كتاب عربي 21

قيس سعيد.. الرئيس الحيران بين المثالية ومتاهات السياسة

1300x600
يتعرض الرئيس التونسي قيس سعيد إلى قصف شديد من مختلف الجهات. وكلما حاول أن يخرج من مطب يسقط في مطب أكثر عمقا واتساعا. مع ذلك يواصل بإصرار التمسك بحلمه الذي أوصله إلى رئاسة الجمهورية، غير عابئ بتضاريس الواقع أو باتساع دائرة الخصوم، وغير مهتم بتراجع شعبيته حيث خسر حتى الآن ثقة نصف الناخبين. فإلى أين يسير الرجل؟ وكيف سيكون مصيره؟

لقيس سعيد صديق قديم يعرفه منذ الجامعة اشتهر باسم "رضا لينين"، بحكم شغفه السابق بالماركسية اللينينية. وقد أسهم من موقعه في الدفاع عن سعيد أثناء الحملة الانتخابية حتى ظن الكثيرون بأنه سيكون رجل الظل في قصر قرطاج، لكنه بقي بعيدا عن ممارسة السلطة، واكتفى بدور الناصح لصديقه القديم.

وقد حذره كثيرا من غواية الأحزاب، وأشعره بكونها قادرة على إدخاله في متاهات لا نهاية لها إذا ما استجاب لمناوراتها وصراعاتها. ورغم أن الرجلين يتفقان حول ضرورة تغيير النظام السياسي والتوجه نحو تعليق العمل بدستور 2014، وحل البرلمان وتقليص دور الأحزاب، إلا أن النتيجة حتى الآن تؤكد أن سعيد قد عجز عن إضعاف الأحزاب، أو تحجيم دورها رغم اهتزاز ثقة التونسيين في عموم الطبقة السياسية.
النتيجة حتى الآن تؤكد أن سعيد قد عجز عن إضعاف الأحزاب، أو تحجيم دورها رغم اهتزاز ثقة التونسيين في عموم الطبقة السياسية

في المقابل، نجح الرئيس في خلق مناخ سلبي ساعده على تعطيل حركة الأحزاب والمؤسسات بما يملكه من صلاحيات، إضافة إلى توظيف فصول من الدستور لحماية نفسه وإثبات قدرته على عرقلة خصومه وتشتيت جهودهم، وإفشال ما يعتبره مؤامرات تصاغ ضده داخل الغرف المغلقة. وحتى يسحب من الأحزاب المخاصمة له سلاحا ثقيلا كانوا ينوون حسب اعتقاده استعماله ضده من أجل إزاحته، قام بتعطيل المحكمة الدستورية.

واليوم يسعى سعيد نحو إلغاء دستور 2014 الذي يطلق عليه التونسيون عبارة "دستور الثورة"، والعودة من جديد إلى دستور سنة 1959. فخلال المساعي الأخيرة التي يقوم بها الأمين العام لاتحاد الشغل نور الدين الطبوبي، طلب منه الرئيس إبلاغ هشام المشيشي تغيير أربعة وزراء حولهم "شبهات فساد" لتتمكن حكومته من القيام بنشاطها العادي، وطلب منه أيضا العودة إلى دستور الجمهورية الأولى.

قبل المشيشي العرض بعد استشارة حزامه السياسي الذي فوجئ بالسيناريو الجديد لرئاسة الجمهورية. رغم ذلك، أعاد سعيد الاتصال بالطبوبي ليعلمه بكونه قد تراجع عن عرضه، وتمسك من جديد باستقالة الحكومة بكاملها كشرط وحيد للانتقال إلى مرحلة أخرى.

لماذا تراجع قيس رغم أن العرض الذي تقدم به شخصيا من شأنه أن يغير النظام السياسي بشكل كبير لو فعلا قبلت به الأحزاب المناهضة له؟
لماذا تراجع قيس رغم أن العرض الذي تقدم به شخصيا من شأنه أن يغير النظام السياسي بشكل كبير لو فعلا قبلت به الأحزاب المناهضة له؟

لعل السبب الرئيسي لتذبذب مواقفه يعود إلى شكه العميق في جدية عموم الأحزاب ومصداقيتها، وفي مقدمتها حركة النهضة. لقد فكر في المسألة طويلا، وتخوف من أن خصومه قد يقبلون العرض الذي قدمه، وبعد تثبيت الوزراء الذين يريدونهم ويخلصون بذلك الحكومة من الفيتو الرئاسي، يثيرون بعد ذلك نقاشا عريضا من أجل تعديل اقتراح قيس سعيد، وإدخال التعديلات التي يرونها حتى يحولوا دون هيمنة الرئيس على دواليب الدولة، وعدم السماح له بإضعاف البرلمان وتحجيم الأحزاب، وحصر نشاطها في منطقة صغيرة جدا، وبذلك تصبح ثانوية لا وزن لها. فسعيد يعتقد جازما أن دور الأحزاب انتهى تاريخيا، ولم يعد لها من أدوار سوى التآمر والمناورة من أجل حماية مصالحها الضيقة على حساب الدولة ومصالح الناس.

كيف يمكن مساعدة قيس سعيد على التخلص من حالة الشك المزمن التي تلازمه من قبل أن يصعد إلى منصة الرئاسة؟
حتى الأحزاب التي ساندته في معاركه السياسية ضد الأغلبية البرلمانية لم تستقر على رأي واحد

حتى الأحزاب التي ساندته في معاركه السياسية ضد الأغلبية البرلمانية لم تستقر على رأي واحد. فمن داخل "التيار الديمقراطي" هناك من بدأ يميل نحو سيناريو دستور 59 ويرى فيه حلا ممكنا، غير أن قيادات فاعلة داخل حركة الشعب، مثل النائب خالد الكرشي، اعتبرت أن تعديل النظام السياسي أو الدستور "لا يتم إلا وفق الآليات التي ضبطها دستور 2014"، وأن "كل دعوة مختلفة عن ذلك لا تلزم إلا أصحابها"، وأن "حركة الشعب متمسكة بالشرعية الدستورية".

رغم شخصيته القوية والمعاندة، إلا أن الرئيس سعيد يجد نفسه حتى الآن مقيدا ليس فقط بدستور كاره له، ولكن أيضا بأحزاب ليست مستعدة لتقدم على انتحار جماعي من أجل إرضاء جامعي نظيف ومستقيم أخلاقيا؛ يظن بأنه لو أصبحت جميع الصلاحيات بين يديه لتمكن من أن يجعل من تونس "جنة فوق الأرض"!!..