلبة التي سوف تبلبصُها البلابيصا؟!" أما في مقال (حَق الحمار راح) فيحكي لنا حادثًا عاينَه وهو في السابعة، بطلُه رجُلٌ اكتشف خلال وجودِه في احتفالات مولِد (سيدي عبد الرحيم القنائيّ) ضياعَ المال الذي باعَ به حمارَه فأخذ يصيح ويولول مناديًا امرأته الغائبةَ (نفيسة)، ويقول الأبنودي: "وخلالَ تلك اللحظاتِ كان لا يَني يردد جملتَه الخالدةَ التي يعرفُها معظم أصدقائي من كثرة ما ردّدتُها في المواقف المشابهة حين أفقد شيئًا هامًّا (حق الحمار راح يا نفيسة)!". ونرى الأبنودي في مقالٍ آخر يردد هذه الجملة آسِفًا وغاضبًا لتآمُر الإدارات الأمريكية على العراقِ مثَلا!

 



وثَمّ ضفيرةٌ أخرى مهمةٌ في تكوين ما أسميناه بالمقاربة الأبنوديّة، هي ضفيرةُ الرحلة. هناك مقالاتٌ تندرج بأكملِها في أدب الرحلة، لكنّها بحُكم ضيق المساحة تركّز على جانبٍ واحدٍ في الأرض التي يحكي عنها. ففي (صباح الخير يا أسمرة) يتحدث عن رحلته في نهاية السبعينيات إلى إريتريا لإقامة مهرجانٍ شِعريّ، وهو يتساءل أمام ذكرياتِ لقاءاته الودودة بالإريتريين عن مشهد الصيّادين المصريين المقبوض عليهم هناك لاعتدائهم على حُرمة المياه الإقليمية لإريتريا في التسعينيات. وفي (المعركة الانتخابية) يقصّ علينا ما عاشَه في مدينة بلاك پول Blackpool الإنجليزية من فعاليات المؤتمر السنوي لحزب العُمّال البريطاني، وبخفّة دمِه المميزة يعقد مقارنةً بين مخيّمات الحزب وأجواء مؤتمره الاحتفالية من ناحيةٍ وموالد أولياء الله الصالحين في صعيد مصر من ناحية، والرسالة المتأرجحة بين الإضمار والتصريح هي مُناخ الحرية الحزبية الذي افتقدَته مصر مع سيطرة الحزب الوطني الديمقراطي في عهد مبارك. أمّا في (ليالي الشغل في ڤيينّا) فيغوص في تأملاتِه بعد أن يصف ما تغصّ به العاصمة النمساوية من جَمال: "لابُدّ من الهروب من هذا الجَمال إذ لا طاقة لبشرٍ على احتماله. ربما لذلك يأتون إلى بلادِنا وإلى بلادٍ تشبه بلادَنا لإراحة العين وإسكات صخب الجَمال، الجَمال الذي سلبهم القدرة على المقاومة وأعطاهم الرهافة والرقة وسهّل لهم مسألة الانتحار لأسبابٍ تبدو لنا مضحكةً نحن المُطَعَّمِين ضد أنواع النوازلِ كافّةً وضربات الأيام. نحن الذين أثخَنتنا الشدائدُ وسلَبتنا حتى لحظات التأمل." هنا تحديدًا نشهدُ تضفير التأمُّل الفلسفيّ الهادئ والسخرية التي تتحول إلى مرارةٍ وأسفٍ على إنسان مصر وإنسان ڤيينّا وضعف الأول أمام البلايا والثاني أمام صُنع يديه، فضلاً عن ضفيرة الرحلة الواضحة. لكن حتى حين تغيب الرحلةُ بمعناها الاصطلاحيّ تَحضُر في مقالاتِه الأخرى التي يغوص فيها في مكانِه وفي ذكرياتِه، فنرى خاصّةً من خواصّ الرحلة تتجلى في استفاضتِه في الوصف، وهي استفاضةٌ تتميز بأنها تبعثُ من الكلمات صورةً ضوئيةً أو سينمائيةً واقعيةً لما يصفه الأبنودي. نرى ذلك في مقالِه (البلابيصا) حين يقول: "في الليلة الموعودة نشتري صلباننا وأدواتها: عود قصب، برتقالة، أربع شمعات، ونبدأ بوضع الشمعات الرفيعة كلٍّ في ثقبها، بعدها نغرس البرتقالة في العُود الحادّ الصاعد الذي يتوسط الشمعات الأربع، ثم نغرس كل ذلك في رأس عُود القصب بالعُود الجريديّ الحادّ النازل."

ويُطِلّ علينا الهَمّ الشِّعري بين الفينة والفينة في هذه المقالات، ففي (ورقة التوت) يهجم هجومًا عاصفًا على قصيدة الحداثة: "كلما احتدمَت المعاركُ واشتدت الأزماتُ وأُهِينَ الوعيُ وانهارت أطلال الأحلام الفقيرة المتبقية كأشلائنا، أمعنَت القصيدة العربية الحديثة في الهرَب والتخلّي، تخلّصَت من ضميرِها وتملصَت من دورها التاريخي، نائيةً بنقائها عن أدران المساهمة وشبهة المشاركة التي تحتاج إلى تفهُّم وإفهام وتفاهُم، متحاشيةً التُّهَم العصرية كالمباشرة والفجاجة ومؤالفة المشترَك وامتطاء اللغة المألوفة والصيغ المعروفة مسبقًا والتضحية بالذاتي في مقابل العام والمشترَك!"

هكذا يفصح الأبنودي عن موقفِه دون موارَبة، فهو منحازٌ تمامًا إلى مخاطبة وعي البسطاء، وهو ضدّ الغموض والإغراق في التجريب الشِّعري البعيد عن لحم الحياة.

أمّا في مقالَيه (في حضرة سيدي أحمد بن عروس) و(ابن عروس ليس صاحب مربّعات ابن عروس!) فيبدأ مشروعًا تحوّل فيما بعد إلى كتاب (الشاعر المصري ابن عروس ليس مصريًّا وليس شاعرا). والمقال مبنيٌّ على رحلة الكاتب إلى تونس في مطلع السبعينيات، حيث اكتشف بالصدفة مقامًا لوليٍّ يُدعى (أحمد بن عروس) يحفظ له بعض التونسيين مربعاتٍ شِعريةً قريبةً من اللهجة الصعيدية، فيظلّ الأبنودي يطارد شبحَ هذا الرجُل ليكتشف أنّ أصل المربعات لصوفيّة المغرب العربي، والرجُل نفسَه تونسي.

وبعد، فليس هذا إلاّ غيضًا من فيض ما يُمكن أن يُقال عن تراث الأبنوديّ النثريّ. ولعلّ مِن بين المباحث المهمّة التي تبدو لي مهمَلةً وجديرةً بالالتفات إليها علاقةَ مقالات الأبنوديّ بمُنجزِه الشِّعري الكبير، وجدل الهويّات في تراث الأبنوديّ الشعري والنثري. لا ننسى أنّ هذا الرمز البالغَ المصرية في شِعرِه حين شمّر لكتابة النثر أخرجَ لنا مقالاتٍ تمتاحُ من بيان العربية الفصحى وتتخذها شعارًا ودثارًا، أي أنّ للعامّيّة المصرية عندَه مجالاً وللفصحى مجالا. والذي أعتقدُ ألّا مِراءَ فيه أنّ انتماءيه العروبيّ والإسلاميّ مكوّنان أصيلان في شخصيته الإنسانية والإبداعية، يشهد بذلك اهتزازُ قلبه وخفّة قلمِه للتنويه بمآسي العراق، ومقالُه (إنجاب التوائم) عن المصري (سليمان خاطر) والأردني (أحمد الدقامسة) في مواجهة الاستفزاز الصهيوني.