قضايا وآراء

فلسطين.. الحق الذي لا يسقط بالتقادم

1300x600

أصبح معروفا دوليا أن القضية الفلسطينية أقدم حالة احتلال واستيطان في التاريخ، وأنها نموذج صارخ لاغتصاب الأرض ومن عليها عنوة وبإرادة القوى الكبرى، التي أرادت لها أن تكون "وطنا بديلا" للشتات اليهودي، وملاذا لتنفيذ مشروع إقامة "دولة إسرائيل الكبرى"، كما تصورتها الصهيونية منذ نهاية القرن التاسع عشر ومستهل القرن العشرين. ومع توالي السنين والأعوام، وتراكم هزائم العرب ونكباتهم، شرع يتشكل وعي مفاده "نهاية القضية الفلسطينية"، وخروج النضال من أجل تحريرها من الاستيطان من التاريخ، أي طي صفحة الحديث عن ملف موسوم "القضية الفلسطينية"، وعن شعب اسمه "شعب فلسطيني"، صاحب قضية، ومالك حق، لا يسقط، ولن يسقط بالتقادم.

يستمد الحق الفلسطيني مشروعيته من أكثر من مصدر، فالأرض ظلت تاريخيا فلسطينية، أقام فوقها أهلها العمران، واستمروا متعايشين ومتسامحين متآزرين، ترمز إلى ديمومتهم في التاريخ عاداتُهم وتقاليدُهم، ونمطُ عيشهم، وأهازيجُهم وفنونهم، والحجارةُ التي تميز واجهات منازلهم، والمزاج العام الذي يطبع الإنسان الفلسطيني ويمدُّه بالتميز والخصوصية عن غيره من الشعوب والأقوام. فحتى وقت ليس بالبعيد لم يكن للوجود اليهودي حضور لافت في فلسطين، كانت أرض فلسطين التاريخية مأهولة بأصحابها، مميزة بأسماء حواضرها ومدنها وقراها وبلداتها، تتساكن فيها المساجد إلى جانب الكنائس.

مع توالي السنين والأعوام، وتراكم هزائم العرب ونكباتهم، شرع يتشكل وعي مفاده "نهاية القضية الفلسطينية"، وخروج النضال من أجل تحريرها من الاستيطان من التاريخ، أي طي صفحة الحديث عن ملف موسوم "القضية الفلسطينية"، وعن شعب اسمه "شعب فلسطيني"

أما القدس التي تعود عروبتها إلى ستة آلاف سنة، فقد ظلت حاضنة كل الأديان، وقبلة كل الباحثين عن سلام الروح وسكينتها. لذلك، لا يتقبل عاقل موضوعي غير أن "إسرائيل" من إنشاء الحركة الصهيونية، ودعم القوى الكبرى، وفي مقدمتها بريطانيا وفرنسا وأمريكا. فالصهيونية وفرت الأسانيد والأساطير عن "أرض الميعاد"، وسادة الغرب شجعوا على خلق "الوطن القومي لليهود فوق أرض فلسطين"، والطرفان معا تكاتفا من أجل زرع هذا الكيان، مستفيدين من الوهن التاريخي الذي ألم بالمنطقة العربية، وعرّض إمكانياتها في الصمود والتصدي للانكشاف والعراء.

بدأ الظهور العلني الرسمي لـ"إسرائيل" بالإعلان عن قرار التقسيم، الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1947 (القرار 181)، وتأكد أكثر بحصول بالنكبة الأولى حين انهزمت الجيوش العربية سنة 1948، وتمّ تهجير قرابة 800 ألف فلسطيني من ديارهم قسرا في اتجاه دول الجوار. ومنذئذ توالى مشروع قضم الأراضي الفلسطينية، لتصل الآن إلى ما لا يتجاوز 15 في المائة من أراضي فلسطين التاريخية، والتي - على قلتها - لا تعدو أن تكون جيوبا محاصرة بالطرق الالتفافية، والحواجز العسكرية، والجسور والجدران العازلة للتواصل البشري والإنساني بين المدن والبلدات الفلسطينية. أما غزة فتحولت إلى سجن كبير، مقطع الأوصال، بدون حد أدنى من شروط الحياة الكريمة.

إن المتابع لتطور حركة الاستيطان الإسرائيلي في فلسطين التاريخية على مدار 73 سنة من حصول النكبة، يخرج باستنتاج مفاده أن استراتيجية الحركة الصهيونية، ومن خلالها إسرائيل، تروم التشطيب على اسم فلسطين من الخريطة، بالاستيلاء على ما تبقى من الأرض، وطمس معالم الهوية، والتاريخ، والإنسان.
يُدرك الإسرائيليون قبل غيرهم، أن إسقاط حق الفلسطينيين في أرضهم مشروع فاشل، وغير قابل للإنجاز في كل الأحوال، وأن قوتهم التي بنوها بدعم مناصريهم من الغرب لن تستطيع ثني إرادة ذوي الحق في استرداده

يُدرك الإسرائيليون قبل غيرهم، أن إسقاط حق الفلسطينيين في أرضهم مشروع فاشل، وغير قابل للإنجاز في كل الأحوال، وأن قوتهم التي بنوها بدعم مناصريهم من الغرب لن تستطيع ثني إرادة ذوي الحق في استرداده، لأنهم أصحاب الحق، وصاحب الحق هو المنتصر، كما تُبت وقائع التاريخ. لذلك، حين أوقعت إسرائيل بالعرب هزيمة 1967، وهي في الواقع نكبة أخرى، لم تنجح في التشطيب على فلسطين. قضمت أجزاء جديدة من أرضيهم، وأراضي دول الجوار، ولكن ظل الفلسطينيون يقاومون، ويكافحون من أجل إثبات بقائهم، وقد برهنوا على ذلك من خلال انتفاضتهم المباركة الأولى والثانية.

تواجه فلسطين، في سياق استحضار ذكرى النكبة الأولى (15 أيار/ مايو 1948) حرب إبادة جماعية من قبل الآلة العسكرية الإسرائيلية، وقد قدمت في أقل من أسبوع عشرات الشهداء ومئات الجرحى والمنكوبين، ناهيك عن الخسائر في البنيات التحتية والممتلكات، وهي تقاوم بالذات، وبكل ما أوتيت من إمكانيات وقوة، دمار الإسرائيليين الذين أشعلوا الحرب باقتحام حرمة المسجد الأقصى، ولم يحترموا شعائر المسلمين وحقهم في القيام بعبادتهم كما ألفوا منذ قرون.

 

صحيح أن ميزان القوة بين طرفي الصراع غير متكافئ، ومختل لصالح إسرائيل، وصحيح أيضا أن هناك تأرجحا بين الصمت الدولي غير البريء، والانحياز المكشوف لإسرائيل من جهة، وتصاعد أصوات التنديد في عواصم العالم والبلاد العربية من جهة أخرى، إلا أن البربرية الإسرائيلية ما زالت مستمرة، ومحرّض عليها من قبل قادتها، وفي مقدمتهم رئيس حكومتها، إلا أن المقاومة الفلسطينية لم تفتر أو تتراجع حدتها، بل ما زال منسوبها عاليا ومستمرا، بل وواثقا من أن النصر حليفها، لأنها صاحبة الحق أولا وأخيرا.

تذكرت وأنا أتابع، بألم كبير، ما يجري القدس وغزة وفلسطين عموما، مقالا قرأته قبل سنوات خلت لكبير الصحفيين العرب "كامل زهيري" (1927-2008)، بعنوان: "مائة سنة من المفاوضات مع إسرائيل"، يؤكد من خلاله خطورة الوجود الإسرائيلي في المنطقة العربية، وصعوبة، إن لم نقل استحالة توصل العرب إلى مفاوضات سالكة، وذات نتائج إيجابية مع الإسرائيليين.. لذلك إذا كان هناك من درس مستخلص مما يجري في فلسطين، فهو أن الرهان على تحقيق تفاهمات مع إسرائيل، تحت أي مسمى، لا يعدو أن يكون ضربا من الطوباوية والمثالية ليس إلا.